الحاضر الغائب.. دور الحكم المحلي العربي في منع الجريمة

لا يحاجج أحد على أهمية الحكم المحلي في حياة المواطنين بشكل عام ولكنها تأخذ أهمية قصوى عندما نتحدث عن المجتمع الفلسطيني في الداخل. إن علاقتنا المعقدة مع الدولة ونظامها والتغيرات الاجتماعية الهائلة التي طرأت على مجتمعنا تجعل للحكم المحلي وظائف إضافية غير الوظائف التقليدية له. واضع غياب هذا الدور كأحد أهم أسباب استفحال الجريمة والعنف داخل مجتمعنا.

في هذا المقال أحاول أن أوضح هذه الأهمية وأسباب نشوئها وعلاقتها بموضوع ظهور الجريمة والعنف كفاعل داخل المجتمع والحكم المحلي وطرق الخروج من هذه الازمة. وسأفعل ذلك بشرح الجدل بين البنى structure (بنى الدولة ومؤسساتها وما تخدمه) والتغيرات الاجتماعية الداخلية process والتي أدت الى تحول الحكم المحلي العربي عوضا عن القيام بوظائفه المتوخاة، أصبح جزءا من الأزمة نفسها وفاعلا فيها.

بنى الدولة والحكم المحلي العربي structure:

اتسمت سياسة الدولة مع المجتمع الفلسطيني منذ قيام الدولة بثلاث صفات أساسية: السيطرة والمراقبة والإهمال المتعمد. كان وما زال التعامل مع الحكم المحلي الفلسطيني محكوما لهذه السياسة والتي اثرت بشكل مباشر وأساسي على ظهور ازماته الاجتماعية وتطورها واستفحالها.

ان هذه السياسة أدت الى إبقاء مجتمعنا بحالة هامشية مزمنة في الساحة الخلفية للمجتمع اليهودي. لقد وجهت وبشكل مطلق سياسة وتصرفات الوزارات المختلفة وموظفيها لتنفيذ سياسة الدولة ورغباتها المعلنة وغير المعلنة فالاستثمار في البنى التحتية وتطور بلداتنا، التخطيط والبناء والحيز العام، التعليم وتطوير المجال الثقافي وكذلك التدخل السريع بحل أزمات للمجتمع، كلها وغيرها محكوم لتنفيذ هذه السياسة. في ظل هذا الوضع فإن الأزمات تتراكم وتتطور وتجد فرصتها في الزمان والمكان لتنفجر.

الحكم المحلي العربي هو جزء أساسي من هذه السياسة أو بنى السياسات تجاه العرب وهي بنى صلبة وإن تظهر بعض المرونة في حالات معينة وأزمنة معينة. تاريخيا تم استغلال الحكم المحلي العربي كأداة سيطرة ورقابة باستخدام البنى الحمائلية وتوجيه التغيرات الطبيعية في وظائفها، بحكم تغير المجتمع وتطور مصالح افراده وتعقيداتها، باتجاه تحويلها الى عملية تنافس شرسة تجزء البلد في صراعات تمنع أي إمكانية لتطوير انتماء محلي عابر للانتماءات الحمائلية يخدم المجتمع ويطوره عوضا عن خدمة أجزاء متناحرة منه. هذه الحالة من الحكم المحلي لها تبعات هائلة أهمها ضرب التكافل الاجتماعي والشعور بالعدالة الاجتماعية المحلية وتسريع عمليات الفردانية ذات النزعة الأنانية للمواطن وبالتالي خلق جو عام وتربة مواتيه لإمكانية تطور الجريمة وحالة استقواء أفرادها داخل بلداتنا.

في هذه الحالة لم يترك الحكم المحلي خاليا من إمكانيات مادية لتطوير بلداتنا وحسب بل ترك بدون أي ضابط قانوني لتعاملاته وعلاقاته مع مواطنيه. حيثما يوجد سلطة هناك إمكانية لاستغلالها بغير الصالح العام وللفساد. ومجالسنا ليست استثناء عن ذلك ولكن الاستثناء هو التخلي المتعمد للدولة عن سلطاتها في الرقابة المطلوبة هنا والمساءلة عندما يتعلق الأمر بالمجتمع العربي. فللدولة منطقان من الرقابة: الرقابة التي تخدمها وهي تستخدمها بشكل جدي اتجاهنا والرقابة التي لا تخدمها فهي تضع عدم استخدامها عندنا بتسويغات تتعلق بالثقافة الداخلية للبلدات العربية.

حالة الفوضى هذه مع حالة العجز الموضوعية للحكم المحلي العربي هي نتاج سياسة الدولة وهي مشكل أساسي في ظهور الجريمة وفشل مناهضتها. ولكني اعتبر حالة الفوضى اقصى وأخطر على مجتمعنا لما تبعها من افساد لأسس أخلاقية عميقة في التعاملات بين المواطنين تؤجج اللجوء إلى العنف أحيانا وبما فيها من إهدار لمقدرات وقدرات المجتمع لذلك التعامل مع هذه الجزئية يجب أن يحظى بالأولوية سابقة على الموارد.

التغيرات الاجتماعية الداخلية:

استمرارا لما بدأت به بالنسبة للتغيرات الاجتماعية فبالإضافة بما يتعلق بدور الحمولة ومكانتها، هناك تطورات تتعلق بالضبط الاجتماعي في الحيز العام وانفلات إمكانيات حل الخلافات من يد المؤسسات الاجتماعية التقليدية وتوغل النزعة الفردانية على حساب التكافل الاجتماعي وغيرها. كل هذه التطورات افقدت المجتمع توازنه الداخلي واحدثت فراغا مؤسسيا يقود الناس ويعوضها ضمور البنى التقليدية. هنا كان للحكم المحلي العربي الدور المأمول في سد هذه الثغرة الامر الذي لم يحدث بل وله دور سلبي فيها. كان متوقعا ان الحكم المحلي، على المستوى الاجتماعي، يقوم بالدور الذي تخلت عنه الدولة ويقاوم سياساتها ونتائجها. بغياب هذا الدور أُبقِيَ المجتمع خاليا من مؤسسات حقيقية ترعى شؤونه وتحل أزماته.

في هذا الوضع تتلاقى بنى الدولة وسياساتها وإفرازات لتغيرات اجتماعية لا تجد من يحلها، وغياب حكم محلي يمثل البلد ولا مجموعات فيه، فإنه حتمي أن تظهر به الجريمة وتجد منفذا لأشد الأماكن ضعفا فيه: الطبقات الفقيرة لتستغل أفرادا منه كوقود بشري لها، أزمات الناس وخلافاتهم والحكم المحلي لما يتمتع به من سيطرة على موارد ومصالح.

لذلك فإن التحدي الآن ليس فقط باتجاه دور الدولة ومؤسساتها وإنما وبالأساس تجاه أحداث ثورة مجتمعية في الحكم المحلي تنهي سيطرة مجموعات متنفذة ومستفيدة ومنتفعة من البنى الاجتماعية التي تسيطر وتضعف الحكم المحلي العربي وأحيانا تتآلف، بشكل مباشر أو بالتغاضي، مع الجريمة.

المعادلة تبدو واضحة الآن: بقاء الحكم المحلي على ما هو عليه هو المانع الأساسي الثاني بقوته لمناهضة الجريمة بجانب سياسة الدولة ودورها. وإن أي محاولة للتعامل مع مشاكل الحكم المحلي بمنطق الإصلاحات (منطق المخططات الحكومية) وليس التغيرات الجذرية فإنه قد يؤثر على حالة الجريمة ولكن لن يحلها.

المحامي رضا جابر

محام وباحث مختص بالقانون والسياسات العامة

شاركونا رأيكن.م