إسرائيل تغيرت... هل نعي عمق التغيير؟

في الانتخابات الاخيرة أكملت إسرائيل دورة إضافية في تغييرها العميق في عملية مستمرة منذ عقود وتصل ذروتها مع تمكن اليمين الديني والفاشي من السيطرة على المشهد السياسي فيها. هذا اليمين لن يفلت هذه المرة الفرصة من يديه ولذلك هو ذاهب إلى تنفيذ مشروعه المتمثل بتثبيت توغل يهودية الدولة ليس على بعدها القومي فحسب، بل على بعدها الديني أيضا. وفي مركز هذا المشروع ثلاثة محاور: المسجد الأقصى والاستيطان ومكانة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.

لا يخفي اليمين عبر تصريحات ممثليه وحاخاماته وبكتاباتهم مشروعهم هذا وهم يعتقدون بأن نتائج الانتخابات الأخيرة حسمت مسألة التوتر بين يهودية الدولة وديمقراطيتها إلى امتثال كل شيء بما يشمل المبادئ الديمقراطية لمشروع الدولة اليهودية ليس فقط بتحديد طابعها وهويتها الرمزي وإنما بالممارسات على أرض الواقع وعلى امتداد الحياة السياسية والاجتماعية. هذا الاعتقاد لليمين يرافق بشغف وحماسة وثقة بالنفس مع غياب تام لأي جهد إسرائيلي-يهودي منظم من القوى العلمانية التي عولت على البقاء على توازن ما بين يهودية الدولة وديمقراطيتها. يكتشف الآخرون بأن “المسخ تمرد على خالقه” وأن البعد الديني، بسبب تكوينه العقائدي والخلاصي، في الثنائية التي اعتبرت جوهر الهوية، أي أن لا فصام بين اليهودية والقومية، لن يهدأ إلا بالسيطرة التامة على الديمقراطي في هوية الدولة. يكتشف الإسرائيليون أن نظامهم ليس بالقوة التي تمكن من المحافظة على التوازن بين اليهودية والديمقراطية وأن هذا النظام لن يتمكن من امتصاص التزام القوى الدينية القومية ويرشدها في اللحظة الحاسمة. في هذا السياق يتجلى قانون القومية بأنه أكثر خطورة ليس فقط على العرب، المستهدفين الأساسيين، بل اليهود أنفسهم. 

بالإضافة وبما يخصنا، يعتقد اليمين أن الانتخابات الأخيرة حسمت مشروع اليمين تجاه الفلسطينيين عموما وعلى المحاور التي ذكرتها أعلاه:

أولا، حسم مسألة المسجد الأقصى وممارسة الشعائر الدينية اليهودية فيه استمرارا للجرف في الرأي العام اليهودي بهذا الشأن. هم يعتقدون بأن التهديد الإسلامي والعربي بشأن الأقصى هو وهم وأن العرب والمسلمين في النهاية سيتقبلون الأمر الواقع وأن الساعة مواتية لفعل ذلك بحالة التردي العربي العامة وحركة التطبيع، المعلنة والخفية، مع الدول العربية.

ثانيا، حسم مسألة القضية الفلسطينية باستيطان نوعي وكمي يمنع وبشكل معلن أي إمكانية لدولة فلسطينية ويبقي الفلسطينيين بحالة دائمة من العزلة ونظام "أبرتهايد" واضح ومشرعن.

ثالثا، دفع وضع حالة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل إلى حالة أقرب لحالة الفلسطينيين في الضفة الغربية وذلك بوضعهم بشكل دائم بحالة توتر وانكماش لحقوقهم المدنية وربط هذا الانكماش بهويتهم الجماعية كفلسطينيين ومنعهم من التعبير عنها . سيرافق ذلك بشكل مستمر تحشيد المجتمع اليهودي ضدنا وافتعال أحداث واستغلال ظروف (مثل العنف والجريمة) لإعطاء شرعية ودعم الشارع الإسرائيلي لها وتسويغها قانونيا. إن الهامش الذي تحرك به الفلسطينيون هنا ومكنهم من بعض الإنجازات المهمة سيتضاءل بشكل جدي، ولكنه لن يختفي مقارنة بالوضع في الضفة الغربية وذلك لإبقاء تراتبية في المكانة بينهم لمنع إمكانية تشكيل وحدة فلسطينية تتحدى الوضع الجديد.

ينظر ويراقب العرب الفلسطينيون هذا التغيير، أو هذا الصدام المرتقب، ولكن لسان حالهم أنهم لم يذوتوا حقيقته ومخاطره وأنهم غير مستعدين لمواجهته. إن خطابهم وتصرفهم السياسي ما زال قابعا في الفترة ما قبل الانتخابات: ذات السجالات والخلافات وبالأساس ذات النظرة إلى إسرائيل وجوهرها. لا يوجد أي محاولة جديدة جدية للتعامل مع الحالة الجديدة لأنها تحتاج إلى جهد كبير على مستوى تحدي نمط التفكير الذي سجن الفلسطينيون أنفسهم فيه وأيضا لأنه بحاجة إلى جهد آخر ومضن على مستوى الفعل والتنظيم على أرض الواقع. بالإضافة إلى أن المواطن العربي لا يستشعر الخطورة بعد ويعتقد بأن الحالة هي موجة عابرة سنتجاوزها كما حدث مع حالات أخرى.

على مستوى التفكير كما على مستوى الفعل فقد تأخر الفلسطينيون في ابفهم والرد على التبعات الفعلية لمفهوم يهودية الدولة ولم يشكلوا حالة رفض جدية لقانون القومية ولم يثابروا بذلك، وبذلك مكنوا لسرعة توغل هذه الفكرة. ولعل هذا النمط من الفعل وعدمه هو أمر يشكل سمة لهم: فهم يضعون وصفا للظواهر ومخاطرها ويضعون خطوطا حمراء لها، ولكنهم سرعان ما يتجاهلونها وعندما يتم خرق الخط الأحمر يضعون خطا أحمر آخر. هذه الحالة من “الصوت العالي” مقابل “الفعل الباهت” أعطت إسرائيل ويمينها الانطباع بأن العرب كثيرو الكلام قليلو الفعل وإن تهديدهم فارغ من أي مضمون فعلي فيمكن التغلب على أي رد فعل وبسهولة ولذلك الطريق لتمرير أي سياسة ضدهم ممكنة وتغيير واقعهم للأسوأ ممكن وإن رد فعلهم معلوم ومحسوب. لقد انكشفت نقطة ضعفهم أمام الآخر.

هذا النمط في الرد على التحديات مرتبط بالتقوقع داخل مفهوم معين للمواطنة ومفهوم معين للسياسة يشلان إمكانية جسر الهوة بين توصيف الحالات إلى الفعل لمواجهتها. هناك ارتخاء مجتمعي وقيادي داخل هذين المفهومين وداخلهما فقط تتفاعل السياسة العربية وتنحصر. لم تكسر السياسة العربية هذا الطوق الوهمي ولم تنخرط داخل مجتمعها ولذلك لم تستطيع أو لم تحاول تنظيمه وتحضيره لمواجهة الحالة اليوم.

إن الاسترخاء في ظل مفهوم أحادي للمواطنة أبقى السياسة محصورة في محور العلاقة بين العرب وبين الدولة. إنها مبنية على مبدأ المطالبة بحقوق تتضمنها المواطنة. المشكلة هي “إدمان” هذا النوع من الفعل داخل المواطنة وعدم تذويتها كحالة اجتماعية تنخر في كل مؤسسات المجتمع الملتصقة به أكثر مثل المجالس المحلية والبلديات والمجتمع المدني... إلخ. وأيضا إعطاء الانطباع للآخر بأن لا خيارات لنا سوى الارتباط بهم وأننا كمجتمع لا نملك إدارة أي شأن داخلي بدون اللجوء لهم. في هذا الفصل الذي نحدثه بين مواطنة مقابل دولة نطالب منها حقوقا ومواطنة داخل المجتمع فإن عملية بناء المجتمع وتنظيمه لذاته تتوقف. كل الجهد يركز على المواطنة الأولى لأنها المنطقة المريحة لاعتمادها على المطلبية وتمثيل الناس أمام الآخر ومؤسساته. أما النوع الثاني يحتاج إلى جهد ومواجهة بنى وقوى اجتماعية وهو أمر لا نقوم به أو لا نريد أن نقوم به. المواطنة كقائمة مطالب ينحسر النضال فيها تحجز عنا المواطنة كعملية بناء داخلي هي ساحة النضال وجوهرها. في هذا السياق وداخله سجنت السياسة العربية نفسها وحدود خيالها وبالتالي فعلها هو المواطنة من النوع الأول.. يجد الفلسطينيون أنفسهم بسبب ذلك، وأسباب أخرى، غير جاهزين لمواجهة الحالة الجديدة ويحبذون العيش بوهم إسرائيل التي اعتادوا عليها والتي تعطيهم متنفسا ما داخلها (مقابل ما يحدث في الضفة).

ما العمل؟

قراءة جدية وسريعة للواقع الجديد والإقرار به وإقرار جملة من الإجراءات تتعلق بإعادة تنظيم مجتمعنا سياسيا، وقطريا ومحليا. التوجه بشكل واسع وعلى امتداد المجتمع العربي في عملية تنظيم لجميع مرافق الحياة تقودها المجالس المحلية والأحزاب والفعاليات المجتمعية. اتخاذ مواقف محددة وملزمة بكيفية التعامل مع رموز المرحلة الجديدة في الحكومة. على الأحزاب والحركات أن تنفض عن أنفسها ترسبات الخلافات العبثية وتشكيل غرفة تنسيق موحدة لمواجهة الحالة الجديدة وتداعياتها. الانفتاح، نفسيا وعمليا، على الارتباط أكثر، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، مع امتدادنا الفلسطيني. تغيير جدي في عمل المجتمع المدني من التركيز على تغيير السياسات أمام الدولة ومؤسساتها إلى الانخراط بعملية بناء المجتمع وتنظيمه.


كاتب المقال: المحامي رضا جابر وهو مدير "مركز أمان- المركز العربي لمجتمع آمن".

المحامي رضا جابر

محام وباحث مختص بالقانون والسياسات العامة

شاركونا رأيكن.م