انتهزن فرص التنوع!

قرّرت أن يكون مقالي هذا إيجابيًا، وألّا أطيل الشرح في بدايته عن الفجوات والتحديات والمشاكل (المضاعفة والكثيرة) التي نواجهها يوميًا كنساء عربيات في مجال العمل، بل أن أسلّط الضوء تحديدًا على الفرص الكثيرة المُتاحة أمامنا في سوق العمل في هذه الفترة، والتي ستمكنّنا من إحداث اختراق حقيقيّ وغير مسبوق في واقعنا الاقتصاديّ والاجتماعيّ. الفرص أمامنا الآن، وعلينا أن ننتهزها.

أهمّ فرصة برأيي هي فرصة تبنّي الكثير من الشركات الكبيرة في البلاد للتنوع التشغيليّ (Diversity)، الذي أحدث تغييرًا في الثقافة التنظيميّة وأساليب التوظيف وإدارة الموارد البشريّة في الشركات العالميّة، وخصوصًا في العقد الأخير. وإذا كنتنّ تتساءلن عن معنى التنويع التشغيليّ فهو، باختصار، أن تنوّع الشركات في طواقمها، أي أن توظّف وترقّي في السلم الوظيفيّ أشخاصًا من مجموعات مختلفة ومتنوّعة وليس فقط من المجموعة القويّة والمهيّمنة (الرجال البيض في الولايات المتحدّة، مثلًا)، دون تمييز على أساس الجندر، العرق أو القوميّة، والجيل، والقدرات الجسديّة وما إلى ذلك.

أحيانًا، نبع التحوّل صوب التنوع عن قناعة الشركة بقيم التنوّع والتعدديّة والإنصاف والمساواة، وبضرورة تصويب الظلم الذي وقع على المجموعات التي لم تحصل على فرصتها لسنين طويلة (مثلنا). لكن يبدو أنّ الأفضليات التنافسيّة التي قدّمها التنويع للشركات التي اتّبعته هو الذي أقنع المزيد من الشركات لتنضمّ إلى الركب، فالشركات التي أدمجت التنوع التشغيليّ في ثقافتها التنظيميّة زادت من أرباحها، لأنّها استطاعات أن تكتشف وتوظّف مواهب جديدة، ووسّعت جمهورها وفتحت أسواقًا جديدة، وأصبحت طواقمها أكثر إبداعيّة وابتكارًا.

على أي حال، وصلت عاصفة التنوع إلى البلاد، وبدأت الشركات الكبرى هنا أيضًا تتبنّى ثقافة التنوع، وضمن ذلك استيعاب الثروة البشريّة الكامنة في المجتمع العربيّ، حيث اقتنعت الكثير منها أن تفتح لنا الأبواب التي طالما كانت موصدة أمامنا، كنساء وكعرب. العاصفة طبعًا لم تأتِ هنا من تلقاء نفسها، بل كان ذلك نتيجة جهود جبّارة لمؤسّسات وأشخاص آمنوا بذلك كحقّ وكفرصة تُفيد الجميع.

أمّا الفرصة الأخرى فقد شكّلها الالتقاء بين انتشار ثقافة التنوع هذه مع حاجة سوق العمل إلى الموارد البشريّة في مرحلة ما بعد الكورونا. فاليوم، بعد سنتين من تفشّي وباء الكورونا وما تضمّنته الفترة من إغلاقات وتغيّرات وعدم يقين في سوق العمل، نشهد اليوم ازدهارًا وازديادًا كبيرًا في فرص العمل الشاغرة التي تنتظر من يتقدّم لها. الشركات تبحث "في علب العرايس" عن متقدّمين ومتقدّمات كفؤوين/ات.

هذا يرتبط أيضًا بفرصة أخرى، جلبتها فترة الكورونا نفسها، تكمن في التحوّل نحو العمل "الهيبريدي"، حيث أصبحت المزيد من الشركات تعطي إمكانية العمل من البيت إلى جانب العمل من مكاتب الشركة، وهذا النموذج يعطينا فرصة للتقدّم للعمل في شركات كثيرة بعيدة جغرافيًا عن البلدات العربيّة، وللاستفادة من المرونة التي يوفّرها العمل عن بعد، والتي قد تساعدنا على التغلّب، ولو جزئيًا، على المعيق الجغرافيّ.

من ناحية أخرى، تشكّل برامج التأهيل المهنيّ المتوافرة اليوم بكثرة والمدعومة حكوميًا من خلال مراكز التشغيل المختلفة، فرصة يجب أن تنتهزها العاطلات عن العمل والخرّيجات اللواتي لم يجدن عملًا في مجال تعليمهنّ، مثل خريجات كليّات التدريس مثلًا، لكي يحصلن على مهنة جديدة ومطلوبة ويندمجن في سوق العمل أخيرًا.

لقد شكّلت النساء الرائدات اللواتي خرجن للعمل في القطاع العامّ والقطاع الأهليّ، في مجال التعليم والمؤسّسات العامّة وفي الجمعيات، نموذجًا ملهمًا احتذت به الكثير من النساء العربيّات، ومهّد الطريق للإنجازات العلميّة والمهنيّة الهائلة التي نعتّز بها اليوم. كذلك، سيكون، برأيي، للنساء اللواتي يخترقن اليوم قطاع الشركات الخاصّة، وبمقدّمتها الشركات الكبيرة ذات الحضور العالميّ، أثر اجتماعيّ كبير وبعيد المدى وسيمهّد الطريق للمزيد من التحوّلات الاجتماعيّة ولتعزيز ورفع مكانة المرأة في المجتمع العربيّ، وتحسين وضعه الاقتصاديّ بشكل كبير.

لقد حان الوقت لأن نتجاوز كنساء عاملات محطّة "المعيلة الثانويّة" لنكون معيلات رئيسيّات شريكات، لأن تكون لنا مسيرة مهنيّة وليس عملًا فقط. وهذه فرصتنا لتحقيق ذلك. يحتاج الأمر، دون شكّ، إلى دعم اجتماعيّ ويتطلّب من جيلنا أن يواجه متاعب الطليعة والتجارب الأولى، ومن النساء أن تكنّ سندًا الواحدة للأخرى. لكنّ الأكيد أنّ ما سيكون بعد هذه المرحلة لن يشبه ما كان قبلها.

وجود كلّ هذه الفرص لا يعني أنّ الواقع ورديّ، وأنّ التحديات اختفت والفجوات سُدّت والمشاكل حُلَّت، بالطبع لا. بل يعني ببساطة أنّ هناك موطئ للأمل وأفق للعمل، وأنّ علينا ببساطة أن نتقدّم إلى الأمام بخطى واثقة وننتهز الفرص.


كاتبة المقال: نوا جهشان وهي المديرة العامّة لمبادرة "كو إمباكت" التي تقود التنويع التشغيليّ والدمج الكامل والمناسب للمجتمع العربيّ في كبرى شركات القطاع الخاص بالبلاد.

نوا جهشان

المديرة العامّة لمبادرة "كو إمباكت" التي تقود التنويع التشغيليّ والدمج الكامل والمناسب للمجتمع العربيّ في كبرى شركات القطاع الخاص بالبلاد

شاركونا رأيكن.م