كتاب الاستيطان في أحياء القدس: البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح
صنع حي الشيخ جراح في الآونة الأخيرة العناوين القليلة والكثيرة، واقترن اسم الحيّ وخطر إخلاء العائلات الفلسطينية بهبة أيار-الكرامة 2021، وبأهم آخر السياسات التهويدية التي تتعرّض لها مدينة القدس. كما واقترن ما يجري بالحيّ بالنمط السياسي-البرلماني الجديد من استفزازات ومضايقات تجسدت بحضور بن-غفير وحاشيته ونصب مكتب برلماني ميداني في حي الشيخ جراح في فترات مختلفة. اجتمعت المسببات والمميزات العديدة والمختلفة للهبّة، لكن ما ميّزها بشكل خاص وما طفا على السطح خلالها هو ظاهرة الاستيطان الإسرائيلي اليهودي في قلب الأحياء الفلسطينية كالشيخ جراح وسلوان ورأس العامود، وخارج القدس بما يُعرف بالأنوية التوراتية في المدن الساحلية، خاصة اللد وعكا. تعود محاولات الاستيطان في الشيخ جرّاح وفي سلوان لبداية السبعينيات، وتنامت مع الوقت ليكن أيار الكرامة إشارة الانتفاض ضد الظاهرة. لكن من يراقب المشهد المقدسي عن كثب، يلاحظ مدى ازدياد قوة الجمعيات الاستيطانية مثل "إلعاد" و"عطيريت كوهانيم" وغيرها في القدس وممارسات الاستيطان وتهويد الأحياء المقدسية. تعمل تلك الجمعيات بشكل خاص تماشيا مع أيديولوجيا الصهيونية الدينية، ولذلك ليس مفاجأة ازدياد قوة الصهيونية الدينية في البرلمان، فقد سبقه تواجد وسيطرة متنامية في القدس تجسّد بهذا الاستيطان وبميزانياتها الباهظة وبالدعم الذي حظيت به سياسيا وماديا، بالذات على يد أريئيل شارون. الفرق هو أن ذلك التيّار الأيديولوجي قرّر السير أيضا في المسار السياسي-البرلماني والتأثير على الدولة ومؤسساتها من داخل تلك القنوات إلى جانب الممارسات الميدانية لأيديولوجيته.
مع امتداد ظاهرة الاستيطان في القلوب من القدس للمدن الساحلية، شاهدنا امتداد الهبة أيضا من القدس لباقي فلسطين وبالذات في المدن الساحلية وبشكل غير مسبوق. وعليه، لعبت تلك السياسات الاستيطانية والجمعيات الاستيطانية التي تقوم على رأس هذا المشروع، والسياسيين من الصهيونية-الدينية بشكل خاص، دورا هاما في إشعال الهبة وفي انتفاض الفلسطينيين ضد هذا النوع من الممارسات الاستيطانية. تشكل هذه الظاهرة واحدة من الممارسات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية في تهويد الحيز الفلسطيني، كما وتشكل إحدى الساحات التي تسعى الصهيونية بشكل عام والصهيونية الدينية بشكل خاص لتجسيد ايديولوجيتها وادعاءاتها بالحق التاريخي في فلسطين. فكما عملت الصهيونية على تأسيس وطن قومي وعلى عودة اليهود "لأرض الميعاد" إلى فلسطين، تعمل الجمعيات الاستيطانية بشكل مشابه وبدعم رسمي معتمدة على ادعاءات تاريخية توراتية، ومطالبات بحقوق ملكية تاريخية يهودية عينية في أحياء فلسطينية في القدس. وتعمل تلك الجمعيات ضمن إطار زمني دائري لخلاص الأملاك واستعادتها تحت سيطرتها دون اعتبار للعوامل التاريخية المتغيرة، وتحت شعار "إعادة المجد اليهودي القديم" في القدس.
يعالج كتاب "الاستيطان في أحياء القدس" ظاهرة الاستيطان في قلوب الأحياء الفلسطينية والاستيلاء على بيوت عينيّة خلافا لنهج الاستيطان الكلاسيكي الذي اعتدناه، حيث لتلك الظاهرة ميّزات تاريخية، جغرافية، توراتية، وسياسية، وديناميكيات أخرى يبحثها ويحللها الكتاب ضمن السياق التاريخي لفلسطين وسياسات الصهيونية في الاستيطان في المناطق الجغرافية المختلفة في فلسطين. يحلل الكتاب بشكل خاص حالات الاستيطان داخل البلدة القديمة وسلوان وحي الشيخ جراح، ويعرض السيرورة التاريخية لمدينة القدس واستغلال تاريخها العثماني الذي تميّز بالتعددية الطائفية والدينية من أجل طرح مسوغات توراتية استيطانية تهويدية بحتة. تسعى الجمعيات الاستيطانية ضمن هذا المجهود لتحويل تاريخ التعددية إلى تاريخ يهودي حصري وإلى محو الجغرافيا التعددية والمتشابكة في القدس إلى جغرافيا صهيونية. يأتي ذلك على حساب تهجير عائلات فلسطينية ومن ثم الدفع بمشاريع استيطانية بعيدة كل البعد عن الجغرافيا التاريخية والهوية النوعية للقدس وللسكان اليهود الذين سكنوا القدس وبعض أحيائها في الفترة العثمانية. وتعتمد تلك السياسات والممارسات الإسرائيلية بشكل خاص على القانون و"خطاب القانونية،" حيث تمّ استصدار مئات القرارات القضائية بهذا الصدد منذ احتلال شرق القدس عام 1967، التي يعالجها الكتاب بشكل نقدي أيضا.
يتأطر التحليل بمقدمة وفصل تمهيدي عن نظام الأراضي الإسرائيلي الذي شمل قوانين عثمانية وبريطانية وأردنية وتمّ توظيفها لتيسير الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتغيير الحيز الفلسطيني منذ عام 1948. وبعد عرض الإطار النظري وسرد النظام القانوني التاريخي، يتناول الكتاب في ثلاثة فصول أخرى حالات عينية لظاهرة الاستيطان في قلوب الأحياء الفلسطينية: في البلدة القديمة، وسلوان، وحي الشيخ جراح. يدرس الفصل الثالث الاستيطان في قلب البلدة القديمة ويركز على مرحلتين ومكانين مختلفين داخل الأسوار، حيث يبدأ بهدم حي المغاربة أيام بعد احتلال شرق القدس عام 1967 ضمن مشروع "إعادة بناء الربع اليهودي" ومن ثم محاولات الاستيطان العينية في أبنية وعقارات في الأحياء الإسلامية والمسيحية. وينتقل الفصل الرابع لمعالجة الاستيطان في سلوان ويستعرض حالتين استيطانيتين عينيتين: الأولى في حي وادي حلوة والمعروفة بمدينة داوود والثانية في بطن الهوى التي تعتمد على ادّعاء وجود وقف ليهود اليمن منذ نهاية القرن ال-19. اما الفصل الخامس فيعالج حالة الشيخ جراح المشهورة ويتطرق أيضا إلى مشروعين استيطانيين مختلفين: الأول وهو الذي اشتهر خلال المظاهرات والذي يهدد بإخلاء 28 عائلة فلسطينية من بيوتها في كرم الجاعوني، والثاني يبعد 200 متر عن كرم الجاعوني غربًا وهو ما يعرف بكبانية أم هارون أو "الحي الغربي" والذي يهدد أيضا عشرات العائلات الفلسطينية. وكما في الحالتين، يعتمد المشروع الاستيطاني على مسوغات تاريخية وقانونية مختلفة تعود بها لحقوق يهودية تاريخية للأراضي ولعائلات سكنت تلك الأجزاء حتى عام 1948، ودخلت الجمعيات الاستيطانية هنا أيضا كممثلة لورثة العائلات اليهودية أو كمن اشترى حقوقا من جمعيات يهودية تدّعي حقوق الملكية في الحي، للدفع بإخلاء البيوت الفلسطينية التي أقيمت على الأرض وتهجيرهم وإسكان عائلات يهودية بدلا منهم والدفع بمشاريع استيطانية أوسع هناك.
يعرض الكتاب في ملخصه حالات استيطانية في قلب أحياء فلسطينية أخرى مثل رأس العامود، شعفاط، بيت حنينا، المصرارة، والتهديد الذي يطال تلك الأحياء وبعض الدعاوى الجديدة من مكتب القيم العام الإسرائيلي ضد العائلات الفلسطينية بحجة أن تلك الأراضي كانت بيد حارس أملاك العدو الأردني وعليه فهي يجب أن تكون تحت إدارته كونها أملاكا يهودية تاريخية. يندمج هذا المجهود ايضًا مع قرار الحكومة الإسرائيلية بتجديد مشروع تسوية الأراضي الذي جمدته عام 1967، وأيضًا بقرار مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي بتخصيص ميزانيات من أجل تسجيل أراض يعتقد أنها تابعة للصندوق القومي اليهودي وتصل في منطقة القدس إلى 2050 ملف تغطي 2500 دونم. ويندرج كل ذلك مع المرحلة الجديدة التي تنتهجها السياسة الإسرائيلية الجديدة والتي ستزداد مع تنامي قوة الصهيونية الدينية في الحكومة، والتي عملت لدفع الحكومة بإعلان السيادة في مناطق "ج" في الضفة وبدفع عجلة الاستيطان في أحياء شرق القدس وبالذات في منطقة الحوض المقدس. ومن المتوقع أن تزداد ميزانيات تلك الجمعيات والتي تصل ميزانيات بعضها إلى أكثر من 500 مليون شيكل، وتحظى بمئات الملايين من ميزانية الدولة لحراسة عائلات المستوطنين في تلك الأحياء. إلى جانب كل ذلك، يهدف هذا الاستيطان أيضا الى خلق واقع جديد ومفروض يمنع إمكانية تقسيم أي أجزاء من القدس أو أي إمكانية لفصل مستقبلي للقدس ضمن أي حل سياسي وإعطاء معنى جديد "للسيادة الإسرائيلية" في القدس. من الجهة المقابلة، يبقى النضال الفلسطيني يعمل من خلال ممارساته المختلفة لمناهضة هذه السياسات، وعلى رأسها الوجود الفلسطيني في المدينة الذي يحمل تاريخا وهوية يسعى الاستيطان في القلوب باستمرار إلى هزيمتها ومحوها. إلا أن "في القدس من في القدس لكن، لا أرى في القدس إلا أنت".
كاتب المقال: د. أحمد أمارة وهو محاضر في جامعة نيويورك (تل-أبيب) وباحث في العيادة القانونية في جامعة القدس (أبو ديس). يبحث في الجغرافيا وتاريخ فلسطين القانوني، وبشكل خاص قانون الأراضي العثماني والأوقاف. محامٍ في مجال حقوق الإنسان والمرافعة الدولية، حاصل على شهادة الدكتوراة في التاريخ والدراسات الإسرائيلية من جامعة نيويورك.
للمزيد عن الكتاب اضغط\ي هنا.
د. أحمد أمارة
محاضر في جامعة نيويورك (تل-أبيب) وباحث في العيادة القانونية في جامعة القدس (ابو ديس). يبحث في الجغرافيا وتاريخ فلسطين القانوني، وبشكل خاص قانون الأراضي العثماني والأوقاف. محامٍ في مجال حقوق الإنسان والمرافعة الدولية، حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ والدراسات الإسرائيلية من جامعة نيويورك