تبقّى التصويت الالكتروني لتكون انتخابات تقنية مكتملة الأركان
تجهّزت صوفيا الأربعينية في بيتها، ركبت الباص متجهة إلى نهاية الجادة التي تسكنها، دخلت إلى المدرسة المحاذية للبقالة التي تعمل فيها بالسنوات العشر الأخيرة. بعد انتظار قصير، دخلت إلى الغرفة بعد التعرف عليها، ليكون أمامها جهاز صغير تحمل واجهته ثلاثة أزرار ولوحة أرقام. على شاشة الجهاز تتوالى صور المرشحين، فتختار رقم الحزب الذي تراه الأنسب للبرلمان والمرشّح لرئاسة الحكومة. ضغطتين على الزر الأخضر للتأكيد، وكبسة إضافية على الزر الأحمر لعدم حاجتها للتراجع عن تصويتها.
بهذا الأسلوب انتخب 147 مليون مواطن في البرازيل ممثليهم بالبرلمان والحكومة، والحديث عن دولة متتالية الأزمات قليلة التطوّر التكنولوجي. فالانتخابات التي تعتمد على الإلكترونيات لم تعد نادرة في العالم، فهي معتمدة اليوم في العديد من الدول في أوروبا وآسيا. لكن هذا المشهد وإن كان ما زال بعيدًا عن واقع انتخابات الكنيست في إسرائيل - إلا أن بقية مُركبات المعترك السياسي تعتمد بشكل كبير على التقنيّات المتطوّرة التي من شأنها تغيير أي نتائج لكل عملية انتخابية.
اعتماد شبكات التواصل كركيزة للحملات الانتخابية لم يعد أمرًا حديثّا، فهي آلية مُتبعة لدى جميع الأحزاب لمحاولة جس نبض الشارع والتغيير في معادلة القِوى، سعيًا ليكون أي من الأحزاب في المقدمة. وتختلف الاستراتيجيّات في أي من الشبكات. ففي الانتخابات الخامسة دخلت الأحزاب العربية إما بشكل "رسمي" أو عبر نشطائها إلى منصة تيك-توك حيث سبقتهم الأحزاب اليهودية، محاولين مخاطبة الجيل الذي يصوّت لربما في أوّل مرة له. سبقتها الحملات عبر المنصة الأكثر شيوعًا في بلادنا - فيسبوك، هناك حيث المناكفات والتسريبات. وعبر تويتر يتحدّث المرشح العربي بالعبريّة، محاولاً مخاطبة الإعلام العبري ومناكفة زملائه من النواب اليهود بأسلوبهم ولغتهم.
وعلّنا نتوقف للحظة عند منصة انستغرام وما فيها من مشهد يستدعي التفكير. ففي هذه المنصة ما زال الظهور الأبرز فيها هو لما يُطلق عليهم اسم "المؤثرين"، شابات وشباب ممن لديهم عشرات أو مئات آلاف المتابعين، بعيدين في حياتهم اليومية عادة عن قضايا السياسة والأحزاب وحتى عن القضايا المعيشية والمجتمعية. إلا أنه وفي المرة الخامسة على التوالي يتم الزج بهم بفيديوها ومنشورات عبر صفحاتهم، منها الممولة ومنها غير ذلك، الحزبية في بعضها والداعمة للتصويت ككل في بعضها الآخر، تصل خلال دقائق إلى أعداد تفوق كل من قابلهم المرشح في الحلقات البيتية سويًا، إلا أن الأسلوب والمحتوى في هذه المنشورات مغاير تمامًا وليس من المؤكد أنه يلبي حاجة الأحزاب أو يمكنهم السيطرة عليه. تأثير كمّي من حيث الأرقام، إلا أن نتائجه النوعية غالبًا ما تكون محدودة الضمان وليس بالضرورة أن تكون لصالح الجهات الممولة لها.
أن يتصل بك مديرك بأمر من الأخ الأكبر: "ليش بعدك مش رايح تصوّت؟"
أمّا أبرز الأدوات التقنية استخدامًا وتأثيرًا في السنوات الثلاث الأخيرة - فهي دون شك برامج المراقبة وما صار يُعتبر "أدوات إدارة الناخبين". برمجيّات تعمل على تصنيف البيانات والملاءمة المتطوّرة باستخدامات الذكاء الاصطناعي AI، تستخدم المعلومات الأولية من سجِل الناخبين التي تحصل عليه الأحزاب المشترِكة في في الانتخابات، لتحوّلها إلى بيانات عمليّة يُمكن من خلالها معرفة توجهات كل ناخب، مراقبة إن كان قد صوّت أو لم يتوجّه بعد إلى صندوق الاقتراع، بل حتى وتحريكه يوم الانتخابات بشكل استثنائي.
برامج عديدة تم تطويرها في هذا المجال، إلا أن أبرزها تطبيق "إليكتور elector" الذي بادر إلى إعتماده حزب الليكود. إلا أن القائمة تطول للأحزاب الأخرى، وخاصة اليمينية: كانفاسير، يايا سوفت - yayasoft، وغيرها. في ظاهرها ترتيب لقوائم الإكسيل والدفاتر المطبوعة القديمة، إلا أنها في نظر آخرين أدوات تحكّم تهدد الديمقراطية وحرية التصويت من عدمه.
يظهر أثر هذه البرمجيات وعملها الأساس في يوم الانتخابات، إلا أن العمل عليها يكون على مدار أسابيع طويلة قبلها. تعتمد فيها الأحزاب بشكل كبير على النشطاء في الحقل، توزّع البلاد جغرافيًا، وثم بحسب الحارات ويُدرج كل نشاط أكبر قدر من أسماء المواطنين الذين يُعرف انتماؤهم أو مدى قُربهم من التصويت للحزب المرشح. ومع دمج للعديد من المعطيات حول نشاط أي من هؤلاء المنتخبين المحتملين عبر شبكات التواصل، تُرسم صورة أولية حول كل مواطن - وكل ما يتبقى هو تحفيزه للذهاب للتصويت في اللحظة الحاسمة.
لضمان تجنيد النشطاء لأكبر كم من الناس والعمل بجِد، تعتمد الأحزاب آليات التنافس والسِباق بين النشطاء. ففي "إلكتور" على سبيل المثال، تم تقييم النشطاء بحسب مدى فعاليتهم وضغطهم على المصوّتين واستخدامهم للأدوات المتاحة في التطبيق: ارسال رسائل مع نصوص جاهزة ومناسبة لكل شريحة جمهور وبشكل شخصي مع اسم الناخب، اتصال هاتفي، الضغط من خلال صديق وغيرها. أي من الناشطين يمكنه أن يتقدّم في الرُتب من قائد ميداني، إلى قائد لواء، وحتى درجة رئيس أركان. وبحسب هذه الرُتب المُعلنة، يحصل كل ناشط على ميّزات استثنائية داخل الحزب وخارجيًا!
المُخيف أكثر من كون معلوماتنا يتم تداولها بهذا الشكل، هو أن هناك استخدامات تمس بسريّة الانتخابات، حريّة التصويت والمقاطعة - وحتى أن مديرك في العمل يُمكنه أن يُسائلك أن كُنت لم تستغل يوم العُطلة الرسمي لممارسة الانتخاب حقًا! والحقيقة في اسرائيل، أن استخدام هذه القنوات التقنية لرفع نسب التصويت لدى المؤيدين عن دونهم، هي آلية معتمدة في القوائم اليمينة بشكل أكبر مما يُعرف أنه اليسار الاسرائيلي، وأضعاف ما تعتمده الأحزاب العربية بهذا الشأن.
غابات من الاستطلاعات، والحسّابة بتحسب
صعيد إضافي تطوّرت فيه التقنيّات هو استطلاعات الرأي قُبيل الانتخابات. وإن كانت الأحزاب العربية خاصة تشكك في مصداقيتها، إلا أنها تعتمد في قراراتها المصيرية والتحالفات التي تُجريها على هذه المُخرجات والنِسب وتوزيع المقاعد فيها. وآليتها أضحت متاحة لكثير من الهيئات وبأسعار أرخص بكثير مما كانت عليه، الأمر الذي يجعلها تكثر - بل ومن كثرتها وصل الجمهور العام إلى مرحلة إشباع وبلبلة كبيرة.
في الماضي تم الاعتماد فقط على التواصل الهاتفي للاستطلاعات، وفي أيامنا يتم استهداف أي منا عبر استطلاعات تقنية كبيرة منها في شبكات التواصل والرسائل، ومختصرة منها عبر الاستهداف المباشر بحسب المعطيات الديمغرافية المتوفّرة عنا في الشبكات.
هذا غيض من فيض. فالتقنية التي ترسم تشكيلًا جديدًا لنمط معيشتنا وأسلوب تعاملاتنا، يتم دمجها سنة بعد سنة بشكل أكبر في العملية الانتخابية والتي من شأنها التأثير على القوانين والقيم واقتصاد بلداننا. وإن تأخرت التغييرات القادمة على تحويل كُل عملية التصويت إلى تقنية كاملة (ولربما من البيت عبر الهاتف الذكي وتقنيات التعرّف على الوجه وغيرها)، إلا أن التغييرات التكنولوجية ستستمر بالعمل خلف الكواليس باتخاذ القرارات عنا أو بالضغط علينا لتوجّه دون آخر. وشبكات التواصل واعتمادها على إبراز التطرّف وخدمة الخوارزميّات للآراء الهامشية. كلها من شأنها أن تشكّل حياتنا من جديد، ما لم نحكّمها بالوعي والإحاطة بما يدور حولنا من تطوّرات تقنية.