توقّف! أمامُك ابتكارات تَقهَر القَهْر

الحروب من أقسى التجارب التي يواجهها الأفراد والمجتمعات، خاصة الفئات المَظلومة، أو الفقيرة أو المهمّشة منها. تلك تجد نفْسها ونَفَسَها سجناء تحت سلطة الظالم - وَحش الحرب.  يُكرّس الإنسان في ظل تلك الأوضاع القاسية، كما نشهد في غزة منذ أكثر من عام، كلّ ما تبقى بحوزته من طاقة وعقل للتكيّف والابتكار، متحديًا أصعب الظروف وملبيًا احتياجاته الأساسية، وناجيًا من أسود الحرب عند المستطاع. شهدت الحروب -عَبْر التاريخ- أمثلة عديدة على التكيّف والابتكار باستخدام موارد بسيطة، خاصةً من خلال إعادة تدوير الأغراض. نأتي لَكُم بأمثلة مختلفة، نكرّس مُعظمها لقصص إبداع وأمل من غزة.

الإحتياجات الأساسية 

تتطلب الأزمات والحروب من الإنسان ابتكارات ذكيّة لتلبية احتياجاته الأساسية، مثل تأمين الغذاء والماء الصالح للشرب والسكن الدافئ، وتأمين تقنيّات زراعية تُساند في استدامة توفير بعض الموارد الغذائية. مثلًا خلال الحرب العالمية الثانية، أعاد الناس استخدام الملابس القديمة والأكياس القماشيّة لصنع ملابس جديدة، وحوّلوا عُلب الصفيح إلى أدوات طهي وتخزين. أثناء حصار سراييفو، استغل السكان براميل النفط المهمَلة وحوّلوها إلى مواقد بدائية للطهي والتدفئة، واستخدموا قِطع السيارات التالفة لصنع أدوات زراعية. بينما اعتمد سكان حصار لينينغراد على الورق المقوى كوقود بديل للتدفئة.

في ظل الحرب السورية، وما شهدته من تدمير للبنية التحتية أدى إلى انقطاع المياه عن 15 مليون شخص على الأقل بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية؛ ظَهَرت حلول مبتكرة لتوفير مياه الشرب في مخيمات اللاجئين والمناطق المحاصرة. أبرز هذه الحلول محطاتٌ متنقلة لتنقية المياه الملوَّثة تستخدم الطاقة الشمسية عِوضًا عن الكهرباء. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، تم تركيب أكثر من 150 محطة متنقلة لتنقية المياه بالطاقة الشمسية منذ عام 2015، مما ساعد على توفير مياه صالحة للشرب لمئات الآلاف. كما ساهمت تقنيات حَصاد مياه الأمطار، مِثل تَجميع المياه على أسطُح الخيام وتخزينها في خزّانات مُحكمة، في توفير مصدر مستدام للمياه خلال الأزمات. ساعدت هذه الابتكارات على تحسين ظروف المعيشة، وخفضّت الاعتماد على شاحنات الإمدادات في ظروف الحصار.

في غزة، ومع نُدرة غاز الطهي خلال الحرب والحصار، ابتكر الناس حلولًا بديلة، فاستخدموا زيت القَلي والبلاستيك كوقود، واستعانوا بمُجفِّفات الشعر لزيادة شدّة النار وضمان استمراريتها.  كما صمّم حِرفيّون مواقد تعمل ببقايا نِشارة الخشب (خاصة شجر الزيتون نظرًا لقوّته وصموده) مخلوطة بقليل من الطين، في حين ساهمت هَندسة مبنى الموقدة في توفير تيار هوائي يُشعل النِشارة، مما يجعلها تعمل أكثر من 24 ساعة. أما الخبازون، فقد ابتكروا فرنًا من تَنَك الزيت المعدني الفارغ بعد قصف مخابزهم. وفي لفتة مؤثرة للإبداع الفردي، أظهر مَقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي فتىً صنَعَ خلّاطَ طعام يَدَوي لوالدته باستخدام قطع خشبية، ومُحرّك بسيط، وبعض الشفرات، ليتمكّن من إعداد طبَق الحمص رغم الظروف الصعبة.

على الصّعيد الزراعي تم تحويل الإطارات المطاطية إلى أحواض زراعية، في خطوة مبتكرة لإعادة تدوير الموارد المُتاحة.  كما تمكّنت إحدى النساء الغزيّات من تطوير مبيدات حَشَرية حيوية بديلة عن الكيميائية، مما يساهم في مكافحة آفات المحاصيل الزراعية بطرق آمنة صحيًا. ودفعت أزمة المياه الكارثية في غزة (90% من المياه غير صالحة للشرب بحسب تقارير اليونيسف) إلى البحث عن حلول بديلة. مثلًا ابتكرت إحدى مهندسات غزة نظامًا لتحلية مياه البحر يعتمد على مُقطّر شمسي مصنوع من الخشب ومغطى بالزجاج والجِلد، تسخّن من خلاله المياه بالطاقة الشمسية، ثم تتبخر لتتكثف لاحقًا على شكل مياه نقية صالحة للشرب.

 بحسب تقارير الأمم المتحدة، يصل انقطاع التيار الكهربائي في غزة أحيانًا إلى 20 ساعة يوميًا. لمواجهة هذه الأزمة، لجأ الخياطون إلى استخدام الدرّاجات الهوائية لتوليد الكهرباء وتشغيل ماكينات الخياطة، بينما تمكن فتى من توفير الكهرباء لخيمته عبر استخدام مَروَحَتين.

الإغاثة، الوقاية والعلاج

لا يقتصر شرّ الحرب على قتلى وجرحى وصدمات نفسية فقط، بل يعبّر عن نفسه على شكل إهمال وتهميش شرسَين للأمراض المزمنة والآنيّة، والمشكلات الجسدية مثل أمراض القلب والسرطان، والأمراض العقلية وتداعيات الشيخوخة وغيرها. كما -وبطبيعة الحال- يُنسف كلّ ما هو حقّ وقاية من أصغر الأمور حتى أكبرها. 

لهذا، شهدت الحروب تطورًا كبيرًا في الابتكارات الطبية التي ساهمت في الإنقاذ والعلاج والوقاية. خلال الحربين العالميتين، تم تطوير تقنيّات نقل الدم، وتوسيع إنتاج البنسلين، وابتكار وحدات متنقلة للأشعة السينية. في حرب فيتنام، برزت طائرات الإجلاء الطبي ووحدات العناية المركزة. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت ضمادات متطورة وطرق تصنيف الإصابات (الترياج) لضمان تقديم الرعاية حسب الأولوية. في الحرب العالمية الأولى استخدمت الممرضات السيليوكوتون (CelluCotton) الذي ابتكرته شركة «كمبرلي-كلارك» الأمريكية لتضميد جراح المصابين، لامتصاص دماء الحيض، والتي تعتبر أساسًا لتطوير منتجات اليوم. 

أما في غزة فقد حوّل شابٌ عكازًا مكسورًا إلى قدم صناعيّة ليعوض بها قدمه التي فقدها نتيجة غارة إسرائيلية. كما طوَّرت مهندستان جهازًا بسيطًا يوضع على معصم اليد كالساعة، يقيس ضغط الدم، ونبضات القلب، ودرجة حرارة الجسم عبر تطبيق حاسوبي صغير. يتميز الجهاز بخاصيّة التحكم عن بعد وإرسال إشعارات فورية عند حدوث تغيّرات مقلقة، مما يتيح للأطباء متابعة حالة المرضى عن بُعد بفعالية.

كما استخدم مهندس ابن مدينة غزة تقنية الطباعة ثلاثيّة الأبعاد لصناعة معدات طبية باهظة الثمن أو غير متوفرة، مثل طباعةالسماعات الطبية الحيويّة المستخدمة في التشخيص الأولي. حسب تقارير منظمات مَحليّة في غزة، تم إنتاج أكثر من 500 جهاز طبي باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد منذ عام 2020، لتلبية النقص في المعدات المستوردة. 

مجالات أخرى

برز الابتكار كوسيلة حيوية للتغلب أيضًا على نقص الموارد، خاصة في مجالات الطاقة والاتصالات، لدعم التعليم والعمل عن بُعد والحفاظ على الكرامة الإنسانية. كما أصبحت أنظمة الإغاثة السريعة والاستجابة للكوارث جزءًا أساسيًا من أشكال التكيّف مع الأوضاع الصعبة وتقنيات ضمان البقاء.

في غزة، طوّر مهندسون سيارات صغيرة تعمل بالطاقة الشمسية. وفي ظل منع إسرائيل توريد الإسمنت لغزة، لجأ مهندسون محليّون إلى تطوير إسمنت التشطيبات الداخلية (الإسمنت الهدروليكي) كبديل. كما نجح مهندسان من مدينة غزة في صناعة حجر بلاستيكي صديق للبيئة، يُستخدم في بناء أسقف إسمنت بدلًا من حجر "الريبس" التقليدي. يتميز الحجر البلاستيكي بمتانته العالية، كما يساهم في معالجة نقص مواد البناء وتقليل النفايات البلاستيكية المتراكمة. وفي خطوة مبتكرة أخرى، طور المهندسون مادة بديلة للإسمنت والرمل في الخلطات الخرسانية، مستخلَصة من بقايا الطعام والنفايات العضوية مما يبرز قدرتهم على تحويل المخلفات إلى موارد قيمة في مواجهة التحديات. وفقًا لمؤسسة (GENE) (شبكة التعليم والابتكار في غزة) تم تحويل 60 طنًا من النفايات العضوية شهريًا إلى سماد ومكونات بديلة للبناء. 

رغم قسوة الظروف، شهدت الأزمات أيضًا ابتكارات تخدم المستقبل. في غزة، طوّر طالب آلية مبتكرة لإطعامالحيوانات عن بُعد، بهدف تقليل المخاطر التي تواجه المزارعين خلال فترات التصعيد العسكري. يقوم الابتكار على تصميم علّافة إلكترونية يمكن التحكم بها عن بُعد دون الحاجة لتواجد المزارع في الموقع. تعتمد التقنية على تزويد خزانات الطعام بمجسّ إلكتروني لقياس المسافة، بحيث يستشعر المجسّ نقص مستوى الطعام عن الحدّ الأدنى، ومن ثم تعبئته تلقائيًا من الخزانات. 

الأمل

رغم قسوة الحروب، أثبت التاريخ أن الإنسان قادر على التكيّف والابتكار حتى في أحلك الظروف. شبكات الدعم الاجتماعي، والابتكار في الموارد، والأنشطة الثقافية، والتعليم تُعدّ أدوات حاسمة للحفاظ على الكرامة والأمل في أوقات الحرب. إن هذه الاستراتيجيات، كما رأينا في الأمثلة السابقة، ليست مجرّد أساليب بقاء، بل تُعبّر عن روح الإنسانية وصمودها أمام المحن. كما نشير إلى أن العديد من هذه الابتكارات، التي نشأت تحت وطأة الأزمات، أصبحت اليوم حجر أساس للعديد من الممارسات الطبية الحديثة أو الإعتيادية. 

كانت هذه حفنة أمل وبصيص ضوء نحتاجه في عتمة الظلام التي تفاقمت مؤخرًا؛ ابتكارات حوّلت التحديات إلى فرص نجاة، أمل وإصرار تَقهر القَهر. نعم ربما خسر الفلسطيني شيئًا من الأرض والوطن، لكن صموده يُدرّس ضمن تاريخ صمود الإنسانية في وجه الكوارث المُدبَّرة.


 كتب المقال كلًا من دكتورة حنان خميس وهي مهندسة مختصة في مجال الهندسة الطبية، مديرة منتج في شركة Siemens Healthineers  الألمانية، ومؤسسة شريكة لجمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة AWSc. ودكتورة رلى مسعود وهي مديرة شؤون طبية في شركة Lumenis Be للأجهزة الطبية ومؤسسة شريكة لجمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة AWSC.  

المصادر: الجزيرة نت، (Britannica)، جامعة بيرزيت، موقع المتحف الوطني للحرب العالمية الثانية، مؤسسة (GENE)، منظمة الصحة العالمية، موقع الخليج أونلاين، موقع إنسان أونلاين، موقع "القدس العربي"، موقع أخبار معا، وصفحات التواصل الاجتماعي.

الصورة: للزميل المصوّر محمود أبو حمدة.

د. حنان خميس

مهندسة مختصة في مجال الهندسة الطبية، مديرة منتج في شركة Siemens Healthineers  الألمانية، ومؤسسة شريكة لجمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة AWSc.

فرحه اللحام
بحث غايه في الاهميه ومعلومات قييمه عن التحدي والصعوبات والصمود يعطيكم/ن الف عافيه نحن بحاجه للكثير من الابخاث وبا ليتها تكون مرفقه بصور ورسومات. سلمت اياديكم
الثلاثاء 3 كانون الأول 2024
رأيك يهمنا