من منا لم يعايش فكرة أنه كان قاب قوسين أو أدنى من الحياة/الموت.. هل يعرف أحدكم "شنطة الحياة/الموت"؟ نعم نحن نعرفها جيدا مع كامل الوجع...! فأغلب أهل غزة جهز حقيبة الحياة/الموت في وقت ما من العدوانات الإسرائيلية المتكررة على غزة، وهي حقيبة يضع فيها الغزي أوراقه الرسمية ووثائق عائلته والهويات الشخصية وكرت المؤن (الكارت الخاص بالأونروا للاجئين) والشهادات المدرسية والجامعية وشهادات الميلاد وملكية البيت، وأوراق أخرى للمعاملات الرسمية! حقيبة يضعها كل غزي وغزية أمام باب البيت وبعضهم ينام وهو يحتضنها...

هل لاحظت حين يهرب بعضهم وقت القصف المفاجئ الذي لا يحصنه أي مكان بغزة (لا تصدق أبدا أن هنالك مكانا آمنا في غزة).. يحملون الحقيبة وكأنها أحد أفراد العائلة، هذه الحقيبة الملعونة التي توجعنا أكثر مما تحمينا.. هذه الحقيبة التي ترهقنا أكثر مما تحمينا، إنها من أثمن ما يملك الغزي أن ينقذها في حالة القصف الإسرائيلي الغادر الذي قد يصيب أي منطقة أو بيت في غزة.!! إنها استراتيجية اليأس ولكنها لدى البعض بوابة الحياة إن بقى الإنسان على قيد الحياة، فما عايشه الكثير من الناس في غزة بعد هدم منازلهم معاناة لا يمكن وصفها بمحاولة إعادة استعادة الأوراق الثبوتية أو شهادات الميلاد أو جوازات السفر. إنها مأساة أخرى بلا نقصان ولا زيادة.!!

لقد بكيت كثيرا -ذات مرة- حين أشارت لي احدى الصديقات خارج حدود غزة بأن أجهز مثل هذه الحقيبة لوقت طارئ...!! بكيت لأنني لم أتمكن أن أقول لها أن هذه الفكرة تقتلنا أكثر من الحرب نفسها، أكثر من الصواريخ الفاجرة/الغبية نفسها، كيف يمكنك أن تقوليها دون أن تتريثي قليلا، لقد قتلت الأمل والأمان والشعور الكاذب بالطمأنينة لديّ...! لم أسمح أبدا لمثل هذا الجنون أن يتسلل لي ولعائلتي كاستراتيجية مقاومة بل هي موت بطيء فلا أحد أبد يحسن شروط موته/حياته، إنها استراتيجية هادمة لأي بصيص للحياة بالنسبة لي ولغيري، فما قيمة الأوراق والشهادات التي تعلن عن وجودي وأنني أعيش على هذا الكوكب إذا دمرت صواريخ الاحتلال الإسرائيلي البيت الذي بنيته بعرقي وتعبي...! وكيف يمكنني أن أستسلم لفكرة مقتله، البيت تماما كما الابنة أو الابن كيف يمكن أن أستسلم لفكرة مقتله بهذه البساطة...!! هذه الحقيبة إن لم أضع فيها روحي وروح أبنائي وزوجي وبيتي بأكمله فلست بحاجة لها...!! والموت يصبح صديقا مرحبا به لأني لن أكون كما كنت أبدا...!!

رشاقة مفتعلة!

نهرب كثيرا من أسئلة ما بعد العدوان الإسرائيلي، نركض بخفة ورشاقة مفتعلة لأننا لا نريد أن نقول لأحبائنا أننا لسنا بخير، ولم يعد بالإمكان أن نكذب عليهم ونقول إننا بخير...!! لا نقبل المقايضة حتى في اللغة، وإن كانت ممكنة لدى البعض؟؟! ما معنى أن نصل لحوار مفاده مادامت لم تتضرر في أفراد عائلتك؟! وبيتك فأنت بخير وأنت أحسن من غيرك؟؟!! لا مقايضة أبدا نقبلها فكل إنسان لديه ما هو عزيز وغالي وهو لا يعني شيء للآخر؟؟!

هل يجب أن يضحك الآخر إذا بكى أحدهم دمار مزرعة الدجاج التي كانت مصدر رزقه!! هل يجب أن يكون ضرره أقل بعرف الثقافة والمجتمع؟! هل يجب أن يستخف الآخر ببكاء شابة لتمزق ثوبها المطرز الذي كان هدية في عيد ميلادها من أبيها الراحل؟! هل يجب أن تصف الطفلة كم هو مقدر وثمين عقدها البلاستيكي المتهالك اللون لأنه بمعايير الآخر ليس ذي قيمة اقتصادية أو ثقافية...! لا نقبل ولن نقبل المقايضة فيما نحب ونكره.. وفيما هو قيم بالنسبة لنا...!!

إن غزة تعيش فينا حتى وإن غادرناها، كل غزي ذاق مرارة العيش فيها لازال يحاول أن يتعافى في بلاد الغربة، لكنه يبدو في كثير من الأحيان كالمجذوب الذي يتعلق برائحة بيوتها، شوارعها، مخيماتها وأحيائها ومدنها، غزة قد لا تتعرف عليك حين تعود منتشيا من بلاد تنبض بالحياة، لكنها تحتضنك حتى تكسر كل عظامك كي لا تنساها، إنها كالأم في حبها تعطي حتى تذوب فيها، وتأخذ حتى تشبع منها، لكنك لا تملك خيار نسيانها، فهي مدينة تنتفض لأجلك وتعيش لأجلك، مدينة لا تنكسر حتى لو شربه البحر ذات يوم، لا تعترف بالهزيمة بينما جبينها يتألق كل صباح فهي تغسل وجهها مع اشراقة الشمس تجلس كما نجلس على شاطئ البحر، نلقي همومنا في البحر ونبدأ من جديد..!

مدينة لا تنحني!!

مدينتي تبدأ كل يوم من جديد، تحتفل بالحب والحياة رغم كل ما مر بها ورغم كل ما مضى، فهي لازالت تحتضن موطن الحضارات وتزف الشهيد تلو الشهيد كقربان للحياة، عينيها معلقة الآن في القدس وجنين ونابلس، وروحها تتعلق برائحة فلسطين العتيقة، تثقلها الهموم لكنها لا تنحني أبدا...!

علمتنا مدينة الحياة أن نبقى على قيد الموت في أي وقت، وأن نكون أكثر صلابة من الآخرين، علمتنا أن الحياة مسألة وقت، بعضه (الكثير) لتعطي حتى لو كان العطاء دمك، بيتك، أعز ما تملك، وبعضه (القليل) لكي تتنفس بتريث، مدينة الموت علمتنا أن ننهض في أول سقوط، وأن نجدد أملنا وحبنا ما دمنا على قيد الحياة، علمتنا مدينة الحزن معنى الامتنان ومعنى الحب ومعنى التواضع ومعنى التجدد، لقد اكتسبنا رغم كل الألم الذي عايشناه أن نحتضن الآخر، وأن نكون سندا للآخر والعطاء لم يكن يوما مالا أو جاها، بل العطاء بالحب والقوة وأن تشد على يد وقلب من تحبهم، علمتنا هذه المدينة العملاقة بقلبها، الصغيرة بمساحتها ألا ننسى أننا نحيا خاصرة فلسطين، وأن نحفظ خارطة بلدنا حتى إن بقيت مقيدة بأسوار شائكة، وطائرات هادرة، وحواجز لا تنتهي، لقد حفظنا فلسطين في قلوبنا وغزة والقدس ويافا وحيفا ونابلس والخليل والنقب وجنين وكل مدن وقرى فلسطين هن قلادات على أعناقنا نرثها من جيل إلى جيل.


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م