يعلن الآذار عن قدومه راكضا حيث تقبع النساء في مشهد عام قاتم، يكافحن بكل قوتهن ورغم صلابتهن المعهودة إلا أن مسحة الألم والحزن قد علت وجوههن وقلوبهن المثقوبة.. يأتي الآذار على فلسطين وقد تغول الاحتلال الإسرائيلي في كل بيت فلسطيني فترك بصمته الملعونة إما بفقد أو أسر أو قهر أو دمار أو خراب أو بطالة ومزيد من الفقر وقلة الحيلة، أما النساء فهن يركضن ما بين ليل ونهار لأجل قوت أبناءهن، وتضميد جراح عائلاتهن، أو زيارة أسير، أو اعتصام في خيمة الأسرى، أو زيارة القبور التي دفن بعضا منهن فيها...!!

يأتي الآذار وقد ابتلعت النساء أفئدتهن علهن ينقذن ما تبقى منها بعد أن زادت مرارة الحياة، وأصبحن يخيطن أوجاع بيوتهن بخيوط الشمس، ورغم أن آذار جاء باردا هذا العام فهن لازلن يحاورن الكواكب علها تنتظر ازدهار الأرض ذات ربيع مستقبلي فيعشن حياة كما البشر دون قيود وحدود واغلاق ومعابر ومعتقلات وسجون كبيرة تسجن فيها مدن فلسطينية بأكملها وتنقلب الحياة فيها رأسا على عقب في لحظة واحدة...!

حيوات معلقة بفعل الآخر

عقود من الاحتلال الإسرائيلي والعنف المرتبط بالنوع الاجتماعي والعنف السياسي الذي قلص ولازال مساحة الحريات الخاصة بالنساء، إضافة للأعراف الثقافية التقليدية في مجتمعنا الفلسطيني، نعم الآذار يذكرنا بأن النساء الفلسطينيات لازلن يقبعن تحت احتلال بغيض ينغص حياتهن ويهدر سنوات عمرهن في عناء وقهر، ويزيد من دائرة العنف التي أصبحت كدوامة لا تتوقف عن الدوران فتتساقط آمالهن وتتعاظم آلامهن في عام جديد كاد أن يحمل أملا بالتغيير والتحرر ...!

إن هذه الظروف والأوضاع بالغة الصعوبة معقدة ومركبة وتنعكس على حياة النساء في الحيز الخاص والحيز العام، فما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي باستمراره بسياسة القتل والتدمير والتهجير القصري والعدوانات على غزة واستهداف المنازل الآمنة وأماكن العمل والتعليم إنما تدفع ثمنها النساء على وجه الخصوص، وتزيد من حالة تدهور أوضاعهن الإنسانية، فهناك مئات القلوب المقهورة والمثقوبة التي يحرمها الاحتلال الإسرائيلي من الحصول على تصريح للسماح بالسفر، ما يعني الموت البطيء لهؤلاء النساء فكم من طلب لمريضة سرطان حرمت ولازالت من حقها في العلاج..!! إن معاناة النساء تكون مضاعفة في الحيز المجتمعي والأسري إذ يصبح لديها عبء آخر في القبول بالحد الأدنى للحياة ويزيد من دائرة العنف القائم على النوع الاجتماعي

وما معنى أن تصل معدلات البطالة للنساء في قطاع غزة (65%)، بقلوب مثقوبة يعشن ظروف تنعدم فيها أبسط شروط الحق في العمل والتعليم والحياة، ونساء بقلوب مثقوبة في الآذار دون أبسط شكل من أشكال الحماية، ونساء بقلوب مثقوبة يدفعن ثمن مظاهر انتهاك سيادة القانون فيقتلن ويصبن ويتعرضن للإيذاء النفسي والاجتماعي والجسدي فقط كونهن نساء، تلك الحلقة التي يعتبرها المجتمع الأكثر ضعفا وهشاشة...!

العنف المبني على النوع الاجتماعي يتفاقم

إن الخطاب الاجتماعي لازال ينظر للمرأة بدونية، ويعيد إنتاج ثقافة العنف وخطاب الكراهية ضد النساء، فلازالت النساء الفلسطينيات يعانين من العنف النفسي والجسدي والجنسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وصولا لجرائم القتل وإهدار حياة النساء دون أي رادع اجتماعي أو قانوني أو جملة إصلاحات قانونية شمولية تتضمن تقديم الخدمات الشمولية للنساء واسنادهن، فلا وجود لإرادة سياسية حقيقية أو فعل حقيقي لصناع القرار لسن القوانين والتشريعات لحماية النساء والفتيات، كقوانين" حماية الأسرة من العنف، والأحوال الشخصية وقانون العقوبات، والتي ظل أغلبها أكثر من 15 عاما على طاولة النقاش وترحل من عام لعام، حتى يأتي الآذار لنعيد التذكير بضرورة إقرار هذه القوانين، وضرورة مرافقتها بإجراءات وسياسات تحمي النساء ولا تسمح بالإفلات من العقاب لمنتهكي هذه الحيوات، إلا أن صانع القرار الفلسطيني لا يعبأ بأولويات النساء واحتياجاتهن...!

العنف الرقمي وسيف القبيلة

ولا يمكننا هذا العام أن نغض الطرف عن عنف جديد مركب وأكثر تعقيدا إذ تكمن خطورة العُنف الرقمي المبني على النوع الاجتماعي أنه لازال يتجسد بالعديد من المظاهر لا يمكن ضبطه أو مراقبته أو الحد منه فكل شخص يملك القدرة على استخدامه والتخفي في هذا العالم الرقمي، وبالتالي فثقافة الإبلاغ ليست بالشكل الأمثل والعبء الأكبر يكون على الشابات والنساء إذ أنهن يدخلن في دائرة جديدة من المسؤوليات والمخاوف تبعا لثقافة المجتمع المحافظ وفكرة السمعة والعلاقات في المحيط ما يجعلهن أكثر تحفظا و خوفا على الإبلاغ عما قد يتعرضن له من انتهاكات رقمية، كذلك فإن العديد من التجارب التي عشنها وأقرانهن قد تجعلهن لا يثقن أبدا بالجهات المسؤولة عن التحقيق الأمر الذي يعزز الإفلات من العقاب لمن يقوم بهذه الانتهاكات، ما يعني أن المعاناة تبقى بصمت وسكون وهي ذات السمة التي يوصم بها العنف منذ النشأة الأولى.

وفي دراسة حديثة حول العنف الجندري في الفضاء الرقمي قالت نحو 65% من المستطلعات أنهن لا يستخدمن صورهن الشخصية كصورة تعريفية (بروفايل) فإن كانت هذه النسبة من النساء لا يستطعن نشر صورتهن الحقيقية فإن هنالك عالم من التعقيدات والممنوعات والآخرين الذين يقررون لهن قرارات حياتهن طيلة الوقت...! ونحو نصف المستطلعات يشعرن بأنهن مراقبات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يشعرن بأنهن مراقبات؟! والفاحص لثقافة محيطهن الأسري والمجتمعي يجيب على هذا السؤال ببساطة.!

لقد تعرضت 16% من المستطلعات بشكل شخصي لنوع من أنواع التحرش عبر الإنترنت، ما يعني أن مفهوم العنف يتخذ أشكالا وصورا جديدة فهنالك العنف الالكتروني، والتحرش الالكتروني والابتزاز الالكتروني، والتنمر الالكتروني ما يعني أن كافة اشكال العنف التي على فحصناها على في واقعنا الحقيقي سيكون لها ما يقابلها في الفضاء الرقمي أي أن هنالك حاجة ملحة لتشخيص ومعالجة مختلفة وتحتاج للكثير من الجهود للتوعية والتحصين منها.

إن الناظر لحال النساء الفلسطينيات في هذا الآذار..! يقاومن الاحتلال وممارساته البغيضة، يذرفن دمعا لكنهن يواصلن شق طريق النضال لأجل عائلاتهن وأسرهن ومجتمعهن، يقاومن الوضع الداخلي والعنف المركب (واقعيا أو رقميا) الذي يضيق حياتهن في كل المسارات، يمضين لأجل الأجيال القادمة رغم سوداوية المشهد وقتامة آذار هذا العام لا تعني توقفهن.! لكنها أنفاس من لديهن قلوب مثقوبة لا يفكرن كثيرا من ثقبها بل كيف يغزلن خيطا من عين الشمس كي يضمدن جراحهن ويكملن مسيرتهن.. هكذا هن النساء على مدار الحياة...!

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م