تعريف

ظاهرة الولادة الصادِمة (الإملاص) هي ظاهرة موت الجنين في مراحل الشهور الأخيرة، أي من الأسبوع ال20 أو ال28 للحَمل وما بعد، أو عند الولادة. بيدَ أنّ التطور التكنولوجي السريع الذي مَكَّن من تشخيص مبكّرٍ للكثير من الأمراض والأوبئة في مراحل الحمل الأولى قد قلّصَ من معدّلات حدوث هذه الظاهرة، إلّا أنّها لا تزال متواجِدة وخصوصا في المجتمعات ذات الدخل المنخفض، حيث النظم الصحية ليست متطورة بشكلٍ كافٍ. لذلك، يستمرّ الباحثون بإجراء دراسات وأبحاث تهدف إلى تمحّص أسباب هذه الظاهرة، العوامل التي تحِدّ أو تزيد منها، وبشكل خاصّ تداعياتها النفسية على الوالدين وعلى أفراد الأسرة.

إن ظاهرة موت الجنين خلال أو قبل الولادة تحوي بداخلها المتناقِضان: الحياة والموت.
ومن المعلوم أنّها تخلّف وراءها صمتا، صدمةً يعيشها كلّ من الأم، الأب وجميع أفراد العائلة. وَعندَ البعض، أحيانا، قد تتطوّر حالاتٌ مستدامة من الشعور بالفقدان، الذنب، الفراغ والحزن وحتّى الاكتئاب.

 

ردود الفعل لدى الأم والأهل

  1. الشعور بالتناقض والتضارب بين الحياة والموت بنفس اللحظة، شعور متزامن مع الانتظار والشغف لقدوم الطفل ملحقٌ بتلقّي خبَر وفاته، خصوصا وأن الوفاة تحصُل في فترة متأخرة من الحمل أو عند الولادة. تضارب المشاعِر هذا قد يؤدّي إلى تشويش فِكري، عجز الأم عن استيعاب وفاة جنينها، صعوبة بالتعامل مع المشاعِر سريعة التغيُّر ورصدها والتعبير عنها بشكل صحي، وحتى الى اضطراب بشعور الامومة، الوالدية غير المكتملة أو حتى الاستحقاق الذاتي.

  2. ردود فعل متباينة للعزاء، تشمَل الاعتكاف والرغبة بالوحدة والشعور بالإنكار تصِل إلى عدم الرغبة بِتوديع الجثمان، الانهيار والبكاء المتواصل أو حالات تتطلّب تدخلا طبيا. رد الفعل هذا يصف أكثر رد فعل الأم المحتمل علما بأنها هيَ التي كانت لها حصة التواصل الجسدي، العاطفي والنفسي المباشِر مع الجنين طول فترة الحمل. والأثر ذاته قد يلحق بالأب والعائلة، شعور بعدم الرغبة بالعزاء، الإنكار وعدم معالجة صحيحة لمشاعِر الفقدان الطبيعية الناجمة عن فقدان فرد مستقبلي في العائلة.

  3. مأساة الفراغ الكبير، الجسديّ، العقليّ والنفسيّ. الأم تضطر للتعامل مع أوجاع ما بعد الولادة مثل أوجاع البطن (مخولفة) مع التعامل لتجفيف الحليب الذي ينتجه الجسم بشكل طبيعي.
    هنالك ظاهرة لدى الوالدين وخاصة لدى الأمهات بتطوير نوع من الصمت الداخلي القسري والشعور الدائم بالفشل، المرافق للفقدان، والذي يؤثر لاحقا على مسار الحياة بكاملها. خلال عملي كأخصائية اجتماعية في مستشفى صفد قابلت امرأةً بجيل الأربعين التي كانت تشكي من آلام مزمنة شديدة دونَ أي مسببات جسدية معيّنة. بعدَ بحثٍ عميق بخصوص ماضيها، تبين أنها فقدت ابنها الأول وقت الولادة ولم تتحدث لأحد عن الموضوع.

  4. الإسراع إلى ولادة أخرى كتعويض للفقدان، مما يتطلب من الأم جهدا مضاعفا وهي ما زالت تلعق جراح الولادة الصادمة. للأسف الشديد، الضغط الاجتماعي المتواصل على الوالدين، حتّى وإن كانَ بِنِيّة المساعدة، وتشجيعهم على الاستمرار بالحياة كالمعتاد، قد يكون له تأثير سلبي عليهم، إذ لا يأخذون فرصةَ استيعاب مأساتِهم والتعامل مع مشاعرهِم بوقتِهم الخاصّ.

  5. تعامل الوالدين بشكل دِفاعي أو مِثالي اتجاه أطفالِهم الآخرين أو المستقبليين، إذ إنّ تجربة الولادة الصادمة تترك أثرا وتوقعات لدى الوالدين التي إما تتطور إلى شعور بالخوف المفرَط على الأبناء وما يمكن أن يحصل لهم من سوء، أو شعور بأنّ على أولادِهم أن يملؤوا الفراغ الذي أحدثه وفاة الجنين وبالتالي أن يكونوا مثاليين. قد ينتِج عن كِلا الشعورين أسلوب تربية غير صحيّ للأطفال، وتطوّر نوع ترابُط عاطِفي غير ملائم مع الأمّ الذي قد يخلّف أثرا سلبيا على صحة الأطفال مستقبلا وتطورهم الاجتماعي والشخصي.

 

كيفية التعامل مع الموضوع

في أحيانٍ كثيرة، يعتقد أفراد العائلة أنهم يساعدون الأم والأب عند الالتجاء إلى جمل المواساة المغلوطة مثل: " الله بيعوضك"، "كيف لو أنك ربيتيه"، "فلانة تجربتها أصعب منك…".
إلا إنّ أساليب التعامل الإيجابية والمتفهمة لأهمية التعبير عن الفقدان هو المطلوب منَ الأهل ومنَ الطواقم المعالِجة.
عند استماعنا لحزنِ ووجعِ الأم، الأب أو أفراد العائلة وقتَ الحدَث، وعندَ تعبيرنا عن تضامننا وتآلفنا معهم، نعطيهم مكان للتفريغ والمواساة والشعور بعمق جرحهم. وبالتالي فإنّ المفتاح الرئيسي للتعامل مع من يمرّ بتجربة الولادة الصادمة هو بمواجهة مشاعِر الحزن، الاعتراف بوجودها وطبيعتِها وعدم الخوف من التكلّم عنها. هكذا نكون قد عاونّاه في طريق الشفاء من جراح الصدمة وسِرنا معه ببطء وبدعم متواصل خلال هذه التجربة المؤلِمة دونَ الرغبة السريعة بالتخفيف عن آلامه وتغطية الجرحِ بالآمال والدعوات فقط دونَ الوعي بأنَه يلزم بعض الوقت للجرحِ لكيّ يلتئم جيدا وإلّا فظلّ معرضا لأن يُفتَح في كلّ مرة ضاقت الحياة بصاحبِه.

إنّ دعوات الأهل وأمانيهم مهمة أيضا، ولكن عليها أن تهدِف إلى التخفيف عن معاناة من فقدَ ابنه أو ابنته، لا بغيةَ الخوفِ من التعامل مع المشاعِر الصعبة ولا لأسباب اجتماعية تطلب من العائلة الفاقدة أن تعودَ إلى مجرى الحياة الطبيعي وأن تتخطّى محنتها دونَ التكلّف بفهم مشاعرهم أو حالتهم النفسية. بذلك، يكون التفاعل مع الأهل الفاقدين، والتضامن معهم من جهة، وتشجيعهم للتعبير عن الألم والحزن من جهة أخرى أمرا مهما جدا لكي يتمكنوا من إخراج الحزنِ وتلافي أضراره على الجسد والنفس.
أخيرا، على أفراد العائلة الفاقِدة والأم خصوصا أن يعَوا لصحتهم الجسدية وحالتهم النفسية بانفتاح وتقبّل، وأن يعوا أنهم بإمكانِهم أن يطلبوا المساعدة المهنية والاستشارة النفسية أن تطلّب الأمر، من أجل معالجَة المشاعر السلبية التي نجمت عن حادثة الفقدان هذه، إن كانت اتجاه الذات، الآخرين أو العالَم. هذا الوعي ضروري من أجلِ المحافظة على أنفسهِم، عائلتِهم ومجتمعهم ومِن أجلِ الروح التي فقدوها والتي لا زالت تحرُسهم.

 


كاتبة المقال: حكمية ياسين وهي اخصائية اجتماعية بمستشفى صفد،مع لقب ثاني بالصحة النفسية.

حكمية ياسين

اخصائية اجتماعية بمستشفى صفد،مع لقب ثاني بالصحة النفسية

شاركونا رأيكن.م