صناعة "الهايتك" في المجتمع العربي - الفرص والتحديات
الاقلية العربية الفلسطينية عايشت العديد من الازمات على مدار أكثر من سبعين سنة ومرت في محطات وظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية صعبة. والحقبة الحالية حبلى بالتحديات الكبيرة، ولكنها تخفي بين طياتها فرص عديدة.
في هذه المقالة سوف أسلط الضوء على اهم وأبرز هذه الفرص التي من شأنها تثبيت وجودنا كأقلية وطنية تفرض احترامها على صناع القرار وتنتزع حقوقها بجدارة وبدون استجداء أحد.
في العقد الاخير نشهد اهم الظواهر الإيجابية التي يعيشها مجتمعنا في الداخل وهي انخراط الشباب من كلا الجنسين في سوق العمل بشكل عام وقطاع الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا بشكل خاص ومنهم من تبوأ مراكز ادارية مرموقة.
هذا القطاع كان في الماضي القريب حكرا على شريحة محددة من المجتمع الاسرائيلي واستبعد شرائح عديدة من المجتمع وخاصة المجتمع العربي. دخول الشباب العربي الى هذا القطاع من شانه احداث تغيير مجتمعي كبير يحقق لنا كأقلية أصلانية انجازات اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية.
قطاع الصناعات المتقدمة (الهايتك) يعتبر اهم محرك لعجلة الاقتصاد في البلاد فهي تشكل تقريبا نصف صادرات الدولة فيما تشكل القوة العاملة فيه اقل من 15%. الثورة الرقمية التي نعاصرها اليوم بدأت في البلاد منذ سنوات الثمانينات من القرن الماضي على أثر الازمات التي عصفت بقطاع الزراعة والصناعات التقليدية وأدت الى الاستثمار في الصناعات المتقدمة واغلاق العديد من المصانع التقليدية. ومنذ ذلك الحين اصبحت ايرادات الدولة وصادراتها من قطاع التكنولوجيا في تصاعد مستمر ولم تتأثر كبقية القطاعات حتى ابان الركود الاقتصادي الكبير عام 2008. والجدير بالذكر انه حتى في اوج جائحة كورونا كانت عدد الشركات الناشئة التي صعدت قيمتها السوقية الى المليار دولار (Unicorn) قياسية وثبت ان قطاع الهايتك هو القطاع الوحيد الذي يستفيد من مختلف انواع الازمات.
هذا المجال يعتمد بالأساس على الكائن البشري وابداعاته وهو بحاجة مستمرة الى عقول تبحث دائما عن حلول مبتكره. الهجرة الروسية الى البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات كانت بمثابة الوقود لهذه الصناعة إذا تم تأهيل آلاف المهندسين الروس ودمجهم في سوق العمل كمبرمجين وفنيين.
اما في العقدين الاخيرين ومع استمرار انتعاش هذا القطاع وتطوره ازداد الطلب مجددا وبشكل كبير الى قوة عاملة مما ادى الى ارتفاع الاجور الى ارقام قياسية. وفي حينها طرحت عدة حلول بهذا الشأن اهمها:
١) استقدام مهندسين وخبراء من الخارج وخاصة من دول شرق اوروبا واسيا.
٢) تأهيل ودمج شرائح مهمشه من المجتمع الاسرائيلي مثل اليهود المتدنيون، اليهود الاثيوبيين والعرب.
وفي هذا السياق يمكن القول بان دمج الشباب والفتيات العرب في هذه الصناعة هو مصلحة مشتركة للطرفين. الدولة تستفيد من عقول عربية مبدعة لاستمرار تفوقها التكنولوجي وابقاء هذه الصناعة كأحد اعمدة اقتصادها الهامة اما الاقلية العربية بإمكانها الاستفادة بشكل كبير من الناحية الاجتماعية والاقتصادية.
تطوير هذه الصناعة في المجتمع العربي ودمج المهندسين والباحثين العرب فيها يمكن ان يتم بطرقتين: الاولى توظيف الخريجين العرب في شركات الهايتك في البلاد والثانية دعم المبادرات وانشاء شركات ناشئة (start-ups) عربية او بشراكة عربية.
حتى كتابة هذه السطور فإننا ما زلنا في بداية الطريق، نسبة المهندسين العرب في شركات الهايتك ما زالت ضئيلة للغاية (%2 - 4%) اقل بكثير من التمثيل العربي في البلاد (20%). اما نسبة الشركات الناشئة العربية من مجمل الشركات الناشئة في البلاد فلا تتعدى 2%.
ولكن إذا نظرنا الى الجامعات والكليات فالصورة مبشرة الى حد كبير اذ ان عدد الطلاب والطالبات العربيات اللواتي يدرسن مواضيع الهايتك في ازدياد مستمر فعلى سبيل المثال أكثر من 25% من الطلاب الذين يدرسون هذه المواضيع في معهد التخنيون هم من العرب وأكثر من نصفهم من الفتيات!
هذه معطيات تبعث على الامل والتفاؤل فهؤلاء الطلاب وخلال بضع سنين سوف يشكلون قوة لا يستهان بها في سوق الهايتك مما يعزز التمثيل العربي في سوق الصناعات المتقدمة. هذه بوادر ثورة تعليمية قادمة في المجتمع العربي على غرار ما يحدث اليوم في مجالات الطب والصيدلة، ولكن لهذه الثورة سيكون أثر مجتمعي ايجابي مضاعف.
الطريق نحو تحقيق هذه الغاية يحتم القيام بخطوات جريئة وكبيره على عدة مستويات واهم هذه الخطوات:
اصلاح المنظومة التعليمية في المجتمع العربي من خلال ادخال مواد تعليمية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) الى المناهج واعتماد اليات تدريس وتقييم حديثة لتعزيز طرق التفكير الابداعي عند الطلاب والتركيز على استكشاف وتقوية المهارات الفردية والجماعية.
ادخال تخصصات جديدة في المدارس الثانوية كالإدارة بأنواعها وريادة الاعمال وتعزيز التخصصات العلمية والتكنولوجية بكوادر مهنية مؤهلة وتطوير آليات التعلم الذاتي والتعلم عن بعد. بالإضافة الى توعية الطلاب بخصوص مستجدات سوق العمل من خلال استضافة ورشات عمل ومحاضرات للتوجيه المهني والقيام بزيارات لشركات هايتك للتعرف عن قرب على ماهية وظروف العمل في هذه الشركات.
تأسيس صناديق استثمار عربية وتشجيع رجال الاعمال على الاستثمار في هذا القطاع. نجاح الشركات الناشئة خاصة في المراحل الاولى يحتاج الى الاستثمار المالي وذلك لا يتأتى بدون وجود صناديق استثمار (VC) ومستثمرين (Angels) لتشجيع المبادرين على إطلاق مشروعاتهم وتقليص المخاطر المرتبطة بالجوانب المالية.
انشاء حاضنات (Incubators) ومسرعات اعمال (Accelerators) لمساعدة رواد الاعمال وتوفير كافة المعلومات والادوات اللازمة لهم لإنشاء شركاتهم الناشئة وتطويرها.
تأسيس مخيمات تدريب (Bootcamps) لإكساب الخريجين مهارات مهنية (Hard skills) ومهارات ناعمة (Soft skills) لمواكبة التطورات والمستجدات في سوق العمل وسد الفجوة الكبيرة بين متطلبات ومدخلات سوق العمل ومخرجات الجامعات والكليات.
هذه الخطوات كفيلة بخلق بيئة ومناخ لتحفيز الشباب وتجميع الطاقات في المجتمع وتصويبها نحو اهداف سامية ترقى بالمجتمع وتضبط بوصلته. بلا شك، هذه الخطوات تحتاج الى تضافر جهود من جهات عديدة: رجال تربية وأكاديميون، رجال اعمال ومؤسسات ومنظمات مجتمع مدني.
على أرض الواقع هنالك مساعي جادة وأُطر فاعلة تسعى لتحقيق هذا الهدف. مبادرة سديل كانت اولى المبادرات التكنولوجية في النقب والتي استطاعت استعادة الامل عند العشرات من الشبان في تحقيق حلمهم والالتحاق بالعمل في مجال الهايتك وتكوين النواة الاولى لهذه الصناعة في المجتمع العربي في النقب.
التجارب في العالم تعلمنا بان مشروعات التنمية المجتمعية هي أكثر المشروعات استدامة وتأثيرًا في المجتمع على المدى المتوسط والبعيد. والتاريخ يعلمنا بان الشعوب تنهض فقط بسواعد شبابها وان مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة. وصدق الله العظيم القائل: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
إبراهيم الصانع
مبادر هايتك ومؤسس ومدير شركة "سديل تك"