القدس ومقدمة رواية لم تنته

وحينما يأتيك بريد الكتروني من منصة " فارءه معاي" لتكتب شيئا عن القدس أو عن أحداثها ووجعها وهواجسها وسكانها و حواريها في صفحة ونصف، في اليوم الأول احتفلت بهذا البريد وقلت في نفسي أي تشريف هذا وأنا الذي سيكتب القصة كلها، أما بعد أيام بدأت الفكرة تصبح ثقيلة، والمهمة صعبة جدا، وبدأت ابحث بكل الوجوه المتسكعة في المدينة القديمة عساني أجد شخصية أحكي عنها، والكارثة أن كل وجه كنت ألاقيه يليق به كتاب كامل يروي تفاصيل يومه، فبدأت خوفا أتهرب من الرسائل الواردة من الزميلات في المنصة، أي مهمة قاسية وأي مقالة سأكتبها عن القدس وسكانها؟!

كان "بيلاطوس" يترنح أمامي لأكتب عنه، ومريم المجدلية طلبت أن أنصفها في مقال، فهي من ظلمها التاريخ القديم، حتى سمعان القيوريني الذي حمل الصليب مع ابن مريم لا زال يجلس في حقل يعمل فيه أجيرًا على أطراف المدينة، وسفرينيوس و فيرونيكا و كلهم ما زالوا هنا، عمن أكتب؟!

قررت أن أكتب عن رحلة الإسراء و المعراج والقبور الإسلامية القديمة وعن المغاربة بالقدس وعن المماليك الذين أبدعوا في البنيان ما بين مدارس وقصور ومعالم ما زالت حاضرة حتى اليوم، فلم أنجح في اختيار القصة التي ستدهش القارئ العاشق لقصص المدينة، فقررت أن أهرب من التاريخ المعقد وأكتب عن المدينة التي تئن تحت الاحتلال و عن تهويدها و تغيير معالمها.

باب العامود هو المكان الأول الذي حرضني أن أكتب عنه، ثم الحوانيت التي ما زالت فلسطينية، وحارس أملاك العدو والخنجر المغروس في خاصرة السكان من قوانين بريطانيا الجائرة، النزل النمساوي وطريق الآلام والجالية الأفريقية و"حوش الزوربا" المهدد وحائط البراق والمبكى الصغير وخان أبو خديجة وسطوح الخان والقلعة التي باتت متحفا توراتيا بلا مئذنة، ومقبرة مأمن الله والباب الجديد الذي أضحى كسوق "محنيه يهودا" وبيت صلاح الدين بالخانقاة الصلاحية، كلها مواضيع تصرخ في وجهي أن اكتب عنها وكل زاوية تعتقد أنها الأهم.

قررت أن أبتعد عن الأماكن و المعالم التي تعج بالخلافات التاريخية وأن أبحث عن أشخاص تركوا بصمة لهم بيننا، بدأت البحث عن المرأة التي تعيش المعارك اليومية في القدس لأثبت أن المدينة تلك فيها نسوة لا نسوة مثلهن بالعالم، هنادي الحلواني مثلا وخديجة خويص وفاطمة خضر وسعاد المحتسب وهالة شريف التونسية المشاكسة التي رفعت علم فلسطين وسط حشودهم في ما يسميه الإسرائيليون "يوم توحيد القدس" عند باب العامود، ومنى عطية السيدة التي تسكن بحي الشيخ جراح وطالبت مستهزئة بحفر أنفاق كي تصل الإمدادات إلى بيتها إبان الحصار على الحي، ولمى غوشة التي حرمها الاحتلال من أبنائها وفرض عليها إقامة جبرية في بيت أهلها بحجة أنها كتبت منشورًا تحريضيًّا رغم أنها صحفية حتى أني فكرت بالحديث عن أمي التي ما زالت تراقب منشوراتي الافتراضية وتتحمل تسكعي في الزقاق، فقررت أن كل النساء في المدينة لهن نصيب من الكتابة، فممنوع أن نخص بالكتابة إحداهن دون غيرها.

الحقيقة أن من يحاول أن يكتب عن مدينة تعج بالتفاصيل والتاريخ والأحداث هو مجنون، لكنني سأحاول لعلي أرسم في صفحة ونصف كما طلبت مني صورة عن تلك المدينة، فلنحاول أن نكتب عن وجعها اليومي في سطور، هدم البيوت هنا خبر يومي مكرر وممل، الاعتقالات لا تنتهي والكل معرض لقرار إبعاد أو اعتقال إداري بلا أي تهمة حقيقية، القتل هنا مقزز، قد لا تعجب تفاصيل وجهك الجندي فيطلق عليك النار، الضرائب التي تطارد السكان والتجار والعوام، الترميم المحظور لبيوت الفلسطينيين بالبلدة القديمة، الإبعادات اللعينة لكل عابر سبيل بلا مبرر، والمناهج المطاردة من سيف المعارف الإسرائيلية، وقانون السيادة الذي يتربص بمؤتمراتنا وأفراحنا وحتى بيوت العزاء، ممنوع أن يأخذ الحدث صبغة فلسطينية كما وعد ترامب، فالكل مطارد في تلك المدينة منذ حرب حزيران، هل منكم من يحدد لي موضوعا لنكتب عنه!

عند هذه الفقرة بدأت أقترب من الحد الأقصى المتاح من الكلمات، لكن لا زالت المقالة ببداياتها، وكأننا لم نبدأ الجولة بعد، ولا زلنا عند أول مرحلة من رحلتنا.. يخطر في بالي سؤال دائما يسأله الإعلام لي عن سبل تعزيز صمود أهل القدس فدائما الإجابة عندي تكون مكررة، "يجب علينا أن نتعلم قليلًا عن تاريخ المدينة ووجعها، وعلينا أن نتجول في حواريها دومًا، ولا بد لنا من الوقوف قليلًا عند باب سجن المسكوبية لنتبادل الحديث مع العائلات التي تنتظر أبناءها، وجولة في المشافي والمدارس والأسواق ولا ضير من زيارة بعض بيوتها لنرى أن المقدسي يعيش في مخازن ومتاجر وإسطبلات قديمة ومهجورة، ووقفة سريعة عند المحكمة الشرعية مثلا كفيلة أن تشرح لنا مدى تأثير الوضع السياسي على بيوتنا وأطفالنا ونسيجنا الاجتماعي المهدد بمزيد من الاقتتال المنهك لمجتمعنا برمته.

في الختام، شكرًا على هذه الفرصة لتسليط الضوء على يوميات المدينة، لا أعرف إن نجحت بالمهمة أم أخفقت، هي محاولة أثرت بي، لما تطلبته من تنقيب في التفاصيل الدقيقة وتفاصيل الوجوه والحكايات والقصص المهملة، الأسماء التي ذكرتها قد لا يعرفها محرك البحث لكن تعرفها المدينة والبسطاء فيها، فهي دعوة لكم لتأتوا إلى المدينة وتكتبوا أسماءكم على سمائها وعلى عتبات أبوابها.



كاتب المقال: أسامة برهم وهو ناشط مقدسي.

رأيك يهمنا