عالم المبادرات التكنولوجية نجاح تجربة الناصرة وتأثيرها على المجتمع العربي
تتفق الدراسات والأبحاث الاقتصادية على أهمية الريادة والمبادرات التكنولوجية والحداثة في تعزيز دور المجتمعات في العالم. وتفنّد هذه الدراسات الاسقاطات الإيجابية لهذه المحاور على الأبعاد المختلفة في حياة كل مجتمع والعالم ككل وتخص بالذكر تأثيرها الإيجابي بعيد المدى على الأقليات. هي الوسيلة لخلق فرص عمل جديده تعتمد على الكفاءات والقدرات وتعزيز المشاركة في الاقتصاد وهي المسبب - في الكثير من الحالات – في رفع مستوى المعيشة لما فيها من دوائر تأثير عميقة على المجتمع والصناعات والمصالح العاملة إلى جانبها. وربما تكون دولة اسرائيل مثالًا بارزًا في تبني آليات لتطوير هذه الصناعة منذ سنوات التسعين وجعلها المحرك الأساسي للاقتصاد والتصدير، ما جعلها تتبوأ مركزًا متقدمًا وتصبح محط أنظار.
كان مجتمعنا العربي مغيبًا عن كل هذا، لأسباب عديدة تستحق وقفة خاصة لتحليلها ودراستها. المحاولة الجدية والمثمرة الأولى لتوطين الحداثة وصناعة المبادرات التكنولوجية وجعلها جزءًا من صناعات مجتمعنا كانت في سنه 2011 مع إطلاق حاضنة الناصرة للأعمال ثم، بعدها بسنتين، إطلاق أول مسرع تكنولوجي للمبادرات في المجتمع العربي.
انطلقت هذه التجربة مع مجموعه من المبادرين والمبادرات الرياديين والرياديات الأكفاء وأصحاب الفكر والقدرات الكبيرة. ومع انطلاقها كان الالتزام غير المكتوب من جانب جميع المشاركين "ممنوع أن نفشل" بمثابة هدف أسمى. شكّل ذلك تحديًا أخذناه على عاتقنا لنبرهن لكل من راهن على فشلنا، أننا نستطيع. كنا نعلم في داخلنا، علم اليقين، أن نجاح التجربة في الناصرة سوف يحفز الآخرين على خوضها. ليس هذا فقط، بل إن نجاح التجربة وخلق شركات ناشئة تكنولوجية وفرص عمل ستشكل عوامل من شأنها أن تمنع المؤسسات الحكومية من التهرب من دعم وتخصيص ميزانيات لمشاريع مشابهة في مجتمعنا. وقد أثبتت هذه التجربة بشكل لا يشوبه أي شك أن المجتمع العربي يزخر بالطاقات والإمكانيات والأفكار والأبحاث والرياديين والمبادرين الأكفاء، وأن ما يمنعه من النمو والانطلاق هو شح الفرص واستبعاده من النظام البيئي الداعم (الايكوسستم) والحلقات ذات التأثير في هذه الصناعة.
أثارت محاولة الاندماج مع النظام البيئي الداعم في الدولة ردود فعل مختلفة من جانب مختلف الأطراف، منها المؤيد والداعم ومنها الرافض، ولكن في النهاية كان لا بد من خلق هذا الرابط ليتسنى لنا الاستفادة من الخبرات والعلاقات والروابط والتي بنيت في الدولة منذ بدأت فيها هذه الصناعة في سنوات التسعين.
خلال السنوات 2011 ـ 2020 استطاع المبادرون من مجتمعنا إطلاق 70 شركه تكنولوجية ناشئة في شتى المجالات، وتأمين 220 مليون دولار من استثمارات ومنح من سلطة الابتكار وخلق 400 فرصة عمل جديده كما تم امتلاك شركتين ناشئتين (إكزت) من قبل شركات عالمية.
كان لهذا النجاح دوي قوي في الوزارات المختلفة وخاصة وزارة الاقتصاد وسلطة التحديث وسلطة التطوير الاقتصادي. وفي سنة 2019 أطلقت وزارة الاقتصاد 10 مشاريع جديدة في المناطق النائية جغرافيًا واجتماعيًا تبنت النموذج والنمط والآليات التي تم تطويرها في الناصرة. ولا أريد الخوض هنا كثيرًا في فرحتنا وشعور الفخر الذي انتابنا في الناصرة عندما قررت الوزارة اعتماد الآليات التي قمنا بتطويرها، بالرغم من التجربة الغنية للنظام البيئي العامل في الدولة.
لم تقتصر الأمور على ذلك، فقد رأت بعض دول العالم في مشروع الناصرة نموذجًا تتبناه للعمل مع الأقليات المحلية لديها. كُتبت العشرات من المقالات عن هذه الآليات، إضافة إلى ثلاث دراسات أكاديمية لطلاب لقب ثانٍ ولقب ثالث في جامعات أوروبية وأمريكية.
ثمة لنجاح تجربة الناصرة أبعاد عديدة أهمها أولًا أنّ لغة الهايتك والمبادرات التكنولوجية أصبحت متداولة في مجتمعنا ولم تعد غريبة عنا. ثانيًا، أن السلطات المحلية العربية أضحت تبادر إلى إقامة مشاريع مشابهة لتعزيز روح المبادرة. وثالثًا، أن مؤسسات الدولة ووزاراتها أدركت حجم الإمكانيات الموجودة في المجتمع العربي وأهمية دعمها وتطويرها، الأمر الذي يعود بالفائدة الكبيرة على جميع الأطراف. وقد جاءت العطاءات الأخيرة والتي أعلن عن الاجسام الفائزة بها بداية هذا الشهر اعترافًا بنجاح التجربة النصراوية وبالإمكانيات والقدرات والطاقات الموجودة في المجتمع العربي.
ولا بد هنا من كلمه شكر وامتنان لكل المبادرين الرياديين الأوائل الذين لم يتهاونوا ولم يكلوا أمام الصعوبات والتحديات والعثرات والمنافسة القاسية من أجل بناء صناعة جديدة ونظام بيئي داعم يعود بالفائدة على كل ريادي في مجتمعنا، إضافة إلى تسخير الخبرات المكتسبة لمنفعة الجيل الجديد.
وكل عام ومجتمعنا بألف خير ومن نجاح إلى أكبر.