في غزة... حفار واحد وآلاف الجثث بالانتظار

لا تنتهي طوابير الانتظار في غزة.. طوابير انتظار الموت وما بعد الموت.!

في انتظار الموت/الحياة يصطف الرجال والنساء والأطفال طوابيرا للحصول على طحين قد لا يحصلوا عليه بعد أيام في طابور الانتظار، طوابير أخرى للحصول على الغاز والذي لم يفلح الأكثرية في الحصول على نصف جرة منه، وآخرون يصطفون طوابير طويلة بالعشرات والمئات والآلاف على شربة الماء؟؟! طوابير لا تنتهي فلم تعد تفلح الأربع وعشرين ساعة لتجاوز الحصول على لقمة عيش، لقمة للبقاء في غزة...!! طوابير لا تنتهي في غزة للناجين ومنتظرين الموت؟؟! طوابير للجرحى والمصابين فقد قالها الأطباء في غزة من ضخامة أعداد المصابين وعدم قدرة المشافي على استيعابها فأكثر من خمسين ألف جريح يجبر الطبيب على المفاضلة بين الجرحى من يمكن أن يخضع للعلاج بالحد الأدنى وبين من هم إصابات خطيرة لن يجدي معها حال المشافي المعطلة، ويتردد صدى الطفلين المصابين بينما يحملهما رجال الدفاع المدني من تحت ركام بيتهم مرددين.. شكرا يا إسعاف شكرا يا إسعاف أنتو أنقذتونا في إشارة من الصغيرين أنهم كانوا في موت محقق لولا وصول رجال الإسعاف والدفاع المدني لإنقاذهم من بين الأنقاض...!! وكي لا يصبحوا رقما إضافيا للشهداء أو العالقين بين أنقاض بيوتهم يموتون بصمت القبور التي كانت ذات يوم بيت يأويهم...!

أما ما بعد الموت فهنالك طوابير ذات نوعيات مختلفة أولها من ينتظرون للحصول على كفن يقفون طوابير أيضا ليتمكنوا من الشروع في دفن موتاهم، طوابير تبحث عن مكان مناسب للدفن فالمقابر قد امتلأت والشوارع باتت قبورا بل حتى الأسواق والبيوت أصبحت مدفنا للشهداء... طرقات وساحات وملاعب وصالات الأفراح أصبحت جميعها مقابر جماعية..

 حيثما وليت نظرك ستجد قبورا وبأحرف مرتجفة تقرأ.. هنا جثمان الشهداء محمد البدرساوي والشهيد والشهيد والشهيد.. ...!! يرقدون للأبدية...! أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية للغزيين في شمال ووسط وجنوب قطاع غزة أقلها يضم ثلاثة جثث وأكثرها يضم مئات الجثث لشهداء مجهولين أو معلومين فلم تعد تتسع الأرض في غزة لدفن الموتى...!!

سبعون يوما ويزيد على الإبادة الجماعية على الغزيين.. القصف لم يتوقف.. تستمر الغارات الإسرائيلية والتي تحمل أصواتا وأسماء مختلفة منها القصف المتعمد للبيوت ومنها القصف العشوائي ومنها الأحزمة النارية ومنها براميل المتفجرات ومنها القنص ومنها قذائف الدبابات ومنها الصواريخ بلا صوت لكنها تدمر حي بأكمله!! القصف بكل أنواعه لم يتوقف والزنانة التي تصم آذان الغزيين كل دقيقة ليلا نهارا ولا تتوقف أيضا طائرات الكوادكوبتر ذات الصوت الذي يشبه حفيف الثعابين إنما هو قتل واغتيال مقصود...!! 

القصف لا يتوقف والقتل لا يتوقف الشهداء يتبعون بعضهم بعضا في قوافل الشهداء الخالدة. يمسكون أجنحة بعضهم يسحبون عائلاتهم أصدقاءهم جيرانهم يمضون بخطى ثابتة متسارعة هاربين من قهر الحياة في غزة ومن وحشية الجرائم المرتكبة بهم وبأبنائهم وبآبائهم وأحبابهم.. إنهم يركضون تباعا لا يتوقفون فالقصف لم يتوقف.. لكنهم يرحلون بأرواحهم بينما أجسادهم باتت مدفونة تحت أنقاض بيوت كانت يوما حضنهم الدافئ...! تغلي قلوب من تبقى أحياء من عائلاتهم كيف يمكن الوصول لجثامين تحت عدة طوابق وأصبحت في قعر الأرض في بطنها ابتلعت اللحم المشوي والحجارة وأشياء كانت يوما سريرا وأحيانا كانت مكان نومهم ويقظتهم. 

كيف يمكن أن يغفو للحظة من يريد أن يدفن أحبابه ويدفنهم فإكرام الميت دفنه كيف السبيل لجثامينهم التي باتت في بطن الأرض لا يوجد في غزة كلها إلا حفار واحد فقط بإمكانه بعد عمل ساعات متواصلة وأيام أن يصل للجثامين في بطن الأرض. 

الأموات أيضا في غزة تعلق جثامينهم ما بين السماء والأرض فلا هم في قبر وشاهد ولا هم باقون كقطعة واحدة تضم اليدين والقدمين والرأس والجسد وقد أصبحوا أشلاء بين جدران بيوتهم المدمرة.. 

الصحفي الشهيد حسونة سليم قال في مشاهداته أنه تابع رجلا أربعينيا يتجه لبيته المدمر لأحد عشر يوما يذهب للدمار يمكث في مكان ما بين أماكنه المدمرة ثم يعود في اليوم التالي، وحين تتبعه وجده يزور أحد أبنائه ليقبل رأسه الوحيد الذي بقي فوق الركام بينما غاب جسده كله تحت الركام، ليضع غطاءا قماشيا عليه خشية أن تنهشه الحيوانات الضالة أو يؤذيه فيما بعد الموت وما بعد الحياة عاجزا عن إخراج ابنه ودفنه كما باقي الآباء، عاجزا عن إعادة ابنه للحياة، عاجزا حتى على اراحة جثمان ابنه ليكون ممددا على الأرض ما بعد الموت إلا أنه ظل يذهب لأيام متعددة لعجز رجال الدفاع المدني والحفار الوحيد على متابعة وإخراج الجثث المبعثرة تحت أنقاض البيوت فجحيم غزة لم يسبقه ولن يأتي على العالم مثيلا له..!

آلاف الجثث الآن لازالت مقهورة لم يصلها الدفاع المدني ولم يصلها الحفار الوحيد فهنالك حفار واحد وآلاف الجثث بعضها بدأت تتحلل وبدأت تتصاعد من أماكن بعضها روائح الموت بسبب التحلل، بعضها بدأت تقذف منها السوائل التي قد تسبب في حال ملامسة الأحياء لها إلى أمراض خطيرة تنتشر بسرعة مخيفة بين الأحياء!! إذن هو سبب لموت حتمي آخر في غزة بعد أن اجتمع الصاروخ والجوع والعطش إلى جانب الأمراض التي قد تفضي إلى الموت الحتمي في غزة لا تعرف من أي موت ستنجو هل يمكنك النجاة منها كلها كيف السبيل؟؟ كيف السبيل لموت بعد الموت حيث تتعفن الأجساد الطاهرة آلاف الجثث مكدسة ممزقة تشعر بالبرد تحت الجدران الأسمنتية رائحة التراب تحيط بها ورائحة الموت تظللها فأي موت لم يمت بعد.!! 

ومقابر غزة تدفن فيها نصوص القوانين الدولية ...!!

بينما ينص القانون الدولي الإنساني في قواعده الخاصة بمعاملة الموتى في القواعد 113 و115 و116 وغيرها على ضرورة اتخاذ كل الإجراءات الممكنة لمنع سلب الموتى. ويحظر تشويه جثث الموتى، والتُعامل مع جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام، وتُحترم قبورهم وتُصان بشكل ملائم، ووضع علامات لأماكن القبور" كل ذلك لا ينطبق على الموتى والقتلى في قطاع غزة إنما هي نصوص بأكملها لا تسري في غزة، فحتى المقابر التي كانت موجودة في غزة هرستها دبابات الاحتلال واستقرت على القبور ودمرت الشواهد وأخرجت الجثث من مرقدها وداستها بثقل مجنزراتها لتعيث فسادا في المقبرة، تدمر أسوارها وتجعلها طريقا لها، وكأنها تريد قتل الموتى مرة أخرى وكأنها تريد الوصول للحياة عبر الموت كعقلية المحتل الإسرائيلي..! 

مقبرة الفالوجا شاهد على القتل ما بعد الموت...!

مقبرة الفالوجا شاهد على القتل ما بعد الموت، والإصرار على القتل مرات ومرات فما بعد الروح. لم ترحم آليات الاحتلال الإسرائيلي جثامين الفلسطينيين حتى بعد الموت. فكانت تدوسها وتمزقها، إمعانا في القهر والخشية تارة، وتسرق أعضاءها وجلودها تارة أخرى، كما سبق وتكشف[1]. بل ولم تكتف قوات الاحتلال الإسرائيلي أثناء الحرب على غزة بل فتحت القبور وسرقت عشرات الجثث ونكلت بها[2] في مخالفات وجرائم يندى لها جبين الإنسانية وتدوس بكل وحشية كافة القوانين والمواثيق الدولية وتضرب بها عرض الحائط، فما دامت دولة الاحتلال خارج نطاق المساءلة فإنها ستزداد شراسة واستباحة للدم الفلسطيني حيا أو ميتا...!

الموتى والأحياء كلهم سيان عند الاحتلال الإسرائيلي البشع والذي لا يفرق بين الأحياء والأموات فكلهم معرضون للقتل مرة إن كانوا أحياء ومرات إن كانوا أموات، فأين هذا العالم الحر من عنجهية ووحشية أبشع احتلال على وجه الأرض؟! 

إن غزة باقية بأحيائها وأمواتها باقية كجذور الزيتون وكشجرة الخلود التي تمتد جذورها في باطن الأرض فتحيي الأموات ذات يوم مقدس، فغزة قديسة نالت منها ويلات الحرب قد تبكي حينا وقد ينغلق قلبها حزنا إلا أنها الأيقونة التي تتألق في ظلمات كل المكلومين، تعود تحتضن أحياءها وأمواتها وتغني للحياة والحرية.


[1]https://video.twimg.com/ext_tw_video/1740985633726763009/pu/vid/avc1/1280x720/g3z4pLyE2L74s5ps.mp4?tag=14

[2] وفقًا لما جاء من المكتب الاعلامي الحكومي في غزة، كما ورد في تقرير صحيفة "اليوم السابع" بتاريخ 28/12/23.

تصوير: عبد الرحمن زقوت.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م