تغييب الدور الاقتصادي للمرأة الفلسطينية في الخطاب الاستشراقي

لطالما وصف الأوروبيون، ومن ضمنهم موظفو وموظفات حكومة الانتداب ومَن قَبلهم من رحّالة ورجال ونساء البعثات التبشيرية وغيرها، النساء الفلسطينيات على أنهن خاملات، عاجزات عن العمل والتأثير بمجتمعهنّ بل وذوات موقع ضعيف داخل عائلاتهنّ. وامتاز خطابهم الاستشراقي، وخطاب نساء بريطانيات وإسكتلنديات عشن في حيفا ويافا والقدس والناصرة، برسم صور نمطية للمرأة القروية التي شاهدنها تصل إلى المدينة ضمن مجموعة قرويات أخريات، لبيع الخضار أو منتجات الحليب، أو مع أحد أفراد العائلة الذكور لزيارة طبيب أو غيره، فكتبوا استنتاجاتهم عن كونها متأخّرة، غير متعلمة، مسلوبة حق التنقل بذاتها ولوحدها. كان الخطاب الكولونيالي أيضا قد تعدّى النص المكتوب، إلى الصور الفوتوغرافية أيضا فحصر النساء بأدوارهن التقليدية، وبانعدام حيلتهنّ أو مقدرتهنّ على إدارة شؤونهنّ بأنفسهنّ. كتب الباحثون الغربيون أبحاثهم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها على أساس هذه الصور النمطية، واستمدوا موادهم الأساسية من تقارير رسمية، ونصوص شخصية، كتبها ممثلو حكومة الانتداب، أو أفراد من بعثات تبشيرية، تجاهلت إلى حد كبير، أو أخفت كليا، دور النساء كقوة عمل منتجة لرأس المال. إذًا، كانت تلك كتابة عن بعد، لم تعطِ المرأة الفلسطينية الفلاحة الكادحة حقها. بينما، عندما يستذكر كل منا نساء قريته، يجد أنّ دورهنّ في الاقتصاد الفلاحي كان هاما جدا، وأن حجم عملهنّ كان كبيرا، خاصة في كل ما يتعلق بالزراعة والعناية بالمحصول بكل مراحل نموه وقطفه وتصريفه. عملت معظم النساء والفتيات في الحقول والبساتين، بأجر أو بدون أجر، لكننا أيضا سنتذكر أن القابلات ومعلمات مدارس الإناث ومديرات المدارس والممرضات والخيّاطات والبائعات المتجولات كُنّ جزءا نابضا في حياة كل قرية، فكيف اختفين من الأبحاث والتقارير والصحف والصور التي أنتجها الغرب عن الفلسطينيين؟

في هذا المقال أستند إلى بحثي (للدكتوراة) الذي استعملت به وثائق من مصدر أوّلي وهي رسائل شخصية لنساء اوروبيات عشن في فلسطين إبان الانتداب البريطاني، إلى جانب تقارير رسمية كتبنها أو كتبها مسؤولون أو مسؤولات في حكومة الانتداب، وقد وجدت بالبحث الخطاب الاستشراقي يميز هذه النصوص المكتوبة التي وجدتها في أرشيف ""بعثة الشرق والقدس"" في سانت أنتوني-أوكسفورد بالعام 2017. وأدّعي بالسياق أن الخطاب الكولونيالي الذي يعتمده المستعمِر لا بدّ وأن يتغلغل إلى أفراد الشعب العاديين في بلاده، ويصبح هذا الخطاب استعلائيّا، أو يترجَم إلى طريقة تعامُل استعلائية مع السكان الواقعين تحت الهيمنة الاستعمارية، وبهذا يضرّ بمصالح هؤلاء السكان القومية والمدنية وبإمكانيات تحررهم وبنفس الدرجة يضر بالنساء وتحررهنّ. لكن، ومنذ بضعة عقود، تغير نهج تمثيل الشعوب التي كانت واقعة تحت الاستعمار أو الاحتلال بشكل كبير، وذلك نظرا لما طرأ من تحوّل في أساليب ومصادر البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية، وأهمّها الاهتمام برواية المستضعفين، والشرائح التي همشها الباحثون، وبإسماع صوت من لا صوت له. من ناحية أخرى، انصبّ الاهتمام على كتابةٍ نسويةٍ مختلفة عن كتابات الحركات النسوية الغربية، وبالأساس الأمريكية البيضاء، من قِبَل نسويات كلاسيكيات طالبن بالمساواة في الخروج إلى العمل، فبادرت نسويات من أصول أفريقية مثل بيل هوكس إلى مواجهتهنّ بالحقيقة التي طالما تجاهلتها النسويات الأمريكيات الأوائل، ألا وهي أنّ النساء من ذوات البشرة الداكنة قد عملنَ بل وقُمعنَ في حقول وبيوت النساء البيض منذ مئات السنين (بيل هوكس، 1981)، ولحقت بهنّ باحثات تبنّين الفكر النسوي ما بعد الاستعماري التحرري والماركسي مثل أوما نارايان، موهانتي، غاياتري سبيفاك، نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، وباحثات كويريات مثل جوديث باتلر وغيرهن ممن طالبن بتفكيك الخطاب النسوي الغربي المهيمن، وإعادة كتابة التاريخ من جديد، ليشمل صوت ونظرة الطبقات المستضعفة والشعوب المستعمَرة، ودراسة النوع الاجتماعي من هذه المنطلقات. لم تتأخر الباحثات العربيات والفلسطينيات بشكل خاص، عن الركب فالمؤرخات أعدن كتابة تاريخ الشعوب العربية، لتتضمن أدوار المرأة النضالية والسياسية، فانتشرت كتابات روز ماري صايغ ونادية حجاب، وإصلاح جاد، ومي صيقلي، وشيرين صيقلي، وفيحاء عبد الهادي، وباحثات العلوم الاجتماعية والصحيّة كنهاية داود، والقانونية والتاريخية السياسية كأبحاث لينا دلاشة، وميسون ارشيد-شحادة، والهام شمالي وسلوى علينات، وبالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع ودراسات النوع الاجتماعي وعلم النفس التربوي، فازدهرت مكتباتنا بأعمال ليلى أبو لغد، وخولة أبو بكر، وروضة كناعنة، ونهلة عبده، ونادرة شلهوب- كفركيان، ومنار حسن، وفاطمة قاسم، وهنيدة غانم، وتغريد يحيى- يونس، وأريج صباغ- خوري، وسراب أبو ربيعة قويدر، وصفاء أبو ربيعة، ومنال شلبي، وهمّت زعبي، وبعلم الاجتماع التاريخي- الاقتصادي كأبحاث لينا ميعاري، وروضة مرقس- مخول ومها صبّاح- كركبي، وبسمة فاهوم، وتغريد قعدان وغيرهن الكثيرات، فكتبن عن مواضيع مختلفة، منها تاريخ النساء في فترة الانتداب والنكبة وما بعدها، وعن أدوارهنّ وتجاربهنّ النسوية، النضالية التحررية، الاقتصادية والسياسية..

واقع المرأة الفلسطينية الريفية مقابل الخطاب الاستعماري الذي أنتج صورتها

هل نعتبر عمل المرأة الفلسطينية في الزراعة ضمن عائلتها أو كأجيرة مقابل صاع أو صاعين من الحنطة مشاركةً اقتصادية؟ هل نعتبر الداية أو القابلة التي لم تأخذ مقابل عملها المال، بل بضع ثمار أو كمية من الحبوب، قرص جبنة أو بضع حبات من الحلوى لأطفالها، امرأةً عاملةً؟ وماذا بشأن جداتنا اللواتي قطعن المسافات مشيا على الأقدام، ليبيعن اللبن والجبنة أو الخبيزة والميرامية في أسواق عكا وحيفا وصفد؟ هل نعتبر مجهودهنّ ذاك إسهاماً اقتصادياً؟ هل نحسب العملَ النسائي غير الموثّق رسمياً جزءاً من الاقتصاد الفلسطيني؟ هل يستحق دور المرأة الاقتصادي، وعملها لبقاء العائلة والمجتمع والعيش الكريم أن يسجّل؟ الإجابة على كل هذه الأسئلة، برأيي، هي نعم. الطرح الأساسي الذي أقترحه بهذه المقالة هو أنه لولا القوة الإنتاجية للمرأة الفلسطينية القروية لما حصل تراكم رأس مال زراعي فلسطيني، كان ذلك بأيدي الاقطاعيين اللبنانيين الذين ملكوا آلاف الدونمات، أو بأيدي العائلات البرجوازية الفلسطينية من سكان الحواضر أو الريف. ولكن، لعدة أسباب، فلسطينية ذاتية تخص تطوّر البحث التاريخي الفلسطيني، وأسباب متعلقة بهيمنة الخطاب الاستشراقي الذي رسم صورةً نمطيةً عن المرأة الشرقية والعربية على الأبحاث والأدب والعلوم، غُيبَ الدور الاقتصادي للمرأة الفلسطينية مما أدى إلى انتاج معرفي منقوص حتى فترةٍ غير بعيدة عن اليوم. مقابل الخمول الذي وصفت به النساء الفلسطينيات، تظهِر صور من مصادر أوروبية، ومنها صور من حكومة الانتداب بذاتها، النساء في أماكن عملهن: كصور النساء العاملات في مصنع التبغ في الناصرة أو في عكا (انظر الصورة ادناه)، في حقول مزرعة التجارب الزراعية في عكا، في تكسير الحجارة وتحويلها لمواد بناء لمد الشوارع (انظر الصورة ادناه)، في مستشفيات صفد والقدس، وفي المدارس، وفي العيادات. وبما أن غالبية النساء الفلسطينيات عملن بالزراعة، في السهول والكروم البعيدة عن مراكز القرى، أو بتدبير المحاصيل الزراعية بعيدا عن عيون الكاميرات في ساحات بيوتهنّ، أو بيوت العائلات المالكة، فمن الصعب إيجاد صور توثّق هذا النشاط الاقتصادي الهامّ.

نساء فلسطينيات تعملن برصف الشوارع (1917)

نساء فلسطينيات تعملن برصف الشوارع (1917)

 نساء فلسطينيات عاملات في فابريكة التبغ في الناصرة (1940|)

نساء فلسطينيات عاملات في فابريكة التبغ في الناصرة (1940|)

إذا راجعنا الجرائد التي صدرت في فترة الانتداب البريطاني، فلن نجد اسمًا لامرأة قروية حصدت دونمًا من الحنطة أو الشعير، أو قطفت حمولة بغل من التبغ، بين انبلاج الفجر وغياب الشمس، دون توقف. لن نصطدم باسم السيدة الكفرسية ""العسل ندّة"" التي عملت بإقراض المال للفلاحين المُدانين بفائدة بسيطة (مقابلة شفوية مع السيدة بربارة بصل 2014)، ولا عن الكادحة ""حجلة *"" التي عملت مساعدة بنائي الحجر، فحملت حجارة البناء على رأسها، أو ""قفّة البحص"" على كتفها، وصعدت على سلم للطابق الثاني لتناوله للبنّاء (مقابلة شفهية مع السيد شحادة مخولي 2016)، ولا عن أم الياس التي ""فتحت ما يشبه موقفا للسيارات بأيامنا هذه للجمال والبغال والحمير التي وصل بها أصحابها إلى ""سوق الخميس"" في إحدى قرى الجليل الغربي، و""أخذت قرش عَ الراس""، ووضعت للحيوانات التي أبقيت في عهدتها القش والشعير والماء الذي نشلته من عين الماء القريبة للسوق"" (مقابلة شفوية مع الأستاذ بطرس دلة 2016)، ولا عن شهيدة العمل حنة شاهين التي عملت في سجن عكا، وكانت ترجع مشيا على الأقدام في ساعات المساء ليخطىء الثوار المرابطين قرب المكر فيحسبوها، بسبب لباسها العسكري، من الهاغاناة ويردوها قتيلة (المصدر السابق)، ولا كلّ بائعات الجبن واللبن، ولا زارعات وقاطفات التبغ، ولا جوّالات الزيتون، ولا قرويات خليج حيفا غاسلات ملابس الجنود البريطانيين (مقابلة شفوية مع السيدة سعدة محمد الكوري- سويطي 2017). لكننا سنجد مقالات ومساهمات لنساء نشطنَ بالنوادي النسائية والجمعيات الخيرية في المدن الفلسطينية تخاطب جميع النساء وتدعوهنّ لأخذ دورهنّ بالتحرر وبالتعلّم والتثقيف الذاتي، سنلاحظ أن خطابهنّ منقطع نوعا ما عن حياة النساء الريفيات وواقعهنّ. فتجدهنّ يطالبن بالمساواة مع الرجل بالخروج إلى العمل، وبأخذ دور اجتماعي واقتصادي (يذكّر بخطاب النسويات الأمريكيات البيض) ولكنهنّ يتجاهلن، مثلا، الدور المركزي للنساء القرويات في المجال الزراعي (إن كان بالزرع وجمع المحاصيل والإنهماك بإعدادها بشكل يسمح بتصريفها وبيعها وتخزينها، أو بالاهتمام بالحيوانات والطيور، إلخ. رغم ما قامت به الصحافة الفلسطينية بما وصفه كبها كدور نضالي كبير في الحركة الوطنية الفلسطينية في فترة الانتداب، إذ كانت بمثابة مرآة للحياة السياسية في فلسطين، عاكسة للتيارات الموجودة فيها (كبها، 2005)، نجد أن الصحافة التي نشأت وعملت في المدن لم تساعد في تغيير الخطاب السائد حول المرأة القروية وأدوارها ووظائفها، ولم تكن عونًا لها أمامه. وأما النساء اللواتي كتبنَ في هذه المجلات والصحف فقد وقع قسم لا بأس به منهنّ في فخ الهيمنة الثقافية التي بسطها الخطاب الغربي، فذوّتن بعض معاييرها، وكما وصفته إيلين فلايشمان ب""العلاقة المركبة ما بين المستعمِر والمستعمَر"" التي أصابت بالأساس نساء الطبقة المتوسطة والعليا من بينهن (فلايشمان، 2003، ص 64).

أما أرشيف دائرة التعليم الانتدابية، والذي نجد نسخًا عنه في الأرشيفات الإسرائيلية أيضا، فيُظهر توسُّع انخراط الفتيات الفلسطينيات القرويات والمدنيات في سلك التعليم كمُدرِّسات وكذلك كمديرات لمدارس البنات. هذه الحقيقة يؤكدها أيضا الإحصاء البريطاني لعام 1931 الذي يبيِّن أن خمسمئة معلمة فلسطينية كُنّ مسجلات رسميا في دائرة التعليم (ميلز 1933). المعلمات فغالبا ما كنّ يتنقلن بالحافلات أو بسيارات خصوصية يجهّزها الأهل لهنّ، حسب رسائل المعلمة إزدهار عيسى من صفد، والتي عملت بالتدريس في صفورية، أرشيف الدولة 1947)، في حال كنّ يعملن في قرى أو مدن تبعد عن قراهن مسافة تحتّم عليهن استئجار دور أو غرف للسكن هناك، كما كانت معظم المعلمات في الثلاثينات تتنقلن بواسطة دواب يقودها أحد أهل القرية (مقابلة مع المربية المرحومة هيفاء مزيغيت 2009، المقابلة (2) مع الأستاذ بطرس دلة 2017، (مقابلة مع الأستاذ المرحوم شحادة مخولي 2016). من ناحية أخرى، تعلمت المعلمات في دور للمعلمات، بل ووصلن الى دورات تأهيلية في جامعة اوكسفورد كما نستشف ذلك من المقابلات الشفوية وأرشيفات بريطانية مختلفة. من ناحية أخرى، عرقل الانتداب التقدم الاقتصادي والوظيفي للمعلمات الفلسطينيات إذ كان لزاما على المعلمة أن تستقيل من عملها إذا نوت على الزواج.

تظهر الدراسات والمقابلات الشفوية والمواد الأرشيفية أيضًا انخراط عدد لا بأس به من النساء الفلسطينيات، العزباوات والمتزوجات، في مجال الصحة، فعملن كممرضات وقابلات وأيضا كمساعدات في عيادات طبيبات وأطباء المستشفيات والعيادات الحكومية والخاصة، وأشير الى عمل الممرضة الكفرسية حجلة جريس في عيادة بير السبع في العام 1937، كما يظهر ذلك في دليل المهن والتجارة في فلسطين وشرق الأردن (1937)، إذ تثير هذه الحالة التساؤل حول الحرية الشخصية للمرأة الفلسطينية العزباء في فترة ما قبل النكبة، وحرية التنقل بالحيز، التي طالما وصفتها دراسات الجندر وعلم الاقتصاد كشرط للتقدم في المكانة الاقتصادية للمرأة.

لا يتيح المجال هنا لتلخيص المجالات الأخرى التي عملت النساء الفلسطينيات بها، كالاتصالات والبناء والصناعة الخفيفة والنسيج، ولا على مبادراتها الخلاقة لكسب المدخول المادي لها ولعائلتها، لكن لنذكر أنه تاريخياً، كان للمرأة الفلسطينية بكل مراحل عمرها، دورًا هامًا جدًا بالإقتصاد الفلسطيني القروي، وواجب علينا بمناسبة يوم العمال العالمي نشر المعرفة حول هذا الدور.

مصادر الصور المرفقة للمقال:

الصورة المركزية المرفقة للمقال لعاملات فلسطينيات تبعن اللبن خلال فترة الانتداب البريطاني في فلسطين - من مكتبة الكونغرس.

صورة العاملات في فابريكة التبغ في الناصرة - https://www.loc.gov/pictures/item/2019711477/

صورة العاملات في رصف الشوارع - American Colony ( Jerusalem) photo Dept. North Palestine botanic trip before 1917, Matson (G. Eric and Edith) Photograph Collection , Library of Congress. Retrieved from http://hdl.loc.gov/loc.pnp/matpc.13482"

د. روضة مرقس- مخول

باحثة في علم الاجتماع الاقتصادي- التاريخي والدراسات الفلسطينية القروية (Palestinian rural studies)

رأيك يهمنا