لزوم مقاضاة مؤسسات الدولة بانتهاك حق النساء بالحياة والمساواة

أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان[1] يوم 10 فبراير 2022 بأن دولة جورجيا أخلّت بالحق بالحياة والحق بالمساواة وحكمت بتعويض مادي لعائلة إمرأة جورجيّة قتلت على يد زوجها[2] الشرطي يوم 25 من شهر تموز عام 2014 والذي أدين بقتلها المتعمد وحكم عليه بالسجن مدة أحد عشر عامًا.
أقدم الشرطي الجورجيّ على قتل زوجته بعد أن كانت قد قدّمت هي وعائلتها شكاوى عديدة ضده إلا أن الشرطة لم تقم بدورها ولم تحرّك ساكنًا إلى أن لاقت الزوجة حتفها على يد زوجها. ويستدل من قراءة حيثيّات القضية بأنه على الرغم من الشكاوى العديدة التي قدمتها المغدورة وأفراد عائلتها ضد زوجها إلا أن التحقيق بالشكاوى كان مستهترًا وصل أوجه حينما حذرت الشرطة المرأة من تكرار الشكاوى ضد زوجها الشرطي وهددتها بتغريمها ماديًا اذا ما قامت بتقديم شكاوى إضافية. كما كشفت المحكمة الأوروبية في قرارها بأن تحقيق الشرطة باعتداء الشرطي على زوجته وأفراد عائلتها كان على يد زملاء الشرطي المعتدي وبحضوره بحيث قام بعرقلة التحقيق والتشكيك بأقوال زوجته خلال الإدلاء بشهادتها أمام زملائه من أفراد الشرطة.
لجأت المغدورة قبل قتلها إلى المدعي العام مطالبة إياه بمحاكمة زوجها مؤكدة عدم ثقتها بجهاز الشرطة الذي تواطأ مع الشرطي – الزميل ولم يقدم لها أي حماية من استمرار تعنيفها النفسي والجسدي. اكتفى المدعي العام بتحذير الشرطي بعد أن وعد الأخير بالإحجام عن الاقتراب من المغدورة وبذلك تم اغلاق القضية دون حتى فتح ملف جنائي ضد الشرطي. لم تكتف المغدورة بهذه النتيجة واتجهت إلى مكتب مراقب الشرطة المسؤول عن محاكمات "الطاعة" ضد الشرطيين بمحاسبة الشرطي على أعماله مطالبة أن تكون العقوبة مخففة كونه في النهاية أبا لولدهما المشترك. خرجت المغدورة من مكتب المراقب لتصادف زوجها الذي اتضح لاحقًا أنه قام بتعقب تحركاتها. وبعد احتدام نقاش بينهما أمام أعين المارة قام الشرطي بإطلاق النار تجاه المغدورة وأرداها قتيلة.
قدّمت النيابة العامة ضد الزوج لائحة اتهام بتهمة القتل المتعمد وتمت إدانته لاحقًا بالتهم المنسوبة إليه وإنزال عقوبة السجن الفعلي مدة أحد عشر عامًا.
لم تكتف عائلة المغدورة بقرار الحكم وطالبت أجهزة القضاء الجورجيّة بالتحقيق بقضية سوء أداء الشرطة ومساهمتها بمقتل ابنتها علمًا أنها لم تقدم لها أي حماية وبدل ذلك أقدمت على ترقية الشرطي متجاهلة الشكاوى المتكررة ضده. لم تستجب أي من سلطات تطبيق القانون لهذا المطلب وتم تجاهله بشكل سافر. بالمقابل قامت العائلة بتقديم دعوى أضرار ضد الشرطة وجهاز المدعي العام طالبت فيها تعويضها بمبلغ 34000 يورو (120000 لاري) لتقوم المحكمة لاحقًا بتعويضها بمبلغ 7000 يورو فقط.
استمرت عائلة الفقيدة في معركتها القانونية لتصل إلى المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بدعوى ضد دولة جورجيا وأجهزتها القانونية التي أخفقت بتقديم الحماية اللازمة لابنتها المغدورة ولم تقم بتعويضهم ماديًا بشكل يتناسب مع حجم الإخفاق الذي أدى إلى المساس بحياة المغدورة على أساس جندري كونها امرأة.
قبلت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان الدعوى وأمرت بدفع مبلغ 35000 يورو للعائلة مع الإقرار بأن دولة جورجيا أخفقت بحماية المغدورة من العنف تجاهها، النابع من تمييز جندري وأنها بذلك تكون قد انتهكت حق المغدورة بالحياة مجتمعًا مع حقها بالمساواة.
ومن بين التقصيرات التي عدّدتها المحكمة في قرارها كان إهمال الدولة في التحقيق مع أفراد الشرطة ومدى تقصيرهم على مستوى الجهاز بأداء مهامه خاصة أنه لم يكن هنالك أي شك بأن الشرطة كانت على علم بممارسة العنف ضد المرأة واختارت أن تمتنع عن القيام بأي خطوة توفّر الحماية للمرأة وتمنع حدوث الجريمة المتوقعة. وانتقدت المحكمة قرار ترقية الضابط المتورط على الرغم من الشكاوى المقدمة ضده وعدم قيام الدولة فحص موضوع الترقية والمسؤولين عنه. تغاضي الدولة عن إخفاقات الشرطة والنيابة بالتحقيق وتوفير الحماية للمرأة يجعل منها شريكة بسمهدة الطريق لقتل المغدورة. كما جاء في قرار المحكمة أن دولة جورجيا ملامة على صعيد دولة كونها لم تهيئ طواقم الشرطة مهنيًا وتزودهم بأدوات خاصة لمعالجة شكاوى العنف الجندري والأسري. وأشارت المحكمة أنه حتى في المحاكم التي تداولت قضية المغدورة جنائيًا ومدنيًا لم يتم التطرق لقضية التمييز الجندري الذي يشكّل عاملًا مهمًا بالقضية لا يمكن التغاضي عنه.
اخترت التطرق لقرار المحكمة الأوربية أعلاه للتذكير بأن المساءلة القانونية في قضايا قتل النساء لا تقتصر فقط على الجاني الذي أقدم على تنفيذ جريمته البشعة وإنزال العقوبة بحقه. ضلوع المؤسسات وقصوراتها بعدم حماية النساء هو جزء لا يتجزأ من واجب المسائلة والمحاسبة. فموضوع المحاسبة والمساءلة لا يختزل فقط بعدد سنوات السجن التي تنزلها المحكمة بحق الجاني. أداء المؤسسات التي من واجبها تقديم الحماية لأي امرأة اشتكت من العنف في الماضي يجب أن يوضع تحت مجهر المحاسبة بشكل أوتوماتيكي مع كل جريمة قتل كجزء لا يتجزأ من الواجب الأخلاقي بمحاسبة الجاني المباشر وغير المباشر. التعامل مع قضية قتل امرأة لا يمكن أن يقتصر فقط بتحليل تهمة القتل بمعزل عن الأساس الجندري بل والكراهية التي تقف وراء القتل.
وفرت قضية مقتل المغدورة وفاء عباهرة من قرية عرابة الجليلية يوم 16.11.20 فرصة قد تكون الأولى من نوعها والتي استطعنا من خلالها الانكشاف إلى إخفاق الشرطة وأجهزة الرفاه الاجتماعي حماية المغدورة التي طالما اشتكت من زوجها وتهديداته. كما في حالة المرأة الجورجية أعلاه، قام أفراد عائلة المغدورة وفاء عباهرة بتوجيه الملامة مرارًا وتكرارًا نحو جهاز الشرطة ومكتب الخدمات الاجتماعية اللذين فشلا بحماية المرحومة وفاء ليوفروا بذلك الأرض الخصبة لطليقها بالشعور بالراحة التامة في تعقبها وانتظار لحظة دخولها بلدتها في وضح النهار ليقوم بالاصطدام بسيارتها عمدًا والخروج منها ليطعنها عدة طعنات ويرديها قتيلة. رفضت السلطات مطلبا تقدمت به باسم جمعية كيان بإقامة لجنة تحقيق حول قصور المؤسسات بحماية المغدورة وفاء عباهرة. جاءني رد المستشار القضائي للحكومة مفاده بأنه قدّمت بحق الجاني لائحة اتهام بتهمة القتل المتعمد ملمحًا بذلك أن الدولة قامت عمليًا بواجبها تجاه المغدورة. ومن خلال متابعتي وزميلتي المحامية نسرين مصاروة من مؤسسة كيان قضية القتل في المحكمة (باسم وبمرافقة العائلة) بات من الواضح أن كل شهادة يستدل منها إهمال المؤسسة توفير الحماية للمغدورة لا تشد آذان القضاة لأنهم يرون بواجبهم الاستماع فقط إلى الشهادات المقدمة أمامهم بما يتعلق بضلوع القاتل فقط بالقتل وفيما إذا قام بالقتل المتعمد أم لا. فشهادة أحد أفراد الشرطة بأنه كان على يقين بأن نتيجة قضية الخلاف بين المرحومة عباهرة وطليقها ستكون القتل، لم تقلق القضاة ولم ير أي منهم حتى الحاجة للسؤال "لماذا لم تقوموا بدوركم وتحموا المغدورة طالما علمتم أن الجاني ينوي فعل ذلك"!
للمرأة حق دستوري بالحياة وهو يعرف بأسمى الحقوق الدستورية وأهمّها. واجب حماية هذا الحق ملقى على الدولة. محاكمة المجرم على جريمته لا يعفي أي دولة من ضرورة محاكمة أجهزتها بعدم توفير الحماية المسبقة للمرأة. دولة تمتنع عن محاسبة أجهزتها بشكل شفاف بعد كل جريمة قتل لامرأة هي شريكة بانتهاك حق المرأة للحياة والمساواة.

 

الاحالات:

  1. للاطلاع على القرار https://hudoc.echr.coe.int/eng#{%22itemid%22:[%22001-215716%22]}

  2. لم يقدم الزوجان على الزواج الديني لكنها أقاما علاقة زوجية بمنزل مشترك ولذا سيرمز اليهما ب"زوج" "وزوجة".
     


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م