"برعاية كورونا" نهج جديد لسوق العمل والمؤسسات وطواقمها

جائحة كورونا وتبعياتها دخلت حياتنا في العام 2020 وأحدثت فيه بلبلة، وضجة وشكوكا والكثير من التغييرات بمجالات عديدة في حياتنا اليومية الجارية. رغم ذلك اسمحوا لي في هذا المقال على غير المعتاد عن كل ما يخص كورونا أن أتناول الجوانب الإيجابية التي حصلت "برعايتها". حيث غيرَّت وبدلت مفاهيم متعددة، وأظهرت لنا الوجه الثاني للعملة، وكشفت لنا جوانب بذاتنا وإمكانياتنا الأخرى على عكس ما اعتدنا عليه، فأصبحنا نحب الإشارات والنتائج "السلبية" ونبغض الإشارات والنتائج " الإيجابية" مثلا.

كما تغيّر مفهوم المحبة والوّد لمن نحب حيث تحول من المجاورة والقرب إلى البعد والتباعد لحرصنا على سلامتهم وأمنهم. إضافة إلى إعادة توجيه البوصلة من خلال تقدير وتثمين عمل الطواقم الكادحة والمورد البشري، مثل الطواقم الطبية وطواقم التدريس الذين كانوا في الواجهة والصفوف الأولى لمحاربة الجائحة.

أما خلق المفاهيم الجديدة والأسس القانونية للإجازات بدون راتب وشرعنة البطالة وتمويلها على يد الدولة والوزارات المعنية بذلك. وكل ما يخص أماكن العمل والمؤسسات والطواقم فهي كانت المسبب الأول لتغيير 360 درجة من نهج سابق لنهج جديد في عالم المؤسسات وإدارة الطواقم. فهي أتت وأوجدت نهجا وثقافات مؤسساتية غير اعتيادية، من التباعد والتحديثات التكنولوجية منها منح خدمات عديدة كانت وجاهية بيروقراطية مستفزة وأصبحت حديثة متاحة سلسة بعض الشيء وعن بعد. وكل ما يخص خدمات التوصيل والإرساليات انتشرت وأصبحت لا تقتصر على منطقة جغرافية معينة أو على منتج خاص.

إضافة لإرشادات إدارية مؤسساتية تنظيمية، وأنظمة عمل الموظفين عن بُعد التي كانت تُعد من ظروف العمل المرنة والمرفهة لشركات الهايتك الكبرى. فهي أصبحت اليوم معتمدة ودارجة أيضا بمؤسسات صغيرة، متوسطة وكبيرة متعددة المجالات ولا تقتصر على الهايتك فقط.

أصبح هناك إعادة برمجة "برعاية" كورونا لمفاهيم وطبيعة العمل بشكل عام وعلاقة المشغل بالموظف والعكس تماما. من خلال زعزعة مكانة الوظيفة التي كانت للبعض كمكانة ثابتة، مضمونة وكمنطقة الراحة. ومفهوم الموظف للمشغل بطبيعة عمله وتواجده وإنتاجيته التي باتت ما قبل كورونا مفهومة ضمنا. ودخول مصطلحات عديدة جديدة مثل "موظف حيوي" و"غير حيوي وتساؤلات حول طبيعة الوظائف والرتب وأهميتها وضرورتها وهكذا.

في ظل هذه البلبلة والضوضاء وتبديل الأحوال والتقلبات، للبعض كان هناك شيء من إعادة ترتيب لمسيرة الحياة وخلق فرص جديدة واكتشاف للذات. مثلا أشخاص أشغلوا وظائف في مؤسسات وكانوا من ضمن طاقم العمل كأجيرين وباتوا على يقين أنهم في وظيفة "العمر" التي لا تُبدَل وأن هذا الشيء الوحيد الذي يمكنهم فعله وهذا مجال عملهم الاعتيادي لهم ولبيئة حياتهم، فأتت جائحة كورونا وبرعايتها وتحت كنفها اكتشف البعض مهارات ومجالات أخرى تهمهم وبإمكانهم الاندماج بها كمستقلين وأن بداخلهم أكثر مما يتوقعون، وأن حياتهم لا تتلخص بعمل ثابت ومجال واحد.

وإن أردنا الخوض والتحدث عن المهارات المستجدة فأصبح هناك "صحوة" في سوق العمل وفي إعادة النظر في متطلباته من مهارات تغيبت لفترة فأصبحت "برعاية" كورونا على المحك وفي سلم المهارات والقدرات المطلوبة. مثل القدرة على الإدارة القيادية عن بعد، فبفضل كورونا أدخل بعض التغيير على النمط التقليدي المعتمد للإدارة الجارية بغالبية المؤسسات ومُنحت مساحة من الصلاحيات، وغيرها من الأمور. أما مهارة التكيُّف والتلاؤم مع الظروف المستجدة، فهي باتت من أبرز المهارات التي ساعدت في التغلب على التحديات التي واجهت المؤسسات في هذه الجائحة من التقلبات والتغييرات خلال سيرورات وتعليمات عمل مستجدة التي في حالات كثيرة لم يمر على إعلانها واعتمادها وتطبيقها في آن واحد أكثر من أربعة وعشرين ساعة. بالإضافة لمهارة التكيف والتلاؤم هناك مهارة مكملة ومهمة لها وهي مرونة التفكير، ففي الحالات المستجدة التي ذكرت أعلاه تحتاج المؤسسات لكادر لديه هذه القدرة وببراعة، ليتمكن من التلاؤم مع المستجدات والقرارات من خلال مرونة التفكير. أما المهارات التكنولوجية، التي فُرضت على مؤسسات ومصالح عديدة، فهي كانت المنفذ لإكمال سيرورات العمل ومنح الخدمات من خلال منصات عديدة بأقل خسائر، بل ولدى البعض كانت المسبب بانتعاش وازدهار سيرورات العمل المؤسساتية فبتلك المهارات التكنولوجية أصبحت "برعاية" كورونا واقعا افتراضيا معززة. أما مهارة وقدرة الإبداع والابتكار، فكانت من المهارات التي أكدت أن الإبداع البشري أساسي لإعادة توجيه البوصلة من خلال أمور عديدة منها طرق منح الخدمات التي تتلاءم مع عالمنا الجديد وغيرها من الأمور والظروف الأخرى. أما قدرة التفكير النقدي، التي تُعد من أرقى أنواع التفكير، فمن إسهاماتها أنها تساعد في الوصول لقرار وفق معايير محددة، وكان واضحا خلال الجائحة كيفية اتخاذ القرارات وأهميتها وإسقاطاتها.

أما المهارة التالية والتي سأسميها بمهارة السهل الممتنع وهي مهارة الذكاء العاطفي (EQ) وسآخذكم معي في الخيال للحظة، وتخيلوا الدمج بين قدرة التفكير النقدي ومهارة الذكاء العاطفي التي تعد من إحدى المهارات القيادية الأساسية المهم أن تتوفر في المورد البشري والتي تمكنه من إدراك مشاعره والتعبير عنها والسيطرة عليها وبنفس الوقت الوعي لمشاعر الآخرين في حالات عديدة منها حالة الأزمات وعدم اليقين والمستجدات المجهولة والظروف المشحونة كالتي مررنا بها كمؤسسات وطواقم وأصحاب اتخاذ القرار، فكيف سيكون برأيكم نتيجة اتخاذ القرار وقيادة مؤسسة كادرها وطواقمها أصحاب لهذه القدرات؟

لا شك أن جائحة كورونا أتت وجلبت معها الكثير من الجدل، فهي كانت وما زالت حاضرة وأحدثت ولا تزال تحدث بلبلة واختلافات في الرأي وصراعات اقتصادية اجتماعية إنسانية وصحية وبنطاق واسع جدا. ورغم ذلك هناك بعض من النور بجوانب معينة والتغيير بنهج المؤسسات وسوق العمل وطواقمه و" برعاية" كورونا سرعت وتيرة ومسار هذا التغير وتحديث الكثير من سيرورات العمل التي كانت ستظل هناك بالأفق مكانها لولا كورونا.


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

مروة مجادلة بدران

مستشارة تنظيمية ومختصة في مجال الموارد البشرية

شاركونا رأيكن.م