لم تكن جدتي أم إبراهيم رحمها الله خريجة كلية العلوم ولا قسم الطب البشري لكنها أوتيت علما فاق علم الكثير من الاطباء، إذ عملت في مجال مداواة النساء والرجال ممن صعب عليهم الحمل ونجحت في كثير من الحالات التي لم يجد الطب الحديث علاجا لها فكم تحدثت جارتنا التي أيضا تلقت دواء من جدتي عن حالات حمل لسيدات مر على زواجهن سنين عدة دون أطفال مع تلقي الكثير من العلاجات بلا نتيجة تذكر ومع انبهار الاطباء من تلك النتيجة!!

تمت معالجة اليهوديات والعربيات على حد سواء وبهذا خلقت النساء لهن حيزا تجاوز العمل السياسي الميداني الذي يستند على عمل الرجال فقط.

لم يكن العلاج هينا ولطيفا بل كان قاسيا ومؤلما جدا جدا لكنه جاء بالنتيجة المرجوة!

وذلك عن طريق طب الأعشاب فقد استخدمت خلطة أعشاب تقوم بإعدادها وتجهيزها في البيت مع دقة تامة في كمية ما يوضع من كل صنف! ومراعاة شرح وكيفية وتوقيت استخدامه وما يجب تناوله وما يحظر تناوله من طعام وقت استعماله لضرورة نجاعة العلاج!

أيضا كانت جدتي تعالج أمورا كثيرة أخرى مثل علاج الاطفال الذين كانوا يعانون من أمراض الطفولة! مثل الإسهال والتهاب الحلق وغيرها وكانت تتقن بعض اختصاصات العلاج الطبيعي لبعض مشاكل الأطفال والسيدات للأمور التي لا تستوجب عقارا طبيا! مثل مساجات خاصة للمساعدة على الدخول إلى حمل "قطع خوفة" (رعبة) وهذا تدليك لمفاصل وعضلات اليدين والقدمين! وغيرها.

التداوي بالأعشاب ذاك تحول اليوم إلى مجال عمل معترف به من قبل المؤسسة الطبية عند طريق عيادات متخصصة في مجال الطب البديل وطب الأعشاب بعدما تم تهميشه لسنوات طوال!

عالجت الرجال والنساء على حد سواء ولم يمنعها الحرج من تقديم العلاج للرجال أيضا رغم انها كانت على قدر كبير من الحشمة والعفة والقوة في الوقت ذاته! ولم يعب عليها أحد ذلك العمل الذي قامت به، وكان ذلك مصدر دخل لها ولأسرتها ولم يستنكر أحد أيضا ذلك!

لم تكن الجدة أم عودة رحمها الله خريجة كلية الاقتصاد لكنها برعت ايضا في عملها دقة وأمانة كانت الأخرى بائعة متجولة من ضواحي غزة ولم أذكر أنها كانت ترفع اللثام يوما عن وجهها في حضرة النساء حتى! لقد كان قدومها إلينا بمثابة عيد صغير! لقد كانت تحمل بقجة كبيرة على رأسها تمسكها بيد واليد الاخرى ترفع بها تنورتها السوداء الوسيعة تحاشيا لئلا تتعثر !!

تأتي وتفتح بقجتها وتبدأ بعرض ما بها من بضاعة مختلفة جذابة وكأنه مجمع تجاري صغير مليء بالسعادة! لباس الاطفال بمختلف الاعمار المواليد والرضع وجيل البستان والاكبر لباس للنساء من كل الأصناف أغطية فراش (وجوه لحافات مخدات فرشات) كريمات عطور وكل ما جادت به أسواق غزة مما لم تستطع دكاكين رهط الثلاث الأولى توفيره! ولم يعب ولم يستنكر أحد عملها هي أيضا!

كذلك الأمر جارتنا فاطمة رحمها الله ملكت ماكنة خياطة في بيتها تخيط للناس مقابل أجر، بعدها فتحت بقالة عملت بها وزوجها وبعدها فتحت محلا جانب البقالة للألبسة الجاهزة إلى جانب عملها الأول التطريز ولم يدفعها عدم الإنجاب إلى اليأس من التقدم في عملها بل كانت تحفز نفسها دوما نحو النجاح ووصلت إليه ولم تجد من يعيب عليها ذلك هي الأخرى!

جارتنا أم أنور رحمها الله لم تحمل شهادة جامعية لإدارة الاعمال، ولكنها برعت في عملها، كانت أولى الحاصلات على رخصة قيادة السيارة في رهط. عملت في مجال الزراعة وتعد أولى المقاولات في المجال ذاته أيضا. لم يعب أحد عليها ذلك!

والأمثلة كثيرة لأمهاتنا الاوائل اللائي تحدين الصعاب والفقر والحاجة وسعين للأفضل وحصدن النجاح
ونلنه!
تغيرت الأيام والازمان وأضيفت وظائف جديدة! ودخلنا عالم المدارس فذهبت البنات جميعهن إلى المدارس بعدما كان ذلك عيبا على غالبيتهن!

فلم تكمل الثانوية أكثرهن واكتفى آباؤهن ببلوغهن الإعدادية أو إنهائها!

وتغير الوضع مرة أخرى فأنهت غالبية البنات الثانوية إلا من تزوجت أو من خاف أهلها من انفتاحهن نحو الحياة وتسلط الفكر الجديد عليهن!

فتحت أبواب التعليم الأكاديمي بوجههن لكن بشق الأنفس! وجاءت مبادرة الساعي نحو النور البروفيسور رياض اغبارية وأفسحت الطريق أمام طلاب النقب الدخول الى دنيا العلوم الطبية في البلاد بعدما كان ذلك حكرا على جامعات أوروبا، فأقام مشروع براعم الطب في الصحراء دعا إليه طلاب الثانوية من أنهى الصف العاشر إلى القدوم للتعلم في المشفى الجامعي سوروكا مدة شهرين من قبل طلاب طب يهود! بعدها يخضعون إلى امتحان فرز فيقبل للاستمرار بالتعلم أول خمسة وعشرين إلى أول ثلاثين طالبا ممن حصلوا على أعلى الدرجات في ذلك الامتحان! الذي أجري في قاعة راقية في جامعة بئر السبع بن غوريون!
وتم التعليم في قسم العلوم الطبية على يد الدكتور سالم أبو عبود وثلاثة أطباء يهود، بالإضافة الى محاضرين حضر كل منهم لمرة واحدة.

وكان لذلك المشروع أثر كبير في التحاق كثير من الطلاب خاصة الفتيات تعلم المواضيع الطبية وكانت أول طبيبة نقباوية أولى ثمار ذلك المشروع المبارك الدكتورة رانية العقبي من الفوج الأول.

كل كلمات الشكر والامتنان للأستاذ الدكتور رياض لن توفيه حقه تجاه أبناء شعبه، وله منا كل أماني الخير والبركة في العلم والعمر بإذن الله.

فتح العمل طريقه أمام السيدات بشكل مفاجئ وسريع فمن لم تؤهلها محصلاتها التعليمية ومن لم تمتلك أسرتها ثمن تكاليف الدراسة ولم تستطع عائلتها القدرة من مجابهة معادي تعليم البنات ذهبت إلى العمل إما في الفلاحة أو العمل في المصانع المختلفة أو في مجال التنظيف وغيره ما سَهُل الذهاب إليه والعمل فيه! وهنا يتم إعادة طرح السؤال حول مدى نجاعة المشاريع الحكومية من استقطاب المواضيع التي تمولها الحكومة لسد فجوة التشغيل بين الرجال والنساء.

هل البرامج المطروحة حاليا لا توافق ولا تلائم حتى اليوم النساء البدويات لأنه ما يناسب تشغيل المرأة في حيفا لا يناسب بالضرورة بيئة المرأة في الجنوب؟!

حافظت المرأة على وجوب حقها في امتلاك نفسها، والراحة من عناء اكتساب لقمة العيش خارج بيتها، لكن الظروف جعلتها لتكون قائدة في بيتها ورائدة خارجة وقد تعرضت لكثير من الإجحاف وضياع الحقوق من قوانين رسمت بظلم شديد فلم توضع بنود تحافظ على توقيت عمل يناسب أمومتها ولا بنيتها الرقيقة ولم تساهم من تتحدث بلسانهن وليس لمصلحتهن من جمعيات وناشطين سياسيين وغيرهم من الضغط على المؤسسات بوضع قوانين جادة تلائم وترحم طبيعتهن مثل تقليل عدد ساعات عملهن مع رفع أجورهن وزيادة أيام العطل الاسبوعية وغيرها مما يهون عليهن بقاءهن على قيد الأنوثة!

فلن تعود السيدة إلى بيتها من العمل لتستلقي في سبيل نيل بعض الراحة، بل لتعمل وتعمل وتعمل!!
مع ذلك تمكنت المرأة بفضل نضالها وحدها مع انعدام أي مساندة حقيقية من قبل الرجال لانتزاع بعض من حقوقهن. لكن يبقى الاجحاف على حاله هل نحن النساء لنا إسهام ما في ضرب تطور المرأة!؟

تحول الأب من المعيل الوحيد إلى المعيل المشترك مع ابنته وزوجته وكنته أيضا! ولم يبق بيت إلا وبه عاملة!! ولم يحدث أن تم استنكار ما قمت به ولم تطلق الرصاصات نحوهن في أماكن أعمالهن والتشهير بمن يقوم بتشغيل بناته وزوجته وكأن الموضوع حديث عهد أو أنه وقع نادر!

ارتفعت الاسعار ورفعت أقواما وحطت غيرهم واختلفت المطالب والرغبات وحاجيات الفرد، وكل ذاك يستدعي بنكا متحركا يفيض بشتى العملات، فما عادت الوجبة التي تحتوي على صنف واحد ومقبلاته ترضي شهية الأفراد ووجبة ما بعد الوجبة لاقت رواجا واسعا من كأس الحليب مع القهوة المذابة وقطعة الكعك أو عصير الليمون ذي اللون الاخضر مع الثلج أو الفاكهة المعلبة مع الصودا والوجبة الليلية التي تحتوي على المالح والحلو على حد سواء! وغيره وغيره من اختراعات جديدة من اصحاب المطاعم العادية أو شيفات صفحات شبكات التواصل. فتحولنا إلى آكلين دائمين!

فرع الملابس والاحذية لاقى فرصة كبيرة لمجاراة عصر التنوع فما نرتديه اليوم يحرم ارتداؤه في الغد!
وما افترشناه هذا الشهر سنغيره بعد شهرين!

والذهاب للرحلات الدائمة بات موضوعا لا نقاش فيه!

وأصبحنا بين عشية وضحاها أصحاب مزاج عال فلا تكاد تخلو ناحية من نقطة بيع للمخدرات!

ولا رفع في أجور العامل ولا نرى الارتفاعات المجنونة إلا في السلع والمنتوجات وطلبات المقاولين الذين يتوجهون للمناقصات التي تعود بالفائدة الجمة على دائرتهم الضيقة وبالنسبة للخدمات العامة للناس فهو حديث ذو شجون!

سُحب المزيد من جيب العمال الذين لا حامي لهم من سطوة غول قراصنة المال سوى من حافظ على اتزانه من تقلبات الاستغلال الاقتصادي!

وكالعادة من يعتلي سلم الأثرياء يصعد على الجثث غير المتحللة!! غير المنظور إليها سوى محرك الأموال!
ويستمر العامل الكادح يحلم بأنه سوف يتحول إلى سيد نفسه ذات يوم.


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

ريتا أبو الطيف

ناشطة اجتماعية ومديرة مشاركة في منصة "هُنا الجنوب"

شاركونا رأيكن.م