حالُ المُدرّسين والطلاب العرب في زمن الحرب: عندما "يجلس" الخوف على المقاعد المدرسية!
في غرفة المعلمين، وبعيدًا عن الأنظار، نصحني المعلّم المرافق لي خلال التطبيق العملي لمهنة التدريس بعدم الخوض في نقاشات سياسية مع الطلبة. جاءت نصيحته بعد تمريري لحصة المدنيّات، فما بالكم بالذي يحصل في الحصص الأخرى؟
كنت قد مرّرت حصة مدنيات حول حرية العبادة، وسألتُ خلالها سؤالًا استنكاريًا، إن كان حقّا هذا ما يجري داخل دولة تتدّعي أنها ديمقراطية؟ وعلى الرغم من تخوّف المعلمين من التطرق إلى مواضيع سياسية في المدرسة، فإنّ الطلبة شاركوني إجابات يبدو أنّهم كانوا متلهفين لقولها، شعرتُ أيضًا أنّ لديهم فضولًا ورغبة بالحديث عمّا يجري.
ملاحقة المعلمين والمحاضرين العرب بسبب هُويّتهم
شهدنا في بداية العدوان على غزة حملة اعتقالات تعسفية وغير مسبوقة في البلاد، كان بعضها بسبب "لايك" أو "ستوري". كما تم تعديل قانون "مكافحة الإرهاب" ليجرّم نشر منشورات "إرهابية"، بما يضمن أن تصل عقوبة من ينشرها إلى عام.
بالإضافة إلى ذلك، لعبت الأكاديميات والمؤسسات التعليمية الإسرائيلية جزءًا أساسيًا في ممارسة هذه الانتهاكات، حيث فصلت عشرات الطلاب العرب أو هدّدتهم بالفصل من تعليمهم، بحجّة مشاركتهم منشوراتٍ تدعم الإرهاب أو تتماهى معه، في حين أنّ جزءًا كبيرًا منها كان يتعلق بالتعاطف مع أهالي القطاع والتنديد باستهداف المدنيين. وفقًا لمركز "عدالة" فقد توجّه له ما لا يقل عن 100 طالب عربي تم استدعاؤهم إلى لجان الطاعة في الأكاديميات الّتي يتعلمون فيها.
كما تم توقيف محاضرين وُمدرّسين عرب عن عملهم في الأكاديميات والمدارس عبر استخدام الحجّة ذاتها. بهذا شكّلت المؤسسات الأكاديمية والتعليمية أداة قمع يستطيع بواسطتها الاحتلال إحكام سيطرته على فلسطينيي الداخل.
ما أشبه اليوم بالأمس
تم في أيار الماضي إبعاد المعلمة صابرين مصاروة عن عملها في مدرسة ببلدة يهودية إثر مشاركتها في مسيرة العودة الـ 27، وجاء قرار إبعادها بعد تحريض التلاميذ وأولياء أمورهم عليها ومطالبتهم بفصلها من المدرسة.
كذلك تعرّضت البروفسورة نادرة شلهوب -وهي محاضرة في الجامعة العبرية- إلى سلسلة من التحقيقات، بعد حضور قوة شرطية إلى منزلها في القدس دون سابق إنذار واعتقالها بتهمة "التحريض"، وذلك بسبب مواقفها السياسية ضد الحرب على غزة. كما علّقت الجامعة العبرية عمل شلهوب ثم تراجعت في وقت لاحق.
تمت الموافقة بداية هذا العام بالقراءة الأولى على قانون فرض رقابة على المعلمين والمعلمات العرب تحت ذريعة مكافحة "الإرهاب"، ومفهوم الإرهاب في هذه القوانين فضفاض وغير واضح، يتضمّن المساس بحرية التعبير ومنع انتقاد الاحتلال.
وعن ذلك تقول المحامية سلام أرشيد من مركز "عدالة": "يتم استخدام مصطلحات فضفاضة وغير واضحة حول دعم أعمال عنف أو أعمال إرهابية، وتكمن خطورة هذا القانون بكونه يُعطي صلاحية لأصحاب مناصب إدارية وسياسية كوزير وزارة المعارف ونائبه بفصل معلّمين عرب، بحجّة تحريضهم على العنف أو الإرهاب، على الرغم من عدم إلمامهم بالجانب القانوني. يُعطي هذا القانون شرعية للملاحقات السياسية، حتّى وإن كان موقف المعلّم إنسانيًا وغير سياسي، مثل تعبيره عن مساندته أهلَ القطاع، هناك أشخاص فُصلوا بسبب هذه الأقوال الّتي تم اعتبارها أعمال عنف، يكفي أن لا يتوافق رأي المعلّم مع رأي الغالبية الساحقة في الدولة ليتم اعتباره داعمًا للإرهاب. ولقد شهدنا بالفعل في بداية الحرب السهولة الّتي تم فيها التعامل مع هذه التّهم. يمسّ هذا القانون بشكل جليّ بالحق في العمل والتعبير عن الرأي".
وتُضيف: "القانون هو تجلٍّ لسياسة العقاب الجماعي، حيث يُعطي الصلاحية بسحب التمويل من المدارس، في حال اتهم أحد معلّميها بالتماهي مع الإرهاب، إنّ ثمن هذه السياسات يدفعها التلاميذ أيضًا.
هناك تخوّف من أن يتم إعادة البند الّذي يسمح بتدخّل جهاز "الشاباك" في جهاز التعليم العربي، الأمر الّذي سيمس باستقلاليته. ومن المتوقّع أن تزيد الرقابة الذاتية لدى المعلّمين وامتناعهم عن التعبير عن آرائهم حتّى خارج إطار المدرسة، خوفًا من أن يتم استخدام كلامهم ضدهم. هذه السياسات هي تخويف للجهاز التعليمي العربي بأكمله".
تأتي هذه الإجراءات كمحاولة جليّة لطمس الهُوية الوطنية عبر تهديد المُعلّم بمصدر رزقه، وتخيير الطالب بين إكمال مسيرته التعليمية وإبداء رأيه الوطني والإنساني. وإنّ الأهداف الأساسية من ورائها هي إحكام السيطرة على جهاز التعليم العربي ومحاولة انتزاع الانتماء الوطني من الطلبة والمعلمين العرب، ومنع التحامهم مع أبناء شعبهم ومن التعبير عن مواقفهم السياسيّة.
تُذكّرني هذه الإجراءات والقوانين بفترة الحكم العسكري (1948-1967)، الّتي برزت فيها محاولات صهر فلسطينيي الداخل في إسرائيل. وطالت هذه المحاولات جهاز التربية والتعليم، حيث عملت إسرائيل حينها على إعادة إنتاج هُويّة العرب وبنائها من خلال جهاز التعليم وترهيب المعلّمين ومنعهم من الحديث عن النكبة أو فلسطين.
كيف كان ردّ فعل المعلّمين؟
"الخوف كان سيّد الموقف والمُسيطر على المعلّمين والطلاب معًا"، تقول لينا (اسم مستعار) المُعلمة في المرحلة الإعدادية، وتُتابع: بداية الحرب كان الجميع يشعر بخوفٍ غير مسبوق والتيه والصدمة من الحرب الشرسة الّتي شُنّت على القطاع. اندلعت الحرب في ثاني شهر للعام الدراسي وفيه تم تحويل التعليم ليكون عن بُعد مدة أسبوعينَ، طُلب منّا نحنُ المعلّمين أن نتحدّث مع الطلبة حول مشاعرهم وأن نُطمئنهم. لكن ممّا سمعته ورأيته لم يتطرّق المعلمون إلى الموضوع بتاتًا. كان من المؤسف بالنسبة لي أنّ المعلّمين بالأخص المُربين لم يتحدّثوا على الأقل حول مشاعر الطلبة".
لا تزال لينا تؤمن، على الرغم من الخوف السائد، أنّ وظيفة المعلم الأساسية ليست التدريس، بل بناء ثقافة ووعي، وعن ذلك تقول: "منذ اليوم الأول للحرب رأيتُ أنّ الحديث مع الطلبة مهم وهذا ما فعلته، سألتهم عن مشاعرهم وحاولت أن أشعرهم بالطمأنينة. لاحظت مدى خوفهم من التعبير عن رأيهم، كانت إجاباتهم مقتضبة ووجوههم قاتمة وكأنّها متأهبة لحدوث أي شيء، كان الإنصات يفوق التحدّث وهذا ليس ما كنت أرغب بحدوثه".
"لم أكن أتحدث عن رأيي الشخصي إنما كنت أخوض نقاشات مع الطلبة حول آرائهم ومشاعرهم، وأعمل على توعيتهم في فهم ما يحدث في محيطنا والأسباب الّتي تقف وراء ما يجري. وعلى الرغم من الخوف الموجود فإنّ الطلبة كانوا متعطشين للاستماع والمعرفة".
"أذكر جيدًا حينما سألتهم عن ماذا يعرفون حول الأحداث التي تجري بين الأطراف المتنازعة؟ أسكت أحدهم زميله قائلًا: "اسكت بلاش تنحبس". هم يُفكرون بينهم وبين أنفسهم: "معقول انحبس؟"، "معقول المعلمة تنحبس ويصير هيك؟"، "أنا كمان مهدد مش بس المعلمة وأهلي". و"ممّا زاد من مخاوفهم هو خبر اعتقال طالب من بيته بسبب منشور شاركه بداية الحرب. هم يدركون أنّنا كلنا مُهدّدون في حال نشرنا أي محتوى يتعلّق بالحرب".
أمّا عن التقييدات الّتي حدثت في المدرسة، فتقول: "كانت تتعلق بالرموز الفلسطينية، مُنع الطلاب من ارتداء الكوفية في الجولات، وارتداء سلاسل تحمل شكل خارطة البلاد داخل المدرسة. حتى الآن لا نعرف إن كان هذا إجراء احترازيًا أم طلبًا من المسؤولين، لكن يمكنني القول إنّ هذا التقييد يختلف عمّا سبق، لم يحصل من قبل أن منعنا التلاميذ من ارتداء الكوفية".
وتردف: "الخوف الّذي كان يشعر به زملائي أنا أيضًا شعرتُ به. أن تري الناس من حولك يُعتقلون والمعلمين يُفصلون من عملهم لأسباب عديدة منها النشر، أشعرني بالخوف على وظيفتي أكثر من أي عامل مستقل، كوني أعتبر عاملة دولة. صحيح أنّ هناك خوفًا على مصدر الزرق، لكن برأيي أنّ الأمر يتعلق بكيف يقيس المرء خوفه، وكيف يسمح لهذا الخوف بالسيطرة عليه، يجب علينا إعادة التفكير حول من بالفعل لديه القدرة على تقييد الرزق ومن المسؤول عنه".
وتنهي برسالة للمعلمين والمعلّمات: "أنا أؤيد أن يتحدث المعلّم حول ما يجري رغم سياسات الترهيب، ذلك لأنّ مهمة المعلّم الأساسية هي التربية والتثقيف وتوعية الطلاب حول هويتهم الّتي من المفترض أن تكون جزءًا لا يتجزأ في منظومة التعليم، وإن كانت غير متواجدة في الكتب، فعلى الأقل أن نقوم نحن المعلّمين وبقدرتنا المحدودة بتغذية الطلبة بها".
الخوف يتسلّل بين طلاب المدارس والأكاديميات
"المعلمون أخافونا قبل الدولة"، يقول محمد، وهو طالب في الثانوية العامة، ويشرح: "في بداية الأحداث كان الجميع مصدومًا ويشعر بالخوف، حتّى أنّ بعض الطلاب لم يحضروا إلى المدرسة. عندما كنّا نسأل المعلمين عمّا يجري، معظمهم كانوا يتهرّبون من الإجابة عبر تغييرهم للموضوع. من ناحية أخرى لا يُمكنني لومهم، فهذه فترة حرجة وهم لا يستطيعون التحدّث وتدمير حياتهم.
معظم المدرّسين أخافونا قائلين لنا: إنّهم يراقبوننا ويعتقلون أي شخص يقوم بالنشر أو حتى يتحدّث عن الموضوع. ما زاد الخوف بيننا هو تعرّض بعض الطلاب إلى مشكلات بسبب نشرهم محتوى داعمًا للقضية الفلسطينية، بعضهم تعرّض للضرب من قبل الشرطة. حتى أنا لم أعد قادرًا على الدفاع عن القضية الفلسطينية بسبب الخوف الّذي أشعرنا به المعلّمون قبل الدولة. كنت أتحدّث مع أصدقائي فقط حول ما يجري ومع هذا كان الخوف ملازمًا لنا".
تقول عدن (23 عامًا) وهي طالبة إعلام في إحدى المؤسسات الأكاديمية: "هنالك فارق كبير بين هذه السنة الدراسية وما سبقها. عادةً أشارك رأيي كوني ناشطة سياسية وابنة حزب، لكنّي هذه المرة شعرت بالخوف تحديدًا بعد رسائل "الواتساب" التحريضية ضد الطلبة العرب. صديقتي تم استدعاؤها إلى لجنة طاعة بسبب منشور شاركته، وكادت أن تخسر مسيرتها التعليمية بسبب تحريض الطلبة الإسرائيليين عليها".
"معظم الطلبة الفلسطينيين في الأكاديمية أخذوا موقفًا حياديًا خوفًا على مستقبلهم، خصيصًا من هم في السنة الأخيرة. حتّى نقابة الطلاب العرب لم تكن حاضرة، يمكنني القول إنّها تجاهلت جميع توجهاتنا. كطالبة عربية في الأكاديمية الإسرائيلية تشعرين أنّك بدون سند.
في قسم الإعلام فضّلنا السكوت أيضًا، حتى نتمكّن من التخرّج وممارسة عملنا الإعلامي في المستقبل كوسيلة للتعبير عن رأينا. في الوقت نفسه، لم نُشعر الطلاب الإسرائيليين أنّنا خائفون. لا أخفي عليكِ أنّ المشاعر كانت صعبة، أنتِ تريدين التعبير عن رأيك وسط ما يجري وما تسمعينه لكنّك على دراية أنّهم ينتظرون أي كلمة لإيقاعك، فقد حاول مسبقًا بعض الطلبة الإسرائيليين إيقاعنا عبر أسئلتهم لنا حول الأحداث الجارية. برأيي أن تجلسي معهم في القاعة نفسها وتتعلّمي بينهم هو جزء من النضال وهذا ما يكسرهم"، تُتابع.
أما عن نشاطها السياسي فتقول إنّها توقفت عن ممارسته خوفًا من خسارة تعليمها الأكاديمي، وكذلك بسبب قلق عائلتها. تُحدّثني عدن أنّ الناس والأهل في بلدها ما زالوا يخافون بعد الأحكام الجائرة بحق أسرى هبّة الكرامة، الذين لم يجدوا سندًا لهم ولأهلهم، وتقول متعجبة: "تخيّلي أنّ أسرى هبّة أيار لم يقف أي أحد معهم حينها، فما بالك هذه الفترة؟!".
كنت قد اخترت مهنة التدريس كمهنة إضافية في مسيرتي إيمانًا منّي بدور المعلّم في التغيير وصقل الوعي السياسي لدى الجيل الجديد، لكنّي أتساءل اليوم: هل كانت أحلامي كبيرة وغير قابلة للتحقّق في ظل ما يجري من سياسات تكميم الأفواه والترهيب المُمارَسة بحق المعلّمين الفلسطينيين في الداخل؟