"الوالدية التعويضية" و"الوالدية المُبتزّة"- نماذج للعلاقات الجندرية في المجتمع العربي

تناقض المسارات والتوقعات من النساء العربيات

تعكس العلاقات اليومية في الأسرة العربية التقليدية بحلقتيها النواتية والممتدة سياسات اجتماعية بعضها مقصود ومعلن والآخر غير واع[1]. ويبرز هذا بشكل صارخ في التعامل مع معظم نساء المجتمع بغض النظر عن فئتهن العمرية، عدد سنوات التعليم، المهنة أو مستوى دخلهن. حيث يحاول الإخوة الذكور – وبغض النظر عن معطياتهم الشخصية -- إدارة موارد النساء، بما فيه قراراتهن الشخصية، ووقتهن وممتلكاتهن المادية.

هناك افتراض مجتمعي بوجود حق للرجل في التدخل في حياة الأخت وفرض وضعيات وقرارات متى رأى هذا مناسبا وتحت ظروف يراها هو شرعية لمثل هذا التدخل. غالبا يفتر أو يذوب هذا التوقع عند زواج الأخت وانتقالها لبيت الزوج. للمقارنة، لا توجد وضعية مشابهة تحظى الأخت فيها بهذا الحق أو تأخذ هذه الأدوار في حياة إخوتها الذكور.

سأطرح بعض الأمثلة من الحالات التي عالجتها في عيادتي ضمن علاج مشاكل الأزواج والأسرة لتوضيح ما ذُكِر أعلاه:

أقنع الخطيب خطيبته بأن تنتقل للسكن من المدينة للقرية في البيت الذي بناه فوق بيت أهله واعدا بأنها ستتمكن من متابعة عملها الذي يتطلب منها ساعات غير اعتيادية خاصة أن أخته التي بلغت الأربعين ولم تتزوج ستساعد في أمور البيت ورعاية الأولاد عندما يولدون. كان عمر الخطيب 28 سنة ولم يتشاور مع أخته بخصوص هذا الوعد قبل التصريح به. عندما تزوج ورفضت الأخت أن تخدم زوجة الأخ، لأنها بدورها تعمل في مصنع في ثلاث ورديات على مدار الشهر، ادّعى الأخ أن أخته ""متفرغة"" حيث أن لا ""بيت لها تديره أو عائلة تعتني بها"" رغم أنها كانت تدير البيت الذي تسكن فيه مع والدتهما. أدّى الشجار المتواصل إلى أن ضربها وهددها بطردها من البيت إن لم تذعن لأوامره.

كان الأخ يتعاطى المخدرات وكانت زوجته ربة بيت وكان لهما أربعة أطفال. وكانا يعتمدان على دخل الوالدة والأخت المطلقة اللتين عملتا في تنظيف مبنى مكاتب. عندما ولد الطفل الرابع قررت الأخت، التي تطلقت بعد ثلاث سنوات من زواجها، أن تعلن نيّتها بتبنيه. وافق الزوجان شرط أن يقتصر ""التبني"" على الإنفاق التام على الطفل دون أن تحظى العمة في الحق في أن يسكن معها أو أن يكون لها دور في التربية. ورأى الوالدان أن توجيه الطفل لأن يضم العمة وأن يقبّلها وأن يشكرها على إنفاقها على كسوته كافيا لها ""لتحقيق حلمها بأن تكون أما"". بعد خمس سنوات، قررت العمة التوقف عن الإنفاق بعد أن التهى الطفل عنها بلعبه المتواصل مع أترابه. فطالبها الأخ وزوجته بأن تتابع في منحهما شهريا نفس المبلغ ليتصرفا فيه. رفضت. وحصل خلاف عائلي نتيجة لهذا.

كان الزوجان يسكنان في شقة فوق شقة الوالدة التي تسكن فيها معها أختاه العزباوات. كانت الزوجة والأختان تشتغلن في التدريس. كانت الزوجة تطلب من حماتها أن تعتني بالأطفال خلال ساعات عملها وأن تعتني العمات بهم بعد ساعات الدوام أو في ساعات المساء عندما يقرر الزوجان الخروج للسهر. كانا يفعلان هذا بدون تنسيق مع الأخوات فارضين أنهما متفرغتان وستلزمان البيت حتما بعد ساعات دوامهما. وغالبا كان الوالدان يتركا الأطفال نائمين في بيت الجدة عند عودتهما في ساعات متأخرة من سهرتهما مما كان يؤثر على جودة نوم العمات وعدم شعورهن بالراحة. انتكست العلاقة بين الزوجة والأختين عندما حجز الأخ وزوجته رحلة مع أخوات ووالدَي الزوجة في فترة العطلة المدرسية بدون التنسيق مع العمات والجدة. في نفس الوقت، كانت العمات قد حجزتا رحلة لهما ولوالدتهما وكنّ قد خططن أن يبقى خبر الرحلة مفاجأة للوالدة حتى اللحظة الأخيرة حيث إنها لم تغادر البلاد بتاتا في حياتها. اتهم الأخ أخواته بالأنانية وبأنهما ""يغرن من زوجته ويقمن بتقليدها"". حصل نزاع بين جميع الأطراف وانشقت العائلة إلى جبهتين متخاصمتين.

اقتنع زوجان بأنهما لن يحظيا بإنجاب طفل بسبب مشكلة عقم وقررا أيضا عدم التبني. توفي الزوج فجأة بعد 25 سنة من الزواج اتكلت أثناءها الزوجة في الإدارة المالية وأمام المؤسسات الرسمية على الزوج بالكامل. قرر أخ الزوجة، بادعاء مساندة أخته في محنتها، أن تجعله وصيا على إدارة حساب بنك الزوج قبل أن يضع إخوته اليد عليه. فرض الأخ لاحقا على أخته أن تدفع لتعليم أولاده ومصاريفهم الجامعية لأنهم ""أولى من أولاد أقارب الزوج"". وهكذا، لم تعش العمة في بحبوحة بعد أن أصبحت أرملة بينما عمل الأخ على إقناعها بأنها تقوم بعمل ""ديني"" عظيم بالإنفاق على تعليم أبنائه. عندما تخرج آخر الأبناء، امتدح الناس الأخ وزوجته على ""تفانيهما في تعليم أولادهما"" بينما لم تحظ العمة بأي شكر مُعلن لأن أحدا لم يعلم بما ساهمت به فعلا. خشيت العمة أن تجاهر بخيبة أملها من جحود أخيها وأولاده حتى لا يلومها أهل زوجها من جهة وحتى لا ""تخسر"" العلاقة الأسرية مع أخيها وعائلته من جهة ثانية، وحتى لا يلومها المجتمع من جهة ثالثة.

هذه أمثلة من حالات ""والدية مُبتزّة"" أو ""والدية تعويضية"" تشير لوضع غير سوي في التعامل مع التوزيع الجندري لأدوار النساء والرجال في المجتمع.

العادات مقابل الدين

نرى في الأمثلة أعلاه سلوكيات تغلغلت للأسرة العربية، خاصة المسلمة، بها مخالفات للتعليمات الدينية. نرى أمثلة لنساء تعيل الرجال في الأسرة بينما الفرض الديني يقع على الرجال في إعالة النساء ممن يقعن ضمن تعريف ""صلة الرحم"".

أتاح الإسلام للنساء إدارة شؤونهن المالية بينما فرض العُرف أن يفعل الرجال هذا بهدف إقصاء النساء عن الحيّز العام. انتقوا واختاروا هذا السلوك الذي يتيح لهم السيطرة على موارد المرأة بينما لم يعترضوا على عملها في المنشآت التي يشتغل فيها الرجال أو يكونون جزءا من المُنتفعين من الخدمة التي تقدمها المرأة (مثل العمل مع المسنين في بيوتهم).

يختلس الإخوة في الكثير من الأسر إرث الأخوات ويفرضون عليهن التوقيع على تنازل عنه حتى تزيد حصة الرجل في الإرث. هكذا تصبح النساء عديمات الأملاك المنقولة والعقارات ويتم التعامل مع وجودهن في بيت الأسرة كمؤقت. عندما تبقى المرأة عزباء، يتم النظر لها على أنها ""تجمّد وتحجز"" حق الرجال في التصرف في أملاك والدهم. ومقابل هذا، يتصرفون، بشكل غير واع، بتعويض أنفسهم عن هذه الخسارة المادية الكبرى بواسطة الحصول على خدمات صغيرة من الأخت العزباء مثل مجالسة أطفالهم، أو الإنفاق اليومي أو الفصلي عليهم أو توفير خدمات مباشرة لبيوتهم وزوجاتهم.

من جهة أخرى، يتحفظ الإخوة والأقارب من أن تسكن قريباتهن العزباوات في سكن مستقل بهن حتى لا تفلت خيوط السيطرة الاجتماعية عليهن تماما من أيديهم. كما ويرفضون أن تكفل أو تتبنى الأخت العزباء طفلا غريبا حتى لا يشك الآخرون في أصل الطفل وحتى لا يخسر أولاد الأخوة المنفعة المادية المتوقعة من العمة.

تحظى العمات العزباوات بشكل نادر في العناية المطلقة في ابن/ة الأخ وذلك في حالات مأساوية مثل وفاة والدة الطفل/ة أو طلاق الزوجين. في هذه الحالة يحكم المجتمع على هذا الترتيب على أنه ""معالجة لحياة الوحدة للعمة العزباء"". فيتعامل الأخ والمجتمع مع خدمات العمة للأطفال على أنه دور ""طبيعي"" لها و""من الطبيعي"" أن تقوم به. بل يرون على أن هذا الدور هو ""تعويضي"" به خدمة عاطفية لها نفسها إذ ""يسمح"" لها الأخ بالقيام بهذا الدور حتى تتمكن من تعويض حاجتها للأمومة أو للشعور بأن لها أسرة تديرها بنفسها. لا تحظى غالبا مثل هذه العلاقة بالثبات والاستقرار حيث يكون القرار في استرجاع الابن/ة ليعيش مع الوالد في يد هذا الأخير وبهذا تؤذى عواطف العمة ويتم نفي الادعاء بأن عناية العمة بإبن الأخ هو خدمة لحاجتها لما يسمى ""الوالدية التعويضية"".

لا نجد موازيا لهذا الدور لدى العم الأعزب ولا يتوقع منه أقاربه أو مجتمعه أن ينذر وقته وماله وعواطفه لخدمة ورعاية وعناية والإنفاق على أبناء الأخ.

نجد في بعض الأمثلة أعلاه مشاهد تقمع فيها نساءٌ نساء أخريات، سواء كنّ أكبر منهن سنا أو أصغر. في الحقيقة إن هذا يحصل فقط تحت كنف العلاقة الزوجية وتكون المرأة القامعة مستندة على دعم زوجها للموقف[2]. الأجندة الجندرية الخفية في هذا الصراع تكمن في تحويل النقاش من زوجي إلى أسري. فبدل التوظيف في نقاش مشاركة الزوج في حمل مسؤوليته الوالدية وأعباء البيت مع زوجته يقوم هو بتحويل الصراع على المكانة والمساواة بين الزوجة والأخت العزباء. هكذا، ينجح في منع التغيير المجتمعي الجندري الأعمق من جهة ويحافظ على سلطته على النساء: الزوجة والأخوات، من جهة أخرى.

لماذا تُشغل العمات هذه المشاهد وليس الخالات؟

يفرض المجتمع الأبوي أن تنتقل النساء المتزوجات للمعيشة في محيط أسر الأزواج بعيدا عن أسرهن. تتحول السلطة على المرأة مع هذا الانتقال من الوالد للزوج، إلا في حالات الأزمات أو الطوارئ، حيث تعود السلطة للوالد أو للأخ. تُفرض السلطة الأبوية على المرأة العزباء وتلين أو تشتد وفق قرار الرجال في الأسرة. إن عناية العمة بأبناء إخوانها هو دعم للإخوة بإقامة أسر خاصة بهم وهو امتداد للاستثمار المادي في الموارد التي تبقى في العائلة الذكورية. بينما، عندما تعتني الخالة بأولاد الأخت فهي تربطهم عاطفيا مع أسرة أمهم وتبعدهم عاطفيا واجتماعيا عن أسرة أبيهم وعن ولائهم لها. لهذا، غالبا ""يزور"" الأولاد أسرة الوالدة بينما يعيشون مع أسرة الوالد.

تقود مثل هذه الأجواء الأسرية في بعض الحالات النساء العزباوات للموافقة على زواج غير متكافئ من حيث فارق السن، أو مستوى التعليم، أو الصحة النفسية، أو الجسدية، أو الوضع المدني. وبهذا يصبح اللجوء لمثل هذا الحل غالبا هو المشكلة الشائكة التالية الأكثر إيلاما الذي يؤذي شعور الرفاه النفسي والعاطفي لهذه المجموعة من النساء. عندها، يبرز الأخ ليفرض من جديد الحلول المتحيزة جندريا على المرأة.

هكذا تبقى دائرة تناقض المطالب من المرأة تدور في حلقتها السحرية. فمن جهة تتطور النساء وترصد لصالحها سنوات تعليم وعمل ونشاط اجتماعي وسياسي، أحيانا أعلى نسبيا من إنجازات الرجال. وفي نفس الوقت يعيد الرجال بناء التدريج الجندري التقليدي علنا أو بواسطة آليات قيمية وعُرفية يقودها العقل غير الواعي للمجتمع مشكّلين بهذا حاجزا في تحقيق مساواة جندرية متكافئة، عادلة وحقيقية.

الاحالات:

يعكس نمط الكتابة عن الأسرة والمجتمع والعلاقات الجندرية فيهما في هذا المقال بعض التعميم الذي لا يعبّر قطعا عن كل الأسر المتماسكة وعن كل أطياف المجتمع. مع الوعي لهذه الملاحظة، أتبنى نمط الكتابة الحالي لضرورة نقل الأفكار المركزية وعدم التشعب في التعددية والتفاصيل الخاصة لمحدودية عدد صفحات هذا المقال.

ففي أمثلة أخرى، وعند غياب الأخوات، يفرض الزوج على زوجته العناية بوالديه بدل أن يفعل هذا هو بنفسه. فصانع القرار الحقيقي الذي يقف سواء على مقدمة المسرح الاجتماعي أو وراء الكواليس هو الرجل.

أ.د. خولة أبوبكر

محاضرة وباحثة أكاديمية، معالجة زوجية وأسرية مؤهلة ومرشدة معالجين مؤهلة

شاركونا رأيكن.م