زَنْبَقات غَزة: فَنّانات مِن زَمَن الإِبادة بينَ دَفَّتي كِتاب!

غَلَب على اللقاء الأوّل مع الفنّانات الغزيّات اللواتي لا يَزَلن تحت الإبادة الجماعية، أو عانَين من ويلاتها، خليطٌ مِن الشجَن والبكاء والابتسامات، كانَ لقاء[1] بغرض الاحتفاء والتعبير عن الفخر بِسِرد تجربتهنّ الفنيّة رَغم الإبادة.

جاءت كلماتهنّ المُلهِمة والموجِعة مِن داخل غزة ليعبُرن بنا إلى دفّة القلب وشريان الروح بعدما غَدون ملهِمات للكثيرين، فقد عِشن الإبادة بكلّ وحشيّتها، وسَلَبت منهنّ الغالي والنّفيس؛ سَلَبت منهنّ البيت والأَهل والوَلَد والزوج، سَلَبت منهنّ السَكينة والأمان، وعشن أشهرًا طويلة مِن خيمة إلى خيمة، أو في بيت مقصوف، لكنهنّ تمَكّن من العودة لأنفسهن، والعودة لفنّهن رغم آلة البطش الإسرائيلية.

 رَسَمنَ فوق ركام بيوتهن، وصَنَعن ألوانًا من اللاشيء، وصَنَعن الريشة مِن خصلات شُعورِهن حين فَقَدن المَرسم والمساحات الفنية الآمنة، نَهَضن كما العنقاء مِن بين الركام، وبفعل رسائل روحيّة متعددة عُدن للفن والشّغف والعمل الإبداعي بكلّ قوة، وَضَعن القهر والغضب والألم والصدمات المتتالية جانبًا، وغَزَلن مِن لوحاتهن حكاية شَعب، وقصة كلّ امرأة وفتاة وطفلة فلسطينية، ليقدّمن للعالم الأخرس فنًّا يليق بعطائهن، فنًّا يَحمل جمال أرواحهن وقلوبهن.

 عُقد الّلقاء الذي جَمَع الفنانات الفلسطينيات مِن غزة ومِن كلّ بقاع العالم،  عَبر العالم الافتراضي، للاحتفاء والفَخر بهنّ وبصلابتهن، وقدرتهن أن يَكنّ ملهِمات، وهو لقاء تجاوز اللغة الصّماء للشاشة وضجّ بالحُب والأمل والإشراقة والتفاؤل، وكَمَا بكينا معًا فقد ابتسمنا معًا.

وَبَعد عمل إبداعي توثيقي حثيث استمر أكثَرَ من سبعة أشهر للمبدعة د. إيناس ديب، سيرى الكتابُ النور، احتفاء بفنانات غزة النّاجيات والشّهيدات.

 د. ديب، مدرِّسة وأكاديمية في جامعة دار الكلمة، ومديرة حاضنة ريادة الأعمال والابتكار، هي نصراويّة الأصل، جذورها ضاربة في فلسطين الجليلية، وَعَدَت وأوفت بالوَعد؛ وَعَدَتهن أن تَكتب عن تجاربهن وترفع صوتهن عاليًا، في وقت كان كلّ شيء يُقتل في غزة؛ الإنسان والشّجر والحَجر، ورغم كافة الصعوبات والانقطاع والضياع، واصلت إيمانها بأهمية الكلمة، في مواجهة العَجز واليأس، وأن العمل التوثيقي هو أقلّ ما يمكن تقديمه لتوثيق حكايات الفنّانات ولوحاتهن للأجيال القادمة.

رِحلَة نَجاة وحَياة

تَروي لَنا إِيناس ديب خلال اللقاء الافتراضي مع الفنانات أوّل الحكاية لرحلة التَوثيق هذه قائلة:

"كنتُ أتواصل مع الفنانات أثناء الحرب، ولا أَعرف كيف يمكنني نَقل صوتهن ومعاناتهن للعالم، بدأتُ رحلة الكتاب من تموز/ يوليو 2024، وواصلتها يومًا بيوم، ولا أبالغ لم أتوقّف عن التفكير فيه، بدأ إلهامي بضرورة فِعل شيء مهم، خاصة حين قالت لي الفنانة عزة الشيخ أحمد: "بِدّي أَصَل للعالم والعالم كلّه يعرف عنّا ومين إحنا".

 فالفنانات في أيّ بلد يَحظين بالكثير من الأجواء التي تُساعدهن على الإبداع، لكن في غزة كنّ تَحت الانفجارات اليوميّة ورحلات النزوح المتكررة، فَقَدن أعزّ ما يملكه الإنسان؛ البيت والسند والألوان، ومن هذه البذرة بدأتُ التفكير: كيف أوثّق حكاياتهن؟ ثم عَلِقت في عقلي وروحي كلمات الفنّانة فاطمة أبو عودة، وهي ترسل لي تسجيلًا صوتيًّا وفي خلفيّة كَلَماتها صوت الانفجارات والقنابل، مِن تلك اللحظة شَعرت أنّني مؤتمَنَة على كلماتهن، ومشاعرهن، وفنّهن، وصوتهن.

بدأتُ رحلة التوثيق مِن تموز/ يوليو 2024، وانضمّت معي الفنانة رنا بطراوي-شريكتي في الرحلة- من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، وأصبحنا نعمل بجهد كبير لكي نصل لكلّ الفنانات الغزّيات الواقِعات تَحتَ الإبادة، ونوثّق صوتهن وأعمالهن الإبداعية. واليوم في لقائنا مع الفنّانات وفريق العَمل عبر "الزووم" اعتبر هذا الفخر لهن، فهن ملهِمات لنا أن بإمكاننا أن نرفع أصواتنا عاليًا".

وعبَّرت الفنّانة رنا بَطراوي، الشّريكة في إعداد قصص الفنّانات وتجميعها، قائلة: "الكتابة عن تجربتنا في الحرب مهمةٌ صَعبة، لأننا حتى الآن لا نزال متأثّرات ولا تزال الإبادة على غزة مستمرّة. بِدْنا نشتغل أكثر على توثيق أصوات الفنّانات في غزة، لأنه تعلّمت من خلال هذه التجربة الثريّة أن بإمكاننا أن نحول غضَبَنا وقَهرنا والآلام التي لا تزال بداخلنا إلى عَمل عظيم، فالنساء الفلسطينيّات لديهن قاسم مشترَك، والفنّانات أيضًا لديهن مشاعر مشتركة، وقْدِرنا نكون فريق رائع نقدّم فيه حكايتنا رغم الحرب والإبادة. ومْكَمْلين".

تقول الفنانة المُلهِمة تهاني سكيك: "رغم استشهاد زوجي وإصابتي إلا إني ما بأقدر أبعِد عن قلمي وريشتي، الكلّ ح يسمع صوتي، ونقول للجميع شو إِحنا بنعمل، رجِعت أرسم وأواصل عملي الفنّي رغم كلّ شيء، فقدت أكثر من مئة وخمسين عمل فني، كلّ أعمالي وبيتي صار ركام، لكنّي نهضت من جديد".

لوحة الفنانة تهاني سكيك

وتستذكر الفنانة فاطمة أبو عودة رحلتها في مواجهة الحرب قائلة: "في أحلك الأوقات الّلي عشنها في الإبادة أجاني صوت الرائعة إيناس، كانت ليلة قاسية وصَعبة، وسألتني: كيف أثّرت الحرب عليك؟ لقيت حالي بأبكي بكاء طويل وبأكتب وسَط العتمة، الكلّ مكلوم حواليّ والكلّ تَعبان ومنهَك مع الخوف والنّزوح. كنت محتاجة حدّ يطَبطِب على قلبي، وكانت إيد د. إيناس، وكانت المُكالمة طوق نجاة، وبَديت أَرسم بقطعة فحم بأي شيء أَلاقيه، لدرجة إني كنت محتاجة ريشة، فما لقيت غير خُصلات شَعري لأعمل ريشة، وأَرجع لَذاتي ولَفنّي ولإنسانيتي الّلي حاولوا بالحرب ينزعوها منّا".

أما الفنانة عزة الشيخ أحمد فقد رَسَمت في الحرب بينما يَدُها المكسورة شاهد على الألم وبشاعة الحرب، تقول:" كُنت أستنى الليل ييجي علشان أَقدر أشغّل حزمة الإنترنت لأشوف رسائل العزيزة إيناس. هذه لحظة تاريخيّة في حياتي إنه قْدرنا نوثّقها ونقول للكلّ إحنا قادرين على الإبداع رغم جنون الحرب".

لوحة الفنانة عزة الشيخ أحمد

***

فنّانات غَزة يَروين حِكاية الفنّ والحَرب

زَنبَقات غَزة.. فنّانات فلسطينيّات عِشنَ مرارة وبشاعة الإبادة الجماعية التي لَم تَترك لوحة فنّية أو معرضًا أو ألوانًا مشرقة. سُحِقت الألوان الجَميلة، وملامحهن، وتُرِكت أَيديهن مرتجِفة، بَعدما نَزحن وجابَهن أهوالًا يومية ومعاناة حياتية قاسية لا تتحمّلها جبال، فكيف بمن يَحملن حسًّا مرهفًا، ويواجِهن المَوت اليوميّ وينصهرن بألوانهن، علّها تطفئ النيران ولو قليلًا في قلوبهن المُشَتعِلة بالفقد والقهر والحزن؟ فنانات غزّة واجَهن الحرب بريشَتِهن، وَرَغم قَسوَتِها فإنهنّ احتضنّ الأَمل لأجل مدينتهن وعائلاتهن.

اجتَمَعَت حكايتهنّ في مواجهة الحرب في كتاب توثيقيّ سيصدر قريبًا عن جامعة دار الكلمة، يَقَع في 126 صفحة، ويضمّ سيرَة وتَجربة 22 فنانة فلسطينيّة من غزة عِشن مرارة الحرب أو تَرجَمن ما تَرَكته الحَرب من نُدوب فيهنّ داخل غزة أو خارجها، وقد احتفى الكِتاب في أوّل صَفَحاته بالفنانتين الشَهيدتين هبة زقوت وحلمية الكحلوت اللتين قُتلتا في الإبادة الجماعية، تخليدًا لذكراهن العطرة، بالإضافة للفنانة ليلى الشوا الّتي تَضمّن الكتاب سيرَتَها وبعض رسوماتها، وهي مِن أوائل الفنانات الفلسطينيات اللواتي تأَلقن في المحافل الدولية عبر رَفع صوت الفنّ في غزة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومَحوِه كلّ ما هو فلسطيني.

***

سَرَدَت الفنانة رفيدة سحويل في تجربتها: "قَصَفوا مَرسَمي وبيتي. وهل تملك الفنانة أَعزّ منهما في حياة تبدو قصيرة جدًّا بالنسبة لنا كفنانات غَزيات؟ لقد فَقَدتُ سلسلة إنتاج كومكس "كوكب غزة"، وفَقَدت إرثي الفنّي لأكثر مِن سبعة عشر عامًا، وكتبًا تربّعت في قَلبي قَبل مكتبتي، تناثرت كلّها -الألف كتاب- في الحَرب، صرختُ عَبر مَعرَضي الذي افتتحته في الحرب وكان بعنوان "الجدار غَير الأخير"، نَعم كانت صرخَتي كَي أنفض الموت عن قلبي وروحي".

أما الفنانة تيماء سلامة فتقول: "زَنبَقات غَزة جَعَلني استحضر جدّتي وأُمّي فهنّ نساء فلسطينيات وَعَيت عليهن مُنذ نعومة أظافري، والزَنبق كان حاضرًا في بيتنا الجميل قبل الحرب، برائحته المميّزة وجماله، كانت الورود مزروعة في بيتنا. سنبقى نواجه الحرب بالفنّ رغم كلّ شيء".

تستذكرُ الفنّانة بيان عوكل طِفلة تَحمل اسمها نفسه قائلة: "كنت في حالة صَدمة وفَقَدت قدرتي على الرسم في بداية الحرب، وفي رحلة النّزوح ساقَت لي الأقدار طفلة تحمل اسمي وهي ترسم بِجِوار الخيمة قائلة: "نِفسي أطلَع معلمة رسم للأطفال وأساعدهم يرسموا". كانت رسالة لي. لقد فكّرت طويلًا بمعاناتي في الحرب لكنّي أيضًا رسامة ولدي رسالتي، وعدت فعلًا للرسم مع بَيان ومَعَ الأطفال منذ تلك اللحظة التي قابلتها فيها، ورَغم أنّها أَعادت لي حياة الفنّ مِن جَديد فإنني فوجِئت أنّها قد استشهدت ولم نَجِد جثّتها، عاهدْت نفسي أن أواصل الفن لأُوصل صَوتها وصوت كلّ أطفال غزة". 

زَنْبَقات غَزة

  استرسلت الفنانات في رواية حكايتهن مع الحرب والفنّ من خلال مَسيرة كتاب تَضمّن شهادة لاثنتين وعشرين فنانة فلسطينية عِشن الحرب أو أَبدَعن في توصيف الحَرب على مدينَتِهن، ووثّق الكتاب رسومات إبداعية أُنتجت أثناء الإبادة، ورغم كلّ المشقّات والصعوبات.

يَضمّ الكِتاب مبحثًا للدكتور إيهاب بسيسو نائب رئيس جامعة دار الكلمة للاتصال والتعاون الثقافي حول: "الذاكرة، المَكان، الذات: ثالوث التجربة الإبداعية"، وَوِفقَه: فالذاكرة: هي ديناميكيّة الإبداع، و"المكان" كأثر للوجود الإنساني في الحيّز الزمني، أما الذّات الفنّية: فهي تتراوح ما بين التوثيق والإبادة. كما أكد بسيسو: "فإن قراءة ومتابعة مختلف التجارب الفنية الحالية من غزة، والنابعة من عُمق المأساة البشرية والمعاناة اليومية، خصوصًا من خلال أعمال الفنانات الغزيّات، سواء داخل وخارج القطاع، وظروف إنتاجاتهن الأعمالَ الفنية، يجعل سؤال المكان والذاكرة، وارتباطهما الوثيق بطبيعة الذات المبدعة، أكثر إلحاحًا ضمن محاولات فهم فلسفة البقاء والحياة، والحرص على التجدّد والابتكار رغم استمرار كلّ تفاصيل الإبادة".

سيطلق الكتاب التوثيقي في شهر تموز/ يوليو الجاري. وجدير بالذكر أن فريق العمل قد تضمن إلى جانب مُعِدَّة الكتاب د. إيناس ديب والفنانة رنا بطراوي من جامعة دار الكلمة، أيضًا الفنانة فيرا تماري التي كَتَبت التمهيد، فيما عمل الفنان شريف سرحان على إخراج الكتاب وتصميمه، وساهمتُ كمحرّرة للنصوص العربية في تحرير الكتاب، كما شاركت ولاء صباح في الترجمة للغة الإنجليزية، وسيصدر الكتاب في وقت لاحق بالغة الإنجليزية أيضًا عن جامعة دار الكلمة، وحاضنة رامي زاهي خوري لريادة الأعمال والابتكار.


[1] عقد اللقاء الأول بين فنانات غزة اللواتي عشن تجربة الحرب مع فريق العمل التوثيقي لكتاب سيصدر قريبًا عن جامعة دار الكلمة ليكون باكورة الأنشطة للاحتفاء بفنانات غزة، ذلك بتاريخ 25 حزيران/ يونيو 2025.

الصورة المرفقة بالمقال: لوحة الفنانة عزة الشيخ أحمد.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

عزة حسن الشيخ أحمد
مقال اكثر من رائع..شكرا جزيلا د. إيناس ..شكرا للفريق المعد والمساعد والمشارك ..شكرا من القلب لكل من ساعدنا على الخروج إلى الضوء..رغم الوجع محبتنا العميقة
الثلاثاء 1 تموز 2025
رأيك يهمنا