غزة والمجتمع الدولي.. خذلان وأكثر من تعام

اليوم الأول من أغسطس يصادف الذكرى العاشرة لمجزرة الجمعة السوداء في رفح والتي باغت فيها الاحتلال سكان مدينة رفح في المناطق الشرقية حين كانوا في طريق عودتهم بعد الإجبار على النزوح وإعلان هدنة إنسانية ووقف إطلاق النار، ما كاد السكان يصلوا إلى بيوتهم حتى حولت القذائف النارية الملتهبة حياتهم لجحيم وانهالت عليهم القذائف من الأرض والصواريخ من السماء والرعب تملّك الناس ليهربوا أو يقتلوا في البيوت والشوارع وعلى الاسفلتات بينما شاشات التلفاز تصفق وتهلل للهدنة التي تمت في حينها.!

هذه المجزرة التي قضى فيها 160 شهيدًا وأصيب فيها مئات الجرحى بينما تحولت المناطق الشرقية في رفح إلى كتلة لهب ومنطقة عسكرية وظل الشهداء ينزفون في الشوارع عدة أيام، ولم يكن هناك متسع لجثث الأطفال في شوارع رفح ليضعوا جثتهم في ثلاجات الورد، هذه المجزرة كانت تماما في مثل صبيحة هذا اليوم الأول من أغسطس 2014 في تمام الساعة السابعة صباحا، اليوم وبعد عشر سنوات ترتكب دولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر من ثلاثة آلاف و425 مجزرة منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، لازالت تعيث فسادًا في أرض غزة، تقتل وتسفك الدماء ولكن بوحشية مرعبة وكأنها غول انقض على فريسته دون أن يكون لها أي سند أو عون غير أهلها النازحين النازفين بين الخيام المتهالكة، هول قيامة غزة لم يسبق ويجعل الأفواه تحدق في اللاشىء أكثر من 90 ألف جريح ومصاب! ما يقارب الخمسين ألف شهيد ومفقود بين الأنقاض، أكثر من 16 ألف طفل استشهدوا في غزة وأكثر من عشرة آلاف امرأة، 17 ألف طفل أصبحوا أيتامًا في غزة إما لكلا الوالدين أو لأحدهما.[i]

ما الذي يمكننا توصيفه إذا ما أردنا أن نشير للعمل الإنساني في غزة وقدرته على الاستجابة لتداعيات وآثار هذه الحرب الشرسة التي أكلت الأخضر واليابس، ولم تترك بيتا إلا أصابته بهم ووجع وحسرة وفقدان، 350 ألف مريض الآن في غزة مرضى بأمراض مزمنة وهم في خطر وحالتهم الصحية في تدهور مستمر بسبب منع ادخال الأدوية والمستلزمات الطبية التي يحتاجونها، هو إعدام أمام العالم وإصرار على قتل الحياة في غزة.

يكاد اليوم أن تقارب الحرب الـ 300 يوم مستمرة متواصلة بكل صلافة وتجبر وغرور للاحتلال، فالشيطان الحقيقي لازال يرسل الأسلحة والعتاد لمزيد من القتل والبطش في اللحم الفلسطيني المسفوك دمه أمام مرأى ومشهد العالم، أين هي المنظمات الإنسانية العالمية من إغلاق معبر رفح المنفذ الوحيد وشريان الحياة لغزة، وأين هي من قائمة تطول من الجرحى والمرضى والنساء الحوامل اللواتي يزيد عددهن عن الستين ألف امرأة بحاجة لرعاية وخدمات شمولية وماذا عن الأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة والفئات الهشة، المنظمات الدولية تحذر وتناشد وتلقي بيانات ومؤتمرات لكن الفعل هو صلافة الاحتلال وتجبره وضربه لعرض الحائط بكافة القوانين الدولية والإنسانية، هذه الحرب هي طعنة لكافة المواثيق والقوانين الدولية وهي شاهد على الخروقات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني بل تبدو أن الحرب طالت هذه المنظمات والمؤسسات حين يكون الحديث عن المنطقة الجغرافية التي يتواجد فيها الانسان فاذا كان في غزة فالأمر مختلف تماما..!!

قتل من طواقم العمل الإنساني للأونروا في غزة أكثر من 197 شهيدًا كان أغلبهم في مهام عمل إنساني، هذا الاستهداف برأيي ممنهج ومقصود لإثارة المزيد من الفوضى ولإرهابهم ومنعهم من الاستمرار في تقديم المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، واستهداف المنشآت الأممية والدولية رغم أنها جميعا لديها اتصال مباشر مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لحماية طواقمها إلا أن الاستهداف ورصد للعشرات من الاستهدافات إنما هو مقصود وممنهج.

لقد بلغ عدد الشهداء من الطواقم الطبية 500 شهيد، و79 شهيدًا من الدفاع المدني، 131 سيارة إسعاف استهدفها الاحتلال فماذا أكثر من ذلك دلائل وبينات تكشف كل هذا الإجرام الغاشم.!

اللاإنسانية تتجسد في إبادة غزة

لقد حرم قطاع غزة من حق الحماية وتقديم المساعدة للمتضررين، وهنالك ضرر وتحيز ومخالفات جسيمة للحدود الدنيا للمعايير ومدونات السلوك والمواثيق الإنسانية، إن المعاناة من أجل البقاء لأكثر من مليوني نازح الآن في غزة إنما تسلب الناس كرامتهم.

هناك حالة مخيفة من الإحباط العام نظرا لما يتم من انتهاك مبادئ حقوق الإنسان وأبجديات العمل الإنساني في أي صراعات، كما أن فداحة ازدواجية معايير المجتمع الدولي تجاه حقوق الإنسان لما يحدث من مجازر مروعة في قطاع غزة ولازالت حتى اللحظة، لا يمكن للإنسان احتمال كل هذه المعاناة الإنسانية والأبشع هو السكوت عليها، فهذا إنما مؤشر على التواطؤ أو الفعل المباشر كشركاء في جرائم الحرب التي تحدث وما زالت على مرأى ومشهد العالم، وفي ذلك قالت المقررة الأممية لحقوق الانسان بفلسطين فرانشيسكا الباتيز: " الأسرة الدولية تدرك تماما المجازر التي تقوم بها إسرائيل ولا أحد يفعل شيئا لوقفها"، اما رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان فاعتبر أن العام 2023 يمثل عامَ ازدواجية المعايير الدولية في القضايا الإنسانية والحقوقية.

في غزة كل أشكال القهر والإنسانية فالقتل مستمر والطائرات الحربية والدبابات الإسرائيلية لم تترك شبرا في قطاع غزة، والنزوح والتهجير والترهيب مستمر ولازال، شمال غزة يئن من التجويع والعطش ووصلوا حد البحث عن ورق التوت، وأعشاب الأرض.! الموت جوعا في الوسط والجنوب موت ومجازر وغلاء فاحش والناس تعيش على بضع معلبات انعدام غذائي مخيف، وأطفال يعانون التجويع، مات على الأقل 35 طفلًا بسبب الجوع وانعدام الحليب والفيتامينات، بينما لازال 3500 طفل معرضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء.

المرعب أن الأرقام تتضخم وتزداد يوما بعد يوم فالدقائق تحمل الدم والموت والتجويع، 96% من السكان في غزة والنازحين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد عند مستويات الأزمة أو أعلى، مع وجود ما يقرب من نصف مليون شخص في ظروف كارثية، وذلك في أحدث تقرير للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي عن غزة.

التحدي الأكبر لمنظمات العمل الإنساني يكمن باعتقادي في فقدان الثقة بهذه المنظمات خاصة مع هدر الكرامة الإنسانية للنازحين وتركهم لمواجهة مصيرهم في الموت، أكثر من سبعين يوما وأحد من مكونات المنظومة الدولية لم تتمكن من إدخال الدواء والمستلزمات الطبية والاغاثية عبر معبر حدودي صغير، بل تتكدس مئات الاطنان من الأدوية والطعام الذي قد يكون تالفا حاليا، لم تتمكن من إدخال كوب ماء أو كأس حليب لطفل، بينما استجابة هزيلة تمكنت احدى المؤسسات من اخراج عدد محدود جدا من الأطفال مرضى السرطان عبر معبر كرم أبو سالم وبعد أشهر من التنسيق الدولي رفيع المستوى؟؟ وكأنه موت إجباري عبر عنق الزجاجة الغزي...!!

كبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة سيخريد كاخ قالت: لا يزال هنالك الكثير الذي يتعين علينا القيام به حتى لا نخذل الفلسطينيين في غزة" وعلى اعتبار أن العالم لم يخذل الفلسطينيين في غزة بعد.! فما الذي يتوجب فعله حقيقة من قبل العمل الإنساني كي لا يوصم بالخذلان..!

بعد ثلاثمائة يوم نظرة الغزيين للعالم وللمنظمات الإنسانية الأممية وغيرها لن تكون أبدا كما قبلها، فالخذلان سيد الموقف واستمرار حرب الإبادة الجماعية والاجبار على النزوح لا زال على بشاعته بينما لا توجد أي مراكز صحية أو عيادة او خدمات طبية إنسانية بالمعايير الأدنى، ولا توجد أي حماية أو أمان حتى شربة الماء لا يجدها الغزي فكيف يمكنه أن يرى الاستجابة لأهوال يوم القيامة التي يعيشها، إن حجم معاناة غزة فوق الاحتمال ولا يطاق، وكل ساعة إضافية إنما هي مؤشرات على تفاقم الازمة الإنسانية في غزة

مرة أخرى غزة تضع مبادئ العمل الإنساني في اختبار صعب، وقد فشلت كل مكونات العمل الإنساني نظريا وعمليا في اختبار غزة، ولازالت غير فاعلة بالحدود الدنيا وقد ضرب الاحتلال الإسرائيلي عرض الحائط بكل مبادئ وقوانين العمل الإنساني واستهدف هذه المنظمات مع سبق الإصرار والترصد من خلال إفراغها من قدرتها ومن مضمونها الفعلي، وتعمد الضغط عليها أيضا وتحجيم دورها بمنع إدخال أي مساعدات إنسانية عاجلة واغاثية، وهذه صفعة قاسية لهذه المنظمات، فعملها يعتمد على احترام الكرامة الإنسانية والمساعدة الطارئة وقت الحروب والأزمات، بينما شل الاحتلال الإسرائيلي كل قدراتها في غزة وبالنزر اليسير تكاد تفعل شيئا داخل غزة وهو تحت دائرة المخاطرة والاستهداف الدائم.!

غزة الآن بحاجة إلى إنقاذ عاجل يتطلب وقف حرب الإبادة الجماعية، والإسراع في إنقاذ الناجين واغاثتهم قبل أن تصبح قوائم المصابين والمرضى في قائمة الشهداء، إن الاحتلال الإسرائيلي من يجب أن يتحمل مسؤولياته في تدمير غزة وجعلها غير صالحة للحياة لا يجب الصمت أبدا ومساعدة الاحتلال على الإفلات من العقاب أمام الهيئات الدولية المختصة، وإلا فالتساهل في ذلك إنما يعني الشراكة في القتل والتدمير والإبادة.


المصدر: المكتب الاعلامي الحكومي في غزة.

الصورة: للمصّور بلال خالد.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا