من معركتي اليومية مع الكذب..

حين توفيت الكاتبة نوال السعداوي، شاهد الملايين مقطع فيديو عنوانه ""حارس المقبرة التي دُفنت فيها نوال السعداوي، هرب بعد أن سمع صراخًا مفزعًا من قبرها ورأى ثعابين، كما رفض إمام مسجد الصلاة عليها"".

فتح الملايين ""اللينك"" لأنهم صدّقوا أنهم من الممكن أن يرَوا حارس المقبرة يهرب أو يسمعوا الأصوات، وهذا التصديق جاء بعد عشرات السنين من تكفير نوال واتهامها بالإلحاد والجنون بالتوازي مع انتشار كتب عذاب القبر ورواج أشرطة المحاضرات الدينية التي تتحدث في هذه المواضيع الدينية الشعبية. فإن اختراع كذبة مثل ثعابين قبر السعداوي تدر على صاحبها ألوف الدولارات في دقائق كانت تحتاج أعوامًا من الخرافات اليومية.

وقتها حين وجدت المقطع كان أمامي تحدي حقيقي خلال عملي في منصة ""مسبار"" لفحص الحقائق، كي أنفي هذا الخبر الكاذب دون أن أكون موجودة في القاهرة، لذلك بحثت جيدًا في المصادر المفتوحة أمامي من الأخبار المتوفرة حول وفاتها وجنازتها ولم أجد ما قد ينفيه، ثم بحثت في المصادر الخاصة حتى وجدت حساب ابنتها الكاتبة منى حلمي وراسلتها، لكنها لم ترد إلا أن قبولها لي في قائمة الأصدقاء جعلني أرى منشوراتها حول دفن والدتها والتي أكدت أنه تم بحضور أفراد قليلين جدًا من العائلة، ودون أي طقوس دينية بناء على رغبة السعداوي، وبالتالي ليس هناك إمام مسجد رفض الصلاة عليها، وهكذا فإن الخبر مجرد خرافة، لكن كم فرد وصل إليه تحققي مقارنة مع من رأى مقطع الفيديو؟، بل كم مُتلقٍّ سيصدق أن السعداوي تتعذب بالثعابين حتى دون وجود مقطع فيديو؟.

هذه هي المعركة الحقيقية اليومية التي نخوضها كمتحققين من الأخبار وأنا واحدة منهم، أن يتم زعزعة القناعات الراسخة لدى الآلاف الذين قد يسلمون بالأخبار المضلّلة والمعلومات المزيفة أو الحقائق المنقوصة والخرافات التي تبدو صحيحة وكاملة في سياقهم الثقافيّ والمفاهيميّ.

فنحن كل يوم نحثّ المُتلقي على الشك في انحيازاته الخاصة، وقد يبدأ بالتخلي عنها، وهذه اللحظة من مساءلة الذات لدى كل قارئ هي الهدف في تغيير سلوكيات تلقي المعلومات ومعالجتها والقبول بها ونشرها.

ربما تكون وفاة السعداوي خبرًا استثنائيًا، لكن الأخبار الكاذبة ليست كذلك، بل هي تجتاح المواقع مثل تسونامي حين يهزّ العالم حدث ما، مؤخرًا الحرب الروسية على أوكرانيا، وقبل عامين جائحة كورونا، فتنتشر الأخبار الكاذبة بكل أنواعها المضللة والزائفة والتي تعتمد إثارة، بل تصبح جزءًا من عالمنا الجديد الذي يوفر المنصات الإعلامية لكل مواطن/ة ليقول ويكتب ويُصوّر ما يريد.

لذلك حين تعجز الشعوب عن تفسير ظاهرة ما، تتجه إلى الإشاعات، في الماضي كانت النكتة هي رد الشعوب على الأزمات، إلّا أنّه في الحاضر، الفبركة غدت الرد.

وأخطر أنواع هذه الإشاعات هي التي تأخذ جزءًا من الحقيقة، ثم تضيف عليها سياقا معينا لتصوغ المعلومة بناءً على ذلك، وهو ما يسمى بـ""المخطط التفسيريّ"" وهذا ما نراه على سبيل المثال حين انتشر في أبريل/ نيسان 2020 أنّ بيل غيتس يستغل أزمة كورونا لزرع رقائق تحت الجلد، والحقيقة أنّ غيتس نادى بنظامٍ صحيّ قائم على شهاداتٍ صحية رقمية ذات قواعد موحدة عالميّة تساعد المؤسسات والشركات في تخطّي فترة فايروس كورونا المستجد.

وهذا النوع من الأخبار الكاذبة الأكثر رواجًا، لأن في باطنها جزءًا من الحقيقة، لكن يتم حرفها عن المسار الموضوعي، أو إضفاء تفاصيل مزيّفة إليها، وهنا يصعب على المتلقي معرفة مسار الحقيقي بينها، مثلها تلك الأخبار التي صاحبت محاولات إنقاذ الطفل المغربي ريان من البئر، فقد صدّقت أعدادٌ كبيرة قبل انتشاله بيومين أنه تم إنقاذه وأنه على قيد الحياة.

لكن السؤال، هل كانت يومًا هناك حقيقة كاملة أو نقية؟

إنه أمرٌ معقد تمامًا، وليس من السهل الإجابة عنه، فنحن نشاهد الأفلام والأخبار يوميًا ونقرأ الكتب والصحف، ونجد أن الحقائق مقدمة لنا في خليط من الشهادات الذاتية والعواطف والاستقطابات السياسية والمعرفيةـ لذلك فإن كل إنسان فينا مطالب بتجريد ما يعتقده ويشاهده قبل أن يحاكم الآخرين على الخطيئة ذاتها.

ربما أبالغ هنا، حين أساوي بين مروجي الإشاعات وصانعي الصحافة في العالم، إلا أن كل إنسان فينا يفسر الحقائق عبر سرده المفاهيميّ الخاص به، ووجهة نظره عن العالم، وانحيازه المعرفيّ، وغالبيتنا يُهمل البيانات والحقائق المعارضة له، ما يجعلنا متعصبين اتجاه تيار معين من الأفكار والتحليلات المتدفقة دون أن نشعر، وهذا غالبًا ما يؤدي إلى إيجاد بيئة مغلقة تكثر فيها المعلومات الخاطئة، وهي مقدمة للمعلومات الكاذبة.

وهذا الخط الرفيع بين الكذب والحقيقة يجعل التضليل مظلة العالم الجديد، فليس هناك توافق اجتماعيّ على الحقائق، بل هناك تناقضات كثيرة تجعلها تبدو عشوائية أو غير موثوق بها، والأسباب لذلك كثيرة منها الخلط بين الرأي والمعلومة أو بينها وبين التجربة الشخصية، كما لم تعد هناك الثقة ذاتها بمصادر المعلومات، وإضافة إلى ذلك زاد حجم الحكاية على حساب الحقائق، وهذا كله جعل العناوين الانتقائيّة والمثيرة وأحيانًا الساخرة تبدو وكأنها الحقيقة لكنها ليست كذلك، بل مُتقمصة لها.

ربما استطعت أن أثبت أن نوال السعداوي دُفنت بسلام، ودون ثعابين وأصواتٍ مرعبة، لكن تقابلني في أيام أخبار كاذبة من المستحيل إثبات زيفها، بسبب غياب المراجع، أو عزوف المُتعلّقين بقصة الخبر قول الحقيقة، فأذكر مرة واجهني خبر وصورة العثور على سمكة بشفاه وأسنان بشرية نُشرت صورتها في تغريدة شاب من ماليزيا، بقيت لأسبوع أتتبع تعليقاته ومصادر مختلفة للصورة للتأكد إذا ما عبث بالصورة وعدلها، لكنه لم يقل شيئًا ولم يُجب على الرسائل الخاصة في حسابه على تويتر، وبقي يُمازح أصدقائه في التعليقات دون قول الحقيقة.

وهكذا بقي هذا المخلوق بأسنان بشرية، وهمي وحقيقي معًا حتى إثبات إلى أي من الطرفين ينتمي، لذلك فإن فحص الحقائق أحيانًا ما يعيد الحياة إلى الكثير من القصص التاريخية والمخلوقات أو إماتتها، وقد يعيد الحق إلى مظلومين، أو يشهد على مجرمين جدد.

الصورة: من موقع ""ولها وجوه اخرى"

أسماء الغول

كاتبة وصحافية فلسطينية مقيمة في فرنسا

رأيك يهمنا