حَصاد الحَركة الأسيرَة الفلسطينيّة.. هَل يَذهبُ أَدراجَ الرّياح؟
في السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني الجاري، صادفَت الذكرى الخامسة لرحيل الأسير سامي أبو دياك في السجون الاسرائيلية. ولد سامي قبل ثلاثة وأربعين عامًا في قرية "سيلة الظهر"، فَفَتح عينيه ووجد فلسطينَهُ سليبة. لم يعرف طَعم اكتمال الفرح. نشأ في قرية تجيد، كسائر أخواتها، لغة الغبار؛ ومشى مثل أترابه على إيقاعات ماضٍ ينزف، كظلّ لشبح رماديّ كسيح. كان سامر ابنًا لجيل تربى على إيقاعات الفوضى وعلى قيم ومعانٍ شوّهها الاحتلال، وعلى حالة كلّ ما فيها سائل ومُخاتل؛ فلا معنى للحبّ ولا لصفائه إلّا إذا واجه نقيضه الدامي، ولا قيمة للحياة إلّا إذا تحقّقت على عتبات الموت.. موتُك أو موتُ نقيضك. كان في الثانية والعشرين من عمره عندما اختار دفع حصّته في الذود عن شرف الوطن؛ فقتل ثلاثة من "عرب وباعوا روحهم.. وضاعوا"، كما جاء في لائحة اتهامه؛ وحكمت عليه، في أعقاب ذلك، محكمة الاحتلال العسكرية بالسجن ثلاثةَ مؤبدات. كبُر في السجن، كما تَكبُر الأيائل في الأسر، عالمهم مدىً من مجازات موجعة وأيّامهم مجرّد انكسارات لأضواء خافتة وملتبسة، تبعثها بقايا أرواحهم الحزينة. كان سامي يتغطى بنتف من فجر ضحوك، ويتنفس تحتها كما يفعل دود القز، فيفيق كلّ يوم محلّقًا على همس ضوء كسول بعيد. لم يواجه سامي الأسير عبء السؤال وحيرة الشكّ، ولم تَشغله هواجس العدل الآدمي ولا غَضَب السماء؛ فالتفكير الرويّ، وأنت تقاوم في حلق اليأس، ترفٌ لا تمارسه إلّا الفلاسفة والشياطين، لا سيّما إذا كنت مثله تنام في الليل على أهداب ثورة " تلوك" النعاس والخَبَل. مرض سامر في سنة 2015 بسرطان الأمعاء؛ فوجد روحه تقاتل على جبهتين: قضاء القدر وقضاء محاكم الاحتلال. قاوم وخسر الحرب على الجبهتين، ورحل تاركًا للصدى صرخته الأخيرة؛ قال فيها: "إلى كلّ صاحب ضمير حيّ، أنا أعيش أيامي الأخيرة، أريد أن أكون إلى جانب والدتي وأحبائي وبين أهلي. أريد أن أفارق الحياة وأنا في أحضانها وليس مكبّل اليدين والقدمين أمام سجّان يعشق الموت ويتغذى ويتلذذ على آلامنا ومعاناتنا". مات في الأسر بعد أن رفضت المؤسسة الإسرائيلية تحقيق أمنيته الأخيرة ولا حتى بعد مماته، حين قرّر أصحاب القرار عدم الإفراج عن جثمانه، فأخذوه رهينةً أسوة بجثامين عشرات الأسرى رحلوا قبله في السجون الإسرائيلية.
اخترت الكتابة عن قضية سامر أبو دياك لتزامن صدور النشرة مع ذكرى رحيله المُفجع؛ ولئن خصصت النشرة عددها الحالي لحصاد عام 2024، فلقد وجدتُ أن فصل "حصاد" هذا العام في حياة الحركة الأسيرة الفلسطينية عن تاريخها، لن يكون مُنصفًا، وسيعكس صورة مجتزأة وغير دقيقة. فإسرائيل لم تبدأ حربها الوحشيّة ضد الفلسطينيين في السابع من أكتوبر العام المنصرم؛ لكنّها وظّفت أحداث ذلك اليوم للانتقال إلى مرحلة جديدة على طريق تنفيذ مخططات التيارات اليمينية المهيمنة على حكومة نتنياهو وعزمها على تشديد سيطرتها على الأراضي المحتلة، وحسم مستقبل المواطنين الفلسطينيين خارج معادلات وقرارات ما يسمى "بالشرعية الدولية"؛ وهذا لن يتم إلا إذا نجحوا في القضاء على "روح" الحركة الأسيرة.
لقد شهدنا في العام المنصرم تصعيدًا لافتًا في حملات اعتقال الفلسطينيين، رافقتها مشاهد اعتداءات وحشيّة خلال عمليات الاعتقال وبعدها. وتخطى اليوم عدد الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال العشرة آلاف حتى بداية شهر تشرين الثاني الجاري. من بين هؤلاء يبلغ عدد الأسرى الإداريين 3400 أسير من بينهم 100 طفل و32 أسيرة، يحتجزهم جيش الاحتلال بشكل تعسّفي، فلا يُحقق معهم ولا تُوجه لهم أية شبهات عينيّة ولا لوائح اتهام، تمكِّنهم من مواجهتها في المحاكم ونفيها. أمّا عدد المعتقلين من قطاع غزة فقد ناهز 1627 أسيرًا، تم تصنيفهم وفق قانون إسرائيلي خاص تحت مسمّى "المقاتلين غير الشرعيين"، يُحتجزون على الأغلب في معسكرات خاضعة لسلطة جيش الاحتلال، اشتهر من بينها معسكر "سدي تيمان" المعروف بعدد الجرائم والاعتداءات التي ارتُكبت بحقّ من احتجزوا فيه وبقوا على قيد الحياة. ويبلغ عدد الأسرى الأطفال 270 طفلًا (أي من هم دون سن الثامنة عشرة) بينما يبلغ عدد الأسيرات المعلومة هوياتهن 96 أسيرة. تعيش الأسيرات في ظروف مأساوية تتنافى وشروط الكرامة الإنسانية الأساسية وعيش بني البشر.
لقد استشهد خلال العام المنصرم داخل سجون الاحتلال ومعسكراته ما لا يقل عن أربعين أسيرًا ممن كُشفت هوياتهم وأعلنت أسماؤهم؛ وتبقى أعداد مَن استشهدوا خلال عملية اعتقالهم أو تحت التعذيب، سواء وهم في الطريق إلى معسكر الاعتقال أو في داخله، غير معروفة.
راجعت، قبل كتابتي هذه المقالة، كتاب المحامية الراحلة فيليتسيا لانغر "بأم عيني"، الصادر في عام 1975 عن منشورات "صلاح الدين - القدس"، فقرأت كيف مارس الاحتلال الاسرائيلي سياسة قمع الأسرى الفلسطينيين، منذ يومه الأول. توّلت المحامية الشيوعية اليهودية فيليتسيا لانغر مهمّة الدفاع عن مقاومي الاحتلال الإسرائيلي من الفلسطينيين والعرب الجولانيين منذ عام 1968؛ ووثّقت في كتابها المذكور حصاد عملها خلال سبعة أعوام؛ ونقلت إلى العالم تفاصيل مئات حالات التعذيب التي مورست بحقّ الأسيرات والأسرى الفلسطينيين وقصص صمودهم البطولي، وكذلك دور محاكم الاحتلال، العسكرية والمدنية، في ترسيخ الاحتلال، ومحاولاتها إضفاء "الشرعية" على مجمل ممارساته القمعية وخروقاته للمواثيق الدولية والإنسانية بشكل عام.
لقد عدّت إلى كتاب "بأم عيني" لا لكونه الوثيقة الأولى التي خرجت إلى العالم لتثبت أن الاحتلال الإسرائيلي لن يختلف بوحشيته عن باقي الاحتلالات التي عرفتها الشعوب عبر التاريخ، ولا لأنه أرسى سابقةً سارت على نهجها قوافل المحامين الذين اختاروا الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين وفضح ممارسات الاحتلال بحقّهم، وحسب؛ عدت إليه لأنني وجدت فيه أن "الحَصاد" بمعالمه الأساسية، في ما يخص تاريخ الأسرى الفلسطينيين تحت الاحتلال، هو "الحصاد" نفسه ويقوم على المعادلة نفسها: فحيث هناك احتلال هنالك قمع ودماء وموت، وقبالتهم يعيش شعب يرفض القمع ولا يبخس بدمائه ويرفض الموت بذُلّ وخنوع.
لا يمكن حصر أعداد الأسرى لأنها تتغير على مدار الساعات؛ ولا حصر الجرائم والاعتداءات عليهم بشكل دقيق وثابت؛ فما نقرأه يوميًا يفيد بتنوّعها وبابتكارات إجرامية إسرائيلية جديدة؛ واللافت في هذه الأيام، بخلاف ما كان في تلك السنوات، أن الجهات الإسرائيلية المسؤولة عن تنفيذ سياسات القمع الوحشي، لا تتستر على أفعالها، بل تتعمد، منذ السابع من أكتوبر تحديدًا، الكشف عنها وعرضها على الشاشات من دون أن تخشى المساءلة أو الملاحقة من قبل أية جهة أو سلطة قضائية إسرائيلية أو عالمية.
الجديد في المشهد إذن، لا في "الحصاد" نفسه، ليست أساليب التعذيب التي تمارس بحق الأسرى الفلسطينيين، ولا حتى انتشارها، حتى تحوّل تعذيب الأسير/ة الفلسطيني/ة فرضًا ينفذه الجندي أو السجّان برغبة وبشكل طبيعي؛ الجديد هو القديم: صمت المجتمع الإسرائيلي ومعظم مؤسساته الرسميّة العليا والشعبية، وتواطؤ المنظومة القضائية وسكوتها عن ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم والمنظّرين لها، وصمت "ضمير العالم" كذلك.
لقد شكّلت قضية الأسرى الفلسطينيين إحدى جبهات الحرب الإسرائيلية المستمرة؛ ولئن غابت تفاصيل الجرائم المنفذة بحقّ الأسرى داخل السجون والمعسكرات الإسرائيلية، عن "مشاهد الموت" العامة، يبقى حقّ ضحايا تلك الجرائم دَينًا معلقًا في رقاب البشرية وحرّاس ضمائرها؛ وتبقى مهمة توثيق هذه الجرائم مسؤولية فلسطينية عليا ومسؤولية المؤسسات الدولية المعنيّة بالدفاع عن حقوق المواطنين والأسرى في زمن الحروب.
وأخيرًا، يبقى الحصاد، كما قلت، هو الحصاد نفسه. مواجهة بين السّنابل الفلسطينية ومناجل الاحتلال؛ بيد أن المشهد في هذه الأيام مُخيف ومقلق، لأن الأسرى الفلسطينيين يقفون أمام واقع لم يواجهوه في الماضي. لقد خاضوا خلال مسيرتهم الكفاحية مئات المعارك؛ خسروا بعضها وربحوا الكثير منها، لكنهم كانوا يعرفون دائمًا كيف يحافظون على معادلة البقاء الآمن والحياة الكريمة وعلى جني حصادهم المبارك. لن أستعيد فواصل ذلك التاريخ المجيد الذي وثقته فيليتسيا لانغر في كتابها وفي سائر الوثائق التي تلته، لكنّنا نعرف والأسرى يعرفون، وعدوّهم يعرف أيضًا، أن كثيرًا من المقوّمات الداعمة التي ساندتهم في مواجهاتهم لم تعد موجودة الآن؛ وأن معطيات جميع الساحات الفلسطينية والعالمية المُساندة، قد تغيّرت وفقدت عوامل وفرص تأثيرها لصالح الحركة الأسيرة. إنّهم يعرفون، أو يجب أن يعرفوا، أن بيادر هذه الأيام لم تعد تلك البيادر التي مهما قَسَت عليها الأزمان وغَزَتها النواعق والجراد والبوم، كانت آمنة، تحرُسها السواعد المستعدة والقادرة على مواجهة مناجل ومخارز المحتلين والغزاة، وأنّ في وجعهم يكبر الأمل وتنام العبرة، ليبقى حصادهم ذاك الحصاد الذي رأيناه بأمهات عيوننا.