حول العيش والتعايش في دولة احتلال عسكريّة
هذه المقالة حول العيش والتّعايش في دولة احتلال عسكريّة، حول مسؤوليّة الحفاظ على الهوية الفلسطينيّة، حول الفخر بالأجيال التي تصرّ على إثراء ذاكرتها الفلسطينيّة، وتقوية حسّها وحساسيّتها تجاه مفهوم الإنسانيّة، وأخيرًا هي حولنا كمجتمع عليه تحمّل مسؤوليّة النّهوض بنفسه.
تعايش سلميّ أم تَرقيع؟
لا أرى مجالًا للحديث عن التّعايش السّلميّ في الوقت الذي فيه يخيّم الظّلمُ على أجساد الكثيرين وعقولهم. فالتّعايُش السّلميّ اصطلاحًا - بحسب تعريف معجم المعاني الإلكترونيّ هو "تَعْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ خَلْقُ جَوٍّ مِنَ التَّفَاهُمِ بَيْنَ الشُّعُوبِ بَعِيدًا عَنِ الحَرْبِ وَالعُنْفِ". أمّا مفهوم التّعايُش في حالتِنا فهو أقربُ إلى التَّرقيعِ والتَّضميد منه إلى التّفاهم والسِّلم. هو كتأليف كذبة ناصعة البياض خوفًا من مواجهة الحقيقة، كما أنه بلا شكّ تقنيّة حماية ذاتيّة مذهلة! وهو كالقول: دعونا نتعايش بسلامٍ وحبّ مُتَقَوْقِعين وَلْنتابع تهميشَ مَن يعاني ويُذَلّ منذ سنين.
لستُ ضدّ التّعايش شرط أن يكون في ظروف طبيعيّة، لا في ظلّ التّجزئة والتّجاهل، فقبول العيش "مِن فَمٍ ساكت" في الرّبع المشرق من الحقيقة لا يلغي وجود ثلاثة أرباع أخرى شديدة الظّلمة. علينا أن نذوّتَ فينا قيمًا تحثّ قلوبَنا على الصّراخ في وجه الظّلم والظّالم، فممّا لا جدلَ فيه هو أنّ صمتَ القلوبِ موتٌ إنسانيٌّ بالضّرورة، وأنّه من الصّعب جدًّا أن تسعى إلى التّعايش (أو التّرقيع) وأنت ترى الحربَ مستمرّةً بإجحاف ضدّك، ضدّ أبناء شعبك، ضدّ لغتك وهويّتك ووجودك وبيتك وانتمائك وأمانك.
نصف الحقيقة.. كذبة كاملة
في صِغرنا، كلُّ مَن أراد أن يزرع فينا التّعاطف علَّمَنا ألّا نلقيَ الخبز في القمامة، ألّا نتركَ بقايا طعامٍ في صحوننا، ولْنأخذ بالحسبان أنّ هنالك مَن يشتهي هذا الطعام في بلادٍ أخرى. ما لم يخبرونا به أبدًا هو أنّ "البلاد الأخرى" ليست بالضرورة بعيدة، وأنّ الفقرَ والمرضَ والبؤسَ وانقطاع الكهرباء وشُرب المياه ملوّثةً وتراكُم الحزن فوق حزنٍ فوق حزن.. جميعها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأجِندة السّياسيّة-الاقتصاديّة، التي تترأّسها مصالح شخصيّة سلطويّة.
علَّمونا أيضًا أنّ قدرَ الإنسان في يدِ الله، ولم يخبرونا يومًا عن خاطِفي الأقدار مُحتكِري المصائر، عن مُنتجي الأسلحة والأموال ومُديري التّجارات وغاسِلي العقول ومُبيّضي الحقائق - حفاظًا على براءة طفولتنا، متناسينَ الخطّ الرّفيع الذي يفصل بين البراءة والجهل، فكان على الكثير منا أن يبحث عن الحقيقة بنفسه، أن ينصت إليها تروي نفسها داخل عيون الأجداد وبين حجارة البيوت المهجّرة وخلف ملامح الصور القديمة.
على هامش التفكير، كيف نخبر طفلًا - حاولنا كلّ ما بوسعنا لنرسمَ له عالـَمًا ورديًّا- بأنّ العالم ليس ورديًّا بالفعل؟ هذه الحقيقة قد باتت صعبة حتى على البالغين منا.
أمّا بالنّسبة لحقوقنا هنا، والتي يشيد بها الكثيرون على أنها "حظّنا السعيد"، فما هي إلّا جزء من الأساسيّات التي يجب أن يحصل عليها الإنسان كونه خُلِقَ في نفسٍ وجسد – إنسانًا وَحُرًّا. لذا لا تستكثروا على أنفسكم ما تحصلونَ عليه من حقوق طبيعيّة، ولا تقارنوا ظروفكم بظروفِ بلادٍ أخرى يسودُها فقرُ العدالة، فهذا لن يؤدّيَ إلّا إلى تكرار مقولة "إحنا بألف نعمة" دون وجود حقيقيّ للنّعمة الألْف، أو المئة، أو حتّى الخمسين. ففي حالتنا بالأخصّ، إذا تَبِعنا الأمثال القائلة "ارضَ بالقليل يأتيك الكثير" و"عَ قد فراشك مد رجليك" و"ابعد عن الشرّ وغنّي له" و"امشي الحيط الحيط وقول يا رب السّتر" فستنقلب علينا الموازين ويصبح القليل بالنّسبة لنا كثيرًا وافرًا، ويصبح التّنازل عن حقّ مقاومة الظّلم سِلمًا ومحبّة، وتصبح الذاكرة الواحدة ماضيًا غابرًا، ونصبح نحن... أضحوكة.
كيف نقاوم النّسيان؟
النّسيان هو عدوّ جميع القضايا؛ لذا يقوم المدافعون عن قضيّةٍ ما بالتّوثيق الدائم لها. أثبتَت أحداث أيّار الأخيرة أمرين مهمّين؛ هما أنّ الذّاكرة الجمَعيّة الفلسطينيّة ذاكرةٌ طويلة الأمد وتستطيع أن تحفظَ وطنًا واسعًا يمتدّ من داخل الحدود الجغرافيّة إلى خارجها - إلى كلّ مكان يتواجد فيه فلسطينيّ. وأنّ الفكرة بالفعل لا تموت حتى لو -أو بالأخصّ إذا- سقطت من أجلها آلاف الأجساد.
نقاوم النّسيانَ بذاكرةٍ موحَّدة تتناقل المشاهد والصّور والكلمة وأصوات الحكايا عبر الأجيال، ذاكرة توثّق التّاريخ وتدافع عن صحّته بالكتب والصّحف والأغاني والفنّ ومواقع التواصل الاجتماعيّ والدّراسات والنّدوات. بالكلمة والفعل معًا. بالسّلم والغضب معًا. بالثورة الداخليّة والخارجيّة معًا. والثروة الفكريّة والقيميّة معًا. علينا ألّا ننسى أنّ القويّ والمنتصر هو من يكتب التاريخ، وطالما ما زلنا نقاوم، نتناقل تاريخَنا ونحفظه، بكلّ ما فينا من وسائل وقوى، فنحن أقوياء ولم نُهزم، كما لا تليق بنا الهزيمة.
هبوط اضطراريّ
متى نكون قد هُزمنا؟ حين نمنع حدوثَ ثورةٍ فينا. لا يمكننا أن نستمرّ في الطيران نحو وجهتنا البعيدة إذ ندرك وجودَ خلل تقنيّ. والمصيبة الكبيرة هي ألّا ندرك وجود هذا الخلل. أمّا المصيبة الأكبر فأن نعلم بوجوده ومع ذلك نصرّ على متابعة الطيران إلى أن تتحوّل فرصة الهبوط الاضطراريّ إلى سقوطٍ حتميّ. ومن غير المجازات: هناك الكثير من المسائل المجتمعيّة الجذريّة التي علينا أن نعالجها؛ في طرق التربية التي نتّبعها، في حواراتنا الثقافيّة، في مفهومنا للذّات والآخَر، في فهمنا للانتماء، في علاقتنا مع حيّزنا العامّ، في قراراتنا الشخصية، في تأديتنا لأعمالنا... فلكلّ مسألة -مهما كانت صغيرة- تأثيرٌ كبير. علينا أن نهتمَّ بالانتصارِ على أنفسِنا كي نكونَ بالقوّة الكافية للانتصار في قضيّة كاملة، وأن نقولَ أوّلًا "كفى" للنظرة الدونيّة إلى ذاتنا كمجتمع وكأفراد. فما أسوأ من التعابير المتداولة مثل "إحنا شعب ما رح يتقدّم أبدا"، "لولا الجهل الّي فينا ما كانوا احتلّونا"، "إحنا ما بلبقلنا غير الاحتلال"، وتعابير سوداويّة ودونيّة أخرى تجذّر شعورًا عميقًا بقلّة الشّأن واستحقاق الجزاء - وهي الطريقة الأنجع للقضاء على شخص، أو شعب، أو نظام: هدم صورته الشخصيّة أمام نفسه أوّلًا، وإشعاره بالعجز واللا-أمل.
أمّا الأمل.. في الحقيقة.. فبلا شكّ موجود. و"إنّ الأمل جهدٌ عمل، والجهدُ لا يضيع" – كما جاء في أغنية أحد مسلسلات الكرتون القديمة! ألا تأتينا الحِكَم من حيث لا نتوقّع؟
كاتبة المقال: يارا أبو داهود وهي معلمة للغتين العربيّة والإنجليزية وطالبة لقب ثانٍ في اللغة العربيّة.
تصوير: اورن زيف من موقع "سيحا مكوميت".