سوطهم يكتم صوتنا: انتهاك حق الصحافيين خلال تغطية الحرب

"لحظات معدودة قبل أن نكون على الهواء مباشرة من رأس الناقورة في تاريخ 12.10.2023 لتغطية الأحداث من هناك وذلك بعد معاناة للوصول نتيجة الحواجز الطارئة التي تم نصبها خلال الطريق وبعدها تم السماح لنا بالدخول للمنطقة لكي نقوم بواجبنا وعملنا الصحفي، لكن تفاجأنا بقدوم جنديين بالاعتداء علينا ومنعنا من التغطية بالاعتداء الجسدي و تهديدنا بالقتل ونزع كاميرات التصوير والميكروفون منا بالقوة ودفعي برجليه وهو يقول لي 'أنا لا أريد أن أراك هنا مرة ثانية بحياتك' أجبته 'أنا مراسل صحافي وأقوم بتأدية مهامي هنا'،  رد علي وقال 'أنت متعاون' وهددني بالقتل وأعطاني 30 ثانية كي ألملم المعدات و انسحب من المنطقة دون عودة… عدا عن أنه قام بنزع ملصق 'صحافيّ' الموجود على السيارة واتهامي أنني أبث الاخبار ضد إسرائيل وضد الجيش".

لم يكن الاقتباس سيناريو لفيلمٍ من إنتاج نتفليكس… بل شهادة قام "مركز إعلام" بتوثيقها على لسان الصحافيين الفلسطينيين الذين يتواجدون في الميدان ويواجهون الصراع خلال الحرب وهي عيّنة فقط من هول التجربة. ربّما مع مرور سنوات على الحدث سيحتاج الأمر إلى إنتاجات عربية وعالمية سينمائية لتوثيق الاعتداءات على الصحافيين الفلسطينيين في ظل الحرب منذ 7 أكتوبر 2023.

مركز إعلام ومن خلال طبيعة عمله منذ عام 2000 يعنى بشؤون الصحافيين والصحافيات الفلسطينيين، كما ندافع عن حقوقهم أمام المؤسسة الإسرائيلية خلال تغطية الصراع. ومن خلال جمع الشهادات لمسنا الخطورة التي يتعرض لها الصحافيون والصحافيات في الميدان، في غلاف غزة أو الحدود الشمالية وأيضا في القدس والضفة الغربية.

هذه الشهادة أعلاه جاءت على لسان الصحفي محمد خيري الذي عمل وتواجد من قبل وكالة أنباء الأناضول لكن الحجة التي يأتي بها الجيش الإسرائيلي أن الصحافيين دخلوا إلى مناطق عسكرية مغلقة وهذه مخالفة لكن واضح تماما ان عناصر الجيش والشرطة لم يعلنوا ما هي المناطق العسكرية المغلقة والممنوع دخولها، لماذا لم يتم نشر أسماء المناطق العسكرية المغلقة للصحافيين والصحفيات والحد من تعرضهم للخطر؟ ولماذا تم لهم السماح بالدخول؟ واضح تماما أن هذا كمين ممنهج ضد الصحافيين بالسماح لهم بالدخول كي يتم منعهم والاعتداء عليهم ومحاكمتهم والأهم من كل ذلك، الصراع مع الصحافي ليس صراعًا تقنيًا على المناطق المسموح والممنوع دخولها إنما حربًا على الرواية الإعلامية والاعتداء المقصود على الصحافيين بشكل مباشر وخاص وعلى المؤسسات الإعلامية بشكل عام مثل قناة الجزيرة والميادين والمؤسسات الإعلامية التي تتبع لـ"دول داعمة لحركة حماس" على حد تعبير المؤسسة الإسرائيلية مثل وكالة الأناضول التركية والإعلام العربي المحلي. 

مرجعية وأبجديات حق حرية الصحافة التي نجدها في كل القوانين الدولية وحسب وثائق جنيف أن حرية الصحافة تعتبر من المقومات الأساسية في الدولة ذات النظام الديمقراطي وشكل من أشكال حرية التعبير عن الرأي المنبثقة عنها حرية الكتابة والقراءة وحرية تلقي المعلومات وحق الجمهور في المعرفة وبحسب هذا الحق يجب على القانون أن يمنح الحرية للصحافيين في التغطية دون تقييدات تفرض على المضمون وطريقته ومنح الصحافة نقل الرواية للجمهور بهدف التأثير على واقع المجتمع، رغم ادعاءات المؤسسة الإسرائيلية إن الاعلام العربي الفلسطيني والصحافيين والصحفيات الفلسطينيين ينشرون الرواية الكاذبة ضدّهم إلا أنه وبحسب حق حرية الصحافة، الحقيقة لا تكمن في القوة السلطوية الداعمة لها بل في قوة اقناعها الداخلية كما أن التعامل الأمثل مع الأكاذيب لا يكمن في اسكاته انما بالكشف عنه، انعدام الدستور في إسرائيل وخلق حكومة وحالة الطوارئ يكلفها في منع الصحافة من التغطية وتشغل التقييدات التي تشرعن الاعتداء والمنع من التغطية، منذ 7 أكتوبر ومن خلال الشهادات التي تم توثيقها في مركز إعلام إنه لا يوجد قانون نتعامل معه للدفاع عن الصحافيين وزيادة في الفجوة بين المكانة القانونية وبين الوضع القائم، القوانين والأوامر في الحرب تعتبر قاسية تمنح السلطات الإسرائيلية وضباط الجيش صلاحيات تحديد وتقييد حرية الصحافة من خلال منع النشر والتعتيم ومنع الصحافيين من التغطية بحجة المنطقة العسكرية المغلقة وتهديد الصحافيين واستدعائهم للتحقيق وحالات الانتظار التي يعيشونها في مراكز الشرطة دون استجواب وفقط بهدف تأخيرهم واللعب في الأعصاب والحجة تكون أنهم دخلوا مناطق عسكرية مغلقة هذه الذريعة الإسرائيلية بحق الصحافيين الفلسطينيين والمس في حرية التعبير بالرغم من التصريحات الدولية المتعلقة بضرورة حماية حرية الصحافة وحقوق الصحافيين والتي من المفروض أن تتمثل في ضمان مساحة عمل حرة وموضوعية في الميادين دون تمييز وتملق ودون سياسات ممنهجة في الانتهاكات المتعمدة لحقوق الصحافيين والمضايقات الفردية لهم  من جهات الأمن وعناصر الشرطة وفي أساليب لا تتماهى مع معايير حرية الصحافة والتعبير والحق في الخصوصية .

لاحظ مركز إعلام ومن خلال رصد  الاعتداءات على الصحافيين خلال حرب "طوفان الأقصى" الفروقات بالتوثيقات بين هذه الحرب عام 2023 وحروبا أخرى مضت مثل "الرصاص المصبوب" (2008) أو انتفاضة القدس والأقصى (2000) أو حرب لبنان الثانية (2006) وهبة الكرامة (2021) يتضح أمامنا استنفار المؤسسة الإسرائيلية واستهدافها المتعمّد ضدّ الصحافيين حتى ما قبل النشر. الأمر يختلف عما كان عليه  في السابق حيث قامت الرقابة العسكرية بمحاسبة وسائل الإعلام على مضامين تم نشرها بادعاء أنها مضامين تحريضية لكن في هذه الحرب فإن المضامين لا تمر على الرقابة العسكرية وذلك بسبب منع الصحافيين من التغطية والاعتداء عليهم وتهديدهم وعدم السماح لهم أصلا بالتغطية، فرق آخر أن المؤسسة الإسرائيلية أعطت الشرعية للمدنيين اليهود بالاعتداء على الصحافيين وعسكرة التصرفات والعدائية ضدهم ولا يوجد من يحاسبهم كما حدث مع الزميلين الياس كرام مراسل قناة الجزيرة والزميلة هناء محاميد مراسلة قناة الميادين عندما تم نصب كمين لهما من قبل الإعلامي "حاييم اتجار" وذلك بهدف ابتزازهم وتهديدهم وطلب منهم ادانة حماس، وهذا يؤكد أن الصحافي الإسرائيلي يتحول إلى "جندي إسرائيلي" بدلًا من التزامهِ المهنيّ ، وفرقٌ آخر أن المؤسسة الإسرائيلية لم تعد تعمل حساب للرأي العام وبات الاعتداء مباشرة على الهواء وعلى مسمع ومرأى العالم كما حدث مع أحمد دراوشة مراسل قناة العربي على الحدود الشمالية في تاريخ 15.10.2023 عندما تم الاعتداء عليه من قبل أحد عناصر الشرطة وتهديدهِ بدعم حماس ويشوه الحقائق.

نتائج رصد وتوثيق الاعتداءات على الصحافيين والصحفيات الفلسطينيين:

منذ السابع من أكتوبر 2023 تم رصد 45 حالة اعتداء على الصحافيين والصحفيات في الميدان، 42 حالة اعتداء منهم ضد الصحافيين والصحافيات الفلسطينيين منهم يعملون في الصحافة العربية المحلية والعالم العربي ومنهم من يعملون في الصحافة الأجنبية – 3 حالات منهم تم الاعتداء على صحافيين أجانب وحالة اعتداء واحدة على صحفي إسرائيلي 

فترة الاعتداء: بين 7.10.2023 حتى 22.12.2023 

أماكن الاعتداء: الحدود الشمالية، الحدود الجنوبية غلاف غزة مثلًا سديروت، والقدس 

شكل الاعتداءات: الاعتداءات تمت بشكل جسدي ونفسي وأيضا كلامي وتهديد وتأخير من الوصول إلى الميدان وحجز الهواتف الخاصة بهم ومعدات التصوير كما حدث مع الصحافي أحمد غرابلي مراسل الوكالة الفرنسية حيث أدلى بشهادته لمركز إعلام خلال رصد الاعتداءات أنه وبعد طريق شاقة تخللها حواجز عدة إلى الحدود الشمالية للتغطية، قائلًا: "رغم استجوابنا على الحواجز إلا أنهم سمحوا لنا بالدخول للمنطقة وفجأة وعند توقفنا في محطة الوقود اقترب إلينا جندي مع السلاح وبدأ باستجوابنا من نحن وماذا نفعل هنا؟ قمنا بالإثبات أمامه أننا صحافة ووجودنا هنا بهدف التغطية ونملك الهويات وبطاقات الصحافة إلا أنه استدعى رجال الشرطة وطلبوا منا مرافقتهم لمركز الشرطة في نهاريا واحدا من رجال الشرطة صعد في سيارتي والأخر في سيارة شرطة مرافقة لنا وعند وصولنا لمركز الشرطة طلبوا مني إيقاف سيارتي خارج حيز مركز الشرطة واستدعوا قوات لتفتيش السيارة وحجز الهواتف النقالة ومعدات التصوير وانتظرنا مدة 4 ساعات بدون تواصل مع أحد وبعد انتظار أربعة ساعات سألتهم عن سبب الانتظار والحجز وكانت إجابتهم هي إجراءات روتينية وأننا دخلنا إلى منطقة عسكرية مغلقة وهذا ممنوع رغم إنني نوهت أمامهم، لم ندخل على عاتقنا وعناصر الجيش والشرطة المتواجدين على الحواجز سمحوا لنا بالدخول وقلت له غير مجبر بتحمل مسؤولية خطأ العناصر اللذين سمحوا لنا بالدخول، لكن الجواب كان بالرغم كل شيء هذا ممنوع".

ذات الأمر حصل مع تسعة صحافيين وصحافيات آخرين منهم المراسلة إيمان جبور مراسلة قناة الغد والمصور محمد عضو ومصور قناة إيطالية وليد قمر في تاريخ 14.12.2023 في منطقة غلاف غزة تم منعهم من الدخول واستدعائهم لمركز "شرطة نتيفوت" وانتظروا ساعتان وبعد الانتظار تم التنويه أمامهم بأنهم دخلوا منطقة عسكرية مع عرض خارطة بالأماكن التي ممنوع دخولها.

وجب التنويه إلى أن مركز إعلام يقوم بدوره منذ بداية الحرب بمرافقة الزملاء الصحافيين والصحفيات في الميادين المختلفة في حال تعرضوا إلى أي اعتداء واعتقال واستدعاء لمراكز الشرطة  حيث قام مركز إعلام بإصدار تعليمات خاصة للصحافيين كيفية التصرف في حال تعرضوا إلى الانتهاكات وذلك عن طريق بيان صحافي والتوجه إلى مركز إعلام بكل حالة طارئة يتعرضون لها والتواصل مع المركز وفعلا هذا ما يحدث فإن التعاون بين الصحافيين والصحافيات وبين مركز إعلام يؤثر على قرار عناصر الشرطة بالتراجع. على سبيل المثال الحالة التي تعرض لها الصحافي أنس موسى ومحرر موقع "رواق" خلال تغطية المظاهرة في أم الفحم بتاريخ 19.10.2023 حيث تم اعتقاله خلال التغطية، واستدعى ذلك فورًا مركز إعلام بالتدخل وإرسال رسالة خطية لمدير مركز الشرطة والمطالبة بإطلاق سراحه كونه يعاني من أزمة صحية تمنع التحقيق معه واعتقاله أو حتى ضربه". 

ليس قلة من الحالات الخطيرة التي يتم رصدها والأمر لا ينتهي عندما يتم إطلاق سراح الصحافيين أو عند انتهاء حالة الاعتداء إنما الملاحقة السياسية التي تطال الصحافيين من الجهات السياسية المتطرفة اليمينية كما حدث مع الصحافي مصطفى خروف مراسل وكالة الأناضول عندما تعرض للاعتداء الجسدي والضرب المبرح من قبل عناصر الجيش في تاريخ 15.12.2023 في القدس المحتلة حيث قام بن غفير بتسميته بـ "إرهابي" وملاحقته والتحريض ضدّه.

كل هذه الاعتداءات تم توثيقها بالصور والفيديوهات المحفوظة لدى مركز إعلام، منها ما تم توثيقه بشكل شخصي ومنه عبر وسائل الإعلام ومنه ما قمنا بجمعه وتوثيقه ورصده من خلال جمع الشهادات.

هنالك حالات ليس فقط تمنع الصحافيين والصحفيات من التغطية فحسب إنما تفصلهم عن عملهم وسحب رخصة الصحافة منهم واعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة كما حدث مع الصحفية ميرفت العزة مراسلة قناة "nbc" عندما تعرضت للمنع من التغطية واعتقالها وفصلها عن العمل في تاريخ 16.12.2023 في القدس إلى أن تم الإفراج عنها ضمن صفقة الافراج عن الرهائن.

وهنا نلاحظ خطورة التعامل مع قضايا الصحافيين وإصرار المحاكم الإسرائيلية غير المنصفة على التعامل معها على أنها قضايا ضمن قانون العقوبات والتحريض على الإرهاب وانتماءاتهم لتنظيمات سياسية وهذا الأمر يعتبر خطيرًا وله تداعيات واسقاطات قضائية التي يمكن أن تؤدي إلى اعتقالهم وإلحاق الضرر بهم للمدى البعيد خاصة مع انعدام منظومة تضمن حماية الصحافيين.


صورة ايضاحية من الاعتداء على مراسلة قناة الجزيرة الصحفية جيفارا البديري واعتقالها بشكل همجي من حي الشيخ جراح بالقدس في العام 2021؛ يتم استخدامها بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. (يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

ميسون زعبي

صحافية ومركزة مشاريع في مركز إعلام للبحوث والحريات ومسؤولة ملف رصد الاعتداءات على الصحافيين الفلسطينيين


شاركونا رأيكن.م