تغطية الحرب على غزة، هل تجذب اهتمام الأمريكيين؟
في صرحٍ أكاديمي في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن، كان المشهد يلفت الأنظار ويثير المشاعر: طلاب جامعيون من مختلف بقاع الأرض ملتفّون بكوفيات فلسطينية، وآخرون يحملون علمًا ضخمًا لفلسطين. في ميدان رئيسٍ في جامعة جورج واشنطن، على درجات أحد المباني، جلس هؤلاء الطلاب لثلاث ساعات متتالية، في صمت يكاد يكون مسموعًا، يتلوّن بإجلال أسماء أربعة عشر ألف شهيد قتلهم القصف الإسرائيلي حتى التاسع من نوفمبر الأخير. وقف أحد المارة، يرقب المشهد وعلق قائلًا "من المؤسف حقًا أن يجد هؤلاء الشباب أنفسهم مضطرين إلى إخفاء وجوههم". لم تكن هذه مظاهرة يتيمة، فقد كانت جزءًا من سلسلة نشاطاتٍ احتجاجية مستمرة حتى اليوم، بل إنها بلا شك تعكس روح التحدي والإصرار في أوساط الشباب والأكاديميين من أصولٍ عربية وايضًا أمريكيين وأجانب قد يكونوا أحدثوا تغييرًا في وجه الرأي العام في الولايات المتحدة.
انشغل الشارع الأمريكي كثيرًا بالحرب على غزة في الأسابيع الأولى بين مؤيدٍ ومعارض لتوجهات إسرائيل وبينما انشغلت القنوات الإخبارية وأهم الصحف الأمريكية بقصص الإسرائيليين الناجين من هجوم السابع من أكتوبر تعمّدت تجاهل الألم الفلسطيني كما يقول بعض الخبراء. في الوقت الذي كرّس كثرٌ من الأجيال الشابة قنواتهم وإمكانياتهم في الشبكة لنقل قصص الفلسطينيين من غزة، لتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا هامًا في تغيير الوعي العام وساهمت بتغيير نمط التغطية ولاقت شعبية كبيرة في أوساط الشباب تحديدًا في الولايات المتحدة الامريكية.
وعلى وقع هذه الشعبية يبدو أن شريحة الشباب أصبحت تشكل عاملًا مهمًا في السياسة الأمريكية في ظل اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر القادم خاصةً بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية التي تطمح لولاية إضافية. من يراقب المشهد عن قرب لا بدّ أن يلاحظ تراجع شعبية الديمقراطيين في أوساط الشباب بعد الحرب على غزة فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته الإذاعة الوطنية العامة "NPR" أن أكثر من 50٪ من الأمريكيين الشباب يتعاطفون مع الفلسطينيين ما يؤكّد أهمية هذه المنصات بما يخص الرأي العام الأمريكي.
تقول د. ليلى فرسخ أستاذة مشاركة في العلوم السياسية بجامعة ماساتشوستس في بوسطن، في حوارٍ خاص إن هذه الحرب سطّرت واقعًا جديدًا يضطر لاستيعاب الرواية الفلسطينية، بل والتعامل مع الجيل الشاب ولرغباته ووعيه بجدية. وبينما اقتصرت النشاطات السياسية والاحتجاجية عادة على الميادين في الجامعات، إلا أنه وفي الأشهر الأخيرة أثبتت المظاهرات الضخمة والتي وصفها البعض بالتاريخية، أن الاهتمام بالقضايا الإنسانية أقوى بشكلٍ كبير من محاولات اللوبي الصهيوني بالسيطرة على الرأي العام.
في الحقيقة، لم تعد فكرة تحيّز الإعلام الأمريكي للرواية الإسرائيلية مجردَ تكهناتٍ أو تحليلات لبعض المراقبين، فإنّ الحرب التي أعلنتها إسرائيل على غزة أكتوبر الماضي أعادت ترتيب الأوراق بالنسبة للكثيرين بشأن ثقتهم بالإعلام الغربيّ بما في ذلك الأمريكي. يتجلى ذلك بشكل واضح بعد الكشف المهم لموقع intercept الإخباري الذي كشف عن تحيزٍ للرواية الإسرائيلية والترويج لها في بعض الأحيان، وبناءً على تحليل للمعلومات والمقالات والأخبار يشير التحقيق إلى أن صحيفتي "The New York Times" و "The Washington Post"، المشهورتيْن تجاهلتا بشكلٍ متعمد تغطية النتائج المروعة للقصف الإسرائيلي على غزة. فعلى سبيل المثال، يذكر التحقيق أن في اثنتين فقط من بينِ أكثر من 1100 مقالة إخبارية ذكرت الصحف كلمة "أطفال" فيما يتعلق بضحايا غزة.
وعلى الرغم من أن الإعلام التقليدي في أمريكا انتهج سياسة تجاهل معاناة الفلسطينيين وركّز جُلَّ اهتمامه على الضحايا الإسرائيليين، استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي قلب المعادلة هذه المرة، من خلال الانتشار الواسع للفيديوهات التي توثّق حجم الدمار وصور الشهداء ومشاهد الرعب القادمة من قطاع غزة جراء القصف الإسرائيلي. الانتشار الكبير لهذه الصور ومقاطع الفيديو في كافة وسائل التواصل الاجتماعي في تيكتوك وإنستجرام وتويتر جعلها محط أنظار الكثيرين حول العالم وساهمت بشكلٍ كبير بخروج آلاف المتضامنين مع الفلسطينيين وغزة الى مظاهراتٍ جابت شوارع أهم المدن في الولايات المتحدة آخرها كانت مظاهرة ضخمة في واشنطن بعد أكثر من ثلاثة شهور على مرور الحرب، ما يدل على اهتمامٍ غير مسبوق بالقضية الفلسطينية خلافًا للسنوات السابقة التي لم تكن فيها القضية تجذب انتباه العالم في ظروف ركود دبلوماسي أدى بالضرورة إلى تغطية إعلامية شحيحة جدًا.
ولعل هذا الركود الدبلوماسي أدى إلى تراجعٍ الاهتمام العالمي بتغطية قضايا الفلسطينيين في السنوات العشرين الأخيرة، إلى جانب الكثير من التطورات السياسية في الإقليم التي شغلت حيزًا إعلاميًا كالربيع العربي والتحولات في الساحة السياسية الإسرائيلية. ولكنّ أحداث السابع من أكتوبر فرضت على الأجندة الإعلامية إعادة تناول محاور مهمة بشأن القضية الفلسطينية. لا سيّما في ظل الاهتمام المفرط من جانب الإعلام الغربي والأمريكي بالقصة الإسرائيلية على حساب معاناة الفلسطينيين وروايتهم التي تآكلت في الأسابيع الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة.
بالعودة الى الشارع الأمريكي، وإلى الواقع، فإن القضية الفلسطينية والحرب على غزة بتفاصيلها المؤلمة قد تكسب تعاطفًا كبيرًا في الشارع الأمريكي، لكنها لن تلعب دورًا في نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة كما قال لي أحد المنخرطين في دهاليز سياسة الأحزاب في واشنطن، خاصة وأنه يظن أن الاختيار سيكون بين المر والأمر بالنسبة للأمريكيين: دونالد ترامب الجمهوري الذي يحظى بشعبية كبيرة في حزبه لكن كثيرين من الجمهوريين لم يتصالحوا مع أحداث السادس من يناير عام ألفين وواحدٍ وعشرين، وبين جو بايدن الديمقراطي الذي أخفقَ اقتصاديًا بحسب خبراء واضطر للتعامل مع حربين في ولايته. بالمقابل، هذه التحركات الشعبية والمظاهرات الضخمة والاستمرار في النشاطات الاحتجاجية يوميًا أمام الكونجرس والبيت الأبيض لثلاثة شهور متواصلة تتحدى توقعات وتحليلات خبراء الإعلام والعلاقات العامة بجدارة وقد تكون فارقةً هذه المرة خاصةً في ظل عدم إجماعٍ في الرأي العام الأمريكي الذي يبدو أوضح يومًا بعد يوم. وتبقى كل هذه الظروف والأحداث والتطورات التي قد لا نعلم عنها الآن وصفةً محكمة لمفاجأة في السياسة الأمريكية.