قراءات في نتائج الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة - بين البراغماتية الحقوقية والبراغماتية الحاجاتية

لم تكن نتائج الانتخابات الأخيرة وخاصة تراجع قوة الأحزاب العربيّة من خمسة عشرَ مقعدًا إلى عشرة مقاعد، مفاجئة للكثيرين، حيث إنَّ استطلاعات الرّأي الأخيرة أشارت إلى هذا الاتجاه الّذي نتج بالضرورة عن الصّراعات الدّاخلية بين مركبات المشتركة وتحديدًا الموحدة والمركبات الثلاثة الأخرى: الجبهة، التّجمع والعربية للتغيير في الأشهر الّتي سبقت الانتخابات.

في هذه المحاولة المقتضبة لقراءة النتائج سأقوم بتسليط الضّوء على بعض النّقاط المحورية:


1. المحور النّفسي: في أجواء الشّرذمة الاجتماعية والإقصاء السّياسي وآفة العنف الّتي باتّت تفتك في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل بالسّنوات الأخيرة، كان توحيد الصّفوف العربيّة وتكاتف القوى السّياسية من خلال تشكيل القائمة المشتركة بمثابة مطلب شعبي ترقبه الجمهور طويلًا، مما أفضى إلى الالتفاف حولها ودعمها بشكل لافت لا سيما عند إقامتها عام ،2015 وثم في انتخابات آذار 2020 بحصولها على خمسة عشرَ مقعدًا وتحولها إلى القوة الحزبيّة الثّالثة في الكنيست. ما يؤكد أنَّ وحدة صف المركبات الحزبيّة العربية كانت وما زالت مطلبًا جماهيريًا أساسيًا ربما كان الأكثر أهمية من المطالب الحياتية العينية كالميزانيات أو قضايا الأرض والمسكن.

تفكّك القائمة المشتركة كان بمثابة ضربة قاسمة للمطلب الجماهيري وتوقعاته من قيادته البرلمانية، مما أدى إلى الشّعور بخيبة الأمل والإحباط العميق. لا شك في أن ما زاد الطين بلة هو أسلوب تعامل قيادات الأحزاب مع عوامل ومسببات هذا الانفصال وما عقب ذلك من تناحر وتراشق للتهم والعنف الكلامي المتبادل على مواقع التّواصل الاجتماعي، التي تميزت بالتّكفير تارة والتّخوين تارة أخرى وهي تهم لطالما انتهجتها القيادات كلما تعارضت الآراء واختلفت المسارات. هذا الأسلوب غير النّاضج إن جاز التّعبير جعل النّاخب العربيّ يشعر بالنّفور حيال هذه التّصرفات وبالتالي قام بمعاقبة من اعتبرهم المسؤولين عن هذه الصّراعات، من خلال الامتناع عن التّصويت الأمر الذي أدى إلى انخفاض نسبة التّصويت إلى أقل من 46%.

2. المحور العملي الاستراتيجي: التّخبط بين البراغماتية الحقوقية والبراغماتية الحاجاتية كان ومازال محطَ نقاشٍ داخل الأقلية الفلسطينية منذ ثلاثة عقود وتحديدًا بعد اتفاقية أوسلو، حيث تمحور النّقاش حول النّضال المدني الّذي يضمن حقوق مدنية، والنّضال السّياسي الّذي يتعامل مع الحقوق السّياسية وفي مقدمتها الاعتراف بالأقليّة الفلسطينيّة كأقليّة قوميّة في إسرائيل.
الخطاب البراغماتي عمومًا ليس جديدًا على السّياسة والأحزاب العربية، فهناك إدراك شبه تام بأن موازين القوة بين الأقلية القومية ويهودية الدّولة وخصوصية واقع الأقليّة الفلسطينية تقتضي خلق استراتيجية تعتمد على النّهج البراغماتي. باعتقادي هناك نوعان من البراغماتية: البراغماتية الحقوقية الّتي تعتمد على بناء رؤية واضحة لحقوق الأقليّة الفلسطينيّة كأقليّة قوميّة، وترى أنّ كلّ تعامل مع قضاياها يجب أنْ ينطلق من هذا الوعي ومن هذه الخصوصيّة، وبذلك يكون توظيف خطاب الحقوق والسّعي لأحقاقها نهجًا براغماتيًا حقوقيًا. هذا النّهج تميّزت به القائمة المشتركة، لا سيما من خلال خطاب رئيسها أيمن عودة، أما البراغماتية الحاجاتية تتمثل في تبني خطاب الحاجات. في واقع الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وهدم البيوت ومصادرة الأراضي خصوصًا في النّقب وآفة العنف الّتي باتت تفتك بالنسيج الاجتماعي وتهدّد أمن وسلامة الأفراد. كما أصبح خطاب الحاجات وكأنه الخطاب الأكثر مسؤولية وجدية وهذا الخطاب تبنته القائمة الموحدة، حيث استطاعت من خلال كوادرها الميدانية وعلاقتها المباشرة مع النّاس قراءة الحالة المأزومة التي يمر بها المجتمع الفلسطيني حيث رفعت شعار "حل المشكلة وسد الحاجة " من خلال التّعامل مع الحاجات الملحة.

حصول القائمة الموحدة على أربعة مقاعد لم يكن فقط نتيجة تبني خطاب البراغماتية الحاجاتية فقط فخطاب الحاجات وحده لا يضمن الفوز، خصوصًا في ظلّ الوعي والحراك السّياسي الّذي يشهده مجتمعنا لا سيما بعد هبة أكتوبر وإنما قامت القائمة الموحدة بأدلجة الدّين وتوظيف العادات والتّقاليد وادعاء الحفاظ والدّفاع عنها لحشد الجماهير، لمنافسة البراغماتية الحقوقية الّتي تبناها أيمن عودة.

أدلجة الدّين وشرعنته والتّرويض "لسياسة فن الممكن" الّتي اتبعها منصور عباس من جهة، واستغلال أزمة "قوانين المثليين" وتوظيفها للطعن في شرعية القائمة المشتركة وعلى رأسها أيمن عودة من جهة أخرى أدت إلى تجنيد الجماهير، خاصةً المحافظة منها للقائمة الموحدة.

وفي النقب على وجه الخصوص حيث الغالبية المحافظة تتسم وما زالت بالولاء والانتماء القبلي الذي كان وما زال عاملًا هامًا في الانتخابات البرلمانية وحاسمًا كذلك في الانتخابات المحلية، شكلّ الخطاب الدّيني والخطاب المحافظ عاملًا أساسيًا تغلب على العامل القبلي. أضف إلى ذلك، وجود ممثل عن النّقب وهو سعيد الخرومي في موقع مضمون في القائمة، في حين أن تمثيل النّقب في القائمة المشتركة لم يتسم بالواقعية ولم يتناسب والحالة النّضالية الّتي يعيشها أهل النّقب التي تحتم وجود تمثيل يتناسب مع هذا الواقع. كل هذه العوامل المجتمعة ساهمت أيضًا في توجه النّاخب "النقباوي" لدعم القائمة الموحدة بشكلٍ ملحوظ.

باختصار إنَّ استبدال البراغماتية الحقوقية بالبراغماتية الحاجاتية وإعطاء أولوية لما يسمى الثّوابت الدّينية على الثّوابت الوطنية. وحالة خيبة الأمل التي أفرزها انشقاق القائمة المشتركة وما تلاها من سلوكٍ غير ناضج في صفوف قادة الأحزاب، أدت جميعها مكتملة إلى تراجع التّمثيل البرلماني العربي.

 


كاتبة المقال: د. أمل الصانع - الحجوج وهي محاضرة في قسم العمل الاجتماعي في جامعة ماكجيل McGill University في مونتريال كندا

د. أمل الصانع – الحجوج

محاضرة وباحثة ومديرة عامة لمنظمة PLEDJ الكندية

شاركونا رأيكن.م