التَجويع المَنهجي لِمِليونَيّ نازح: وَقائع "اغتيال" الاستجابة الإنسانية السَليمة في غزة
يَبدو المَشهد في قطاع غزة متباينًا، يختلف في منطقة شمالِه عنه في جنوبه، إلا أن المُشترَك بينهما أمر واحد، هو استمرار إغلاق معبر رفح، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية، الأمر الذي فاقم المعاناة، وأدى إلى ارتفاع جنونيّ في أسعار كلّ ما هو صالح للأكل، وحرمان أغلب الغزيّين -ومعظمه نازحون- من الوصول إلى المساعدات، أو توفير أموال كافية لشراء الغذاء لعائلات كبيرة في مُعظمها كما هو معروف. كما استهداف جيش الاحتلال العاملين (والمتطوعين) في حماية شاحنات المساعدات الإنسانية،[1] فقد قَتل أكثر من 200 من عمال الإغاثة الدولية منذ بداية حرب الإبادة الجماعيّة على قطاع غزة.[2] أمّا إسقاط طائرات لدول عدّة المساعدات من الطائرات فهو لا يضمن أبدًا حصول المستحقين عليها أو وصولهم لها على نحو عادل، بل إنه يمثّل خطرًا جسيمًا على سلامتهم، إذ أدت المساعدات المُلقاة من الطائرات إلى قتل العديد من المواطنين نظرًا لسقوطها على أجسادهم أو خيامهم، ما يعني عدم نجاعة هذا الشكل من أشكال المساعدات، التي تبدو ذرًا للرماد في عيون العالم، وتُشكّل ردّ فعل غير متناسب مع استمرار الحصار وإغلاق المعابر وحرمان السكان من الوصول إلى المساعدات الإنسانية أو الحصول عليها.
إن افتقار واقع غزة لأدنى مقومات الاستجابة الإنسانية، يكشف تجاهُلَ كَون قوات الاحتلال مسؤولة عن ضمان بيئة عمل مواتية للاستجابة الإنسانية وغياب خطوط حمراء واضحة تضبط ممارساتها. لقد واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي قتل العاملين في مجال الإغاثة أو استهدافهم أو إعاقة عملهم أو قتل المواطنين والنازحين الجياع في أماكن وصول شاحنات المساعدات، إلى جانب تعمّد إعاقة إدخال المساعدات كما حَدث على معبر رفح المصرية، ما أدى إلى تَلف كميات هائلة من المساعدات أو فَسادها، وبالتالي حرمان السكان من الحصول عليها كتعبير عن نهج تجويع بات أكثر وضوحًا مما سبق في بدايات الحرب.
إن تعمد سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحويلَ مَسار المساعدات أو تدخّلها فيه، وإعاقتها إياه، إنما هو نتيجة غياب فُرص ملاحقةٍ حقيقية للاحتلال على أفعاله التي لم يحاسَب عليها حتى الآن، واستمراره في إعاقة إدخال المساعدات الإنسانية هو إمعان في مزيد من القتل واللامبالاة بالمجتمع الدولي ومعايير الاستجابة الإنسانية العادلة التي يتوجب ملاحقته عليها.
مساعدات تُسْقط من السماء!
شهد قطاع غزة على مدار العام المنصرم -ولا يزال- العديد من محاولاتٍ قادتها دول عدّة لإسقاط المساعدات الإنسانية من الطائرات بعد الحصول على الإذن الإسرائيلي بذلك، ولم تُثبت هذه الطرق نجاعَتها، بل تسببت بمقتل العديد من المواطنين الأبرياء بعد سقوطها بشكل مباشر عليهم، أو أنها تسبّبت بتدمير خيامهم، ومنها تلك الخيمة التي أعدّت لتعليم الأطفال في خان يونس. إن إنزال المساعدات بهذه الطريقة إنما يحُط من كرامة المستفيدين والمحتاجين، إذ يتجمع مئات منهم ويتزاحمون ويتراكضون أملًا في الحصول على أحد هذه الصناديق، كما يتسبب بالفوضى وإثارة الشِجارات بين الأفراد المحتاجين للحصول عليها، ويقضي على فُرص وصول النساء والفتيات والفئات الهشة إليها، حيث التدافع الشديد على الأرض أو سباحةً في البحر، وهذا يزيد من غياب معيار العدالة في الوصول للمساعدات الإنسانية. إن مبدأ القوة هو المعيار الذي بفعله يحصل البعض على هذه الصناديق الملقاة من السماء، ربما مرات عدّة، على حساب الفئات الأكثر ضعفًا وهشاشة، وبالتالي فهذه الإسقاطات إنما هي مجرد ذر رماد في عيون شعوب الدول المُرسِلة، بما يتيح الادعاء بأنها تقدّم المساعدات للنازحين والمحتاجين في غزة، بينما نراها إمعانًا في إذلال المواطنين، وتعمدًا لاستمرار حرمانهم من الحصول على مساعدات مُستحَقّة بكرامة ومساواة وعدالة.
بيع المساعدات الإنسانية، واستهداف الاحتلال طواقم العمل الإنساني يعنيان مزيدًا من الفوضى والعقبات أمام تحسين الاستجابة لمتطلبات العدالة والنزاهة في توزيع المساعدات الإنسانية:
قُتل مئات العاملين من طواقم العمل الإنساني منذ بداية الحرب على قطاع غزة نتيجة استهدافهم بوقائع قصديّة، بل صَدرت تقارير عدّة تؤكد قصديّة هذا الاستهداف، بل وتقصُّد خلق حالة من الفوضى. فكلما تشكّلت قوى شعبية أو تطوّعية لتنظيم قوافل المساعدات الإنسانية وحمايتها، فإنه يتم استهدافها، رغم أن إحداثيات القوافل وحركة مرورها معلنة، وتم أخذ إذن مسبق لها من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أدى بطبيعة الأمر إلى حالة من الفوضى، ونشوء عصابات تسرق هذه المساعدات، وبالتالي إنزالها إلى الأسواق بأسعار خيالية تُربم النازحين لعدم قدرتهم الشرائية على سدّ حاجتهم وحرمانهم من مساعدات جاءت باسمهم؛ فَهُم بدل أن يتلقوها مجانًا وبعدالة وكرامة نجدهم يناضلون من أجل الحصول عليها، ويُحرمون من ذلك بفعل افتقارهم للسيولة المالية وتدني قدرتهم الشرائية، ما يفاقم الحالة الإنسانية وسياسة التجويع التي تنالهم.
ورغم تَعدّد التقارير التي تشير إلى ذلك فإن واقع بيع المساعدات الإنسانية للنازحين والمستهدفين منها لا تزال تتفاقم، ويزداد الأمر سوءًا، ما يجعل العديد من المواطنين والنازحين يتوجهون للحصول على طعام لعائلاتهم من التكايا الخيرية المنتشرة في مناطق عدّة في قطاع غزة، وهي تكايا تابعة إما لمؤسسات أهلية أو مبادرات عائلية أو فردية، ونتيجة كثرة الطلب وقلة الإمكانيات، تعتبر هذه التكايا الشريان الوحيد المتبقي للأهالي للحصول على قوت يومهم.
فقد نشأت التكايا الخيرية[3] بعد استمرار نهج التجويع وانعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة نتيجة حرب الإبادة المستمرة. ويكشف تقرير حديث لـ "أمان" عن ضعف الرقابة على عمل التكايا، وغياب آلية شكوى واضحة ومعروفة للجمهور بشأنها، كما لا يوجد أي تنسيق أو تشبيك في ما بينها لمنع ازدواجية التوزيع مُطلقاً، إذ تعتمد كلّ تكية على العمل بشكل منفرد، بالإضافة إلى أنه يوجد تدنٍ معرفي لقيم النزاهة لدى العاملين في التكايا، تقابله أهمية لتعزيز قيم الإيثار والإخاء للمستفيدين والنازحين.
يفرض الواقع الجديد في غزة إشكاليات وعقبات لم تكن معروفة من قَبل، وكذلك محاولات تذليل هذه العقبات والتخفيف منها، تبقى اجتهادات مرنة وقابلة للتغيير وبحاجة لمزيد من التحليل وصولًا لأهداف تحقيق استجابة إنسانية عاجلة وطارئة تلبي احتياجات النازحين والمستهدفين بعدالة وكرامة وحماية.
السؤال الأخطر في الوضع الحالي القائم في غزة: هل المساعدات الإنسانية الآن هي طارئة أم دائمة؟
يجب أن يتضمن تحليل الواقع الجديد للاستجابة الإنسانية في قطاع غزة العديد من الإجابات حوله، وبيانات محدّثة تحصر العائلات المنكوبة والنازحين، وهذا يعني بالمجمل مزيدًا من التدهور والتردي مع استمرار حرب الإبادة الجماعية وإصرار الاحتلال الإسرائيلي على تهجير أهل الشمال، واستعانته بشركات إسرائيلية خاصة لهدم ما تبقى من بيوت في محور فيلادلفيا في رفح. ينبغي التفكير في الاستجابة الإنسانية حاليًا كواقع غير طارئ، وليس مجرد حرب إبادة ستمضي، بل هو تغيير للواقع الجغرافي والهرمي للسكان، ما يعني أن الاستجابة الإنسانية التي يجب أن يتم التخطيط لها والاستجابة لها إنما هي لأمد بعيد، وهذا يتطلب تغييرًا جوهريًا في آليات تقديم المساعدات والتخطيط لها وكيفية الوصول لها، ورغم أنه حتى كتابة هذه الورقة، فإن الحرب لا تزال قائمة، ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي يمنع إدخال المساعدات، ويغلق المعابر ويحاصر السكان، ويحرم أكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة من الحصول على أو الوصول للمساعدات، ما يزيد العقبات والصعوبات التي تواجه المؤسسات العاملة في المجال الإغاثي، ويزيد من حالة الارتباك في التخطيط لآليات واضحة وتقليدية واضحة لتسهيل حصول المستحقين على المساعدات ووصولهم لها.
[1] ورقة بحثية لائتلاف "أمان" بالتعاون مع "مركز بيسان للبحوث" بعنوان: "كمائن الطحين في غزة: الفوضى والتجويع سلاح يستخدمه الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة"، 2024.
[2] تصريحات وتقارير للأمم المتحدة.
[3] ورقة بحثية لائتلاف "أمان" بعنوان: "بيئة النزاهة والشفافية في عمل (التكايا الخيرية) في قطاع غزة"، 2024.
تصوير: عبد الرحمن زقوت.