كيف نقرأ اليوم مشهد المساواة الجندرية؟
بدأ النقاش الاجتماعي العلني حول مقارنة أحوال النساء مع الرجال في العالم العربي قبل حوالي 140 عاما. بدأته بعض النساء الميسورات من الأسر المقتدرة واللاتي توفر لمعظمهن التعليم البيتي. تزامن هذا مع بعض الدعوات الفردية التي أطلقها بعض رجال الدين وبعض المفكرين. كانت هذه الدعوات فردية أو ضمن جمعيات ومجموعات محدودة التأثير، لم تنجح في نقل الحوار حول الموضوع من المنصة الشخصية إلى المنصة الاجتماعية. في عام 1899 أصدر قاسم أمين كتابه الموسوم "حرية المرأة" واعتبر في حينه البيان/منيفستو الذي أطلق الجدال الأسري، الثقافي، الاجتماعي في هذا الموضوع على الصعيد الأوسع.
إن مراجعة مضامين النقاش الذي حصل في حينه تظهر أنه دار حول محاور (1) هل للمرأة حق في التعليم، (2) هل للمرأة حق في العمل خارج بيتها (لأن النساء اشتغلن في الخدمات المتعددة داخل بيوتهن – كخياطات مثلا أو داخل بيوت الآخرين – كخادمات منازل مثلا) و (3) هل للمرأة حق في المشاركة السياسية؟. لقد فتح هذا الكتاب، إضافة لنشاطات النسويات العربيات الأوائل، الجدل حول مقارنة أحوال النساء بالرجال في العالم العربي. مع هذا، ورغم مرور السنين، نلاحظ أن مضامين الجدل ما زالت هي ذاتها القائمة اليوم مع بعض التعديلات في مفردات النقاش فرضتها المرحلة الزمنية.
لا يمكن نفي التغييرات الكبيرة الحاصلة في حال النساء اليوم مقارنة مع ما كان وضعهن قبل 140 عاما. لقد شهد العالم العربي، بتفاوتات واضحة، هذه التغييرات تباعا. وفي كل مرحلة كان سقف الزجاج يتحطم وتخترقه النساء لتجد أن هناك سقفا جديدا عليهن اختراقه. فإذا كان المطلب في فترة قاسم أمين هو حق النساء في الحصول على تعليم ابتدائي أصبح اليوم مثلا حقهن في متابعة تعليمهن الجامعي للحصول على أقصى درجات أكاديمية تعبّر عن طاقاتهن وطموحهن. ولكن التغييرات حصلت أيضا في عالم الرجال، خاصة عند الحديث عن مستوى التعليم، أنواع المهن، ارتفاع سن الزواج، تدني عدد الأطفال للأسرة الواحدة، زيادة معدل سنوات الحياة وارتفاع في مستوى الحياة. عند مقارنة أحوال النساء مع أحوال الرجال داخل الحقبة الزمنية، نجد أنه ما زالت هناك نزعة لسيطرة ذكورية.
كيف نقرأ المشهد الآني في موضوع المساواة الجندرية؟
سوف أعتمد في الرد على هذا السؤال على تحليل بعض النقاش الزوجي والأسري الحاصل في جلسات عيادية، حيث ينقل الأفراد نقاشاتهم الحاصلة في البيوت والمجتمع في هذا الخصوص.
في أسرة مكوّنة من والدين أكاديميين، توفي ابنهم الشاب بحادث فجائي. ثم تطور صراع أسري بين أهل الفقيد والأرملة حول قرارها بالانتقال للسكن في مكان آخر عقب وفاة زوجها. رأت الزوجة أن ما كان يربطها مع بلدة الزوج هو زواجها منه، بينما رأى أهله أن زوجة الابن تربي الحفيدة والتي اعتبروها من "ملكية عائلة الوالد" وعليها أن تبقى في ظل أسرة والدها المتوفي. كتسوية، طالب أهل المتوفى أن تعيش الأرملة وابنتها في بيت أهلها وليس في شقة خاصة بها في بلد تسكن فيه بمفردها.
اعتمد رد فعل والدي الزوج المتوفى على المبدأ الأسري والاجتماعي الذي يرى في الزوجة تابعة للزوج، وعند غيابه، تُوكَل إلى أسرته الموسعة الرقابة عليها وفي إدارة شؤونها.
طبعا لا نتوقع أن يحدث مثل هذا الجدل في حال توفيت الزوجة وقرر الزوج الأرمل الانتقال مع طفلته إلي أي مكان يراه مناسبا لوضعه الجديد.
الحالة الثانية هي لزوجين أكاديميين، تعلما نفس المهنة واختار كل منهما مسارًا تخصصيًا مختلفا عن الآخر. أدرَّ عمل الزوجة عليها راتبا أعلى من راتب الزوج وفي الوقت نفسه، سمح لها بتخصيص ساعات أكثر للبيت وللأولاد. أما الزوج، فكانت ساعات عمله طويلة وأيام عطله أقل ولكنه تمسك بمكان عمله على أمل الترقي والحصول على تدريج أكاديمي طمح إليه. كانت النتيجة بعد 15 سنة زواج، أن الزوج تدريجيا ترك إدارة البيت والأولاد، بما فيه الالتزامات المالية، على الزوجة ولم يكن شريكا فعليا. كان الزوج يخرج مع العائلة في رحلة سنوية لخارج البلاد ويدفع هو كامل التكلفة ويرى بهذا مساهمة سخية في رفاه الأسرة. عندما جادلته زوجته على ضعف مساهمته الزوجية والوالدية هاجمها بأنها "ما تفكر حالها بتفهم في المهنة أكثر منه وأنها شايفة حالها عليه بالأكم شيكل الإضافي إلي بتربحهم" بينما فعليا كانت قدرتها المالية قد حررته من أي عبء مالي منذ بداية زواجهما حيث عاشت حياتها اليومية وكأنها والدة وحيدة.
اعتمد رد فعل الزوج على الموقف الموروث القائل إن "الوضع الطبيعي هو أن يكون الزوج في مكانة مرتفعة أكثر من مكانة الزوجة". وعندما لم يحصل هذا، عمل بكل ما يستطيع حتى يوازن المعادلة لصالحه وبدون تنسيق أو موافقة زوجية، بل ضمن فرض أمر واقع. في هذه الحالة، وعندما فشل الزوج في تفهم أسباب شعور الزوجة بأنها والدة وحيدة، أصّرت الزوجة على الطلاق.
في حالة ثالثة لزوجين لهما نفس المهنة، اختارت الزوجة التخصص الذي تحبه والذي تطلب ساعات عمل طويلة والتزامات كثيرة إضافية نجحت معها في المحافظة على وجودها في البيت في ساعات وجود أطفالها. ظن الزوج أن على زوجته التنازل عن متابعتها للتخصص حتى تفرّغ ساعات أطول للأطفال والبيت وحتى يتمكن هو من التركيز على عمله الخاص. عندما جادلته الزوجة بأنها ناسبت نفسها له عندما اختار تخصصه وأنها دعمته بتحقيق ذاته المهنية اتهمها بداء الغيرة - لأنها تقارن نفسها به - وبالأنانية - لأنها تتركز في مصلحتها وترفض أن تصغي لطلباته بما فيها دخولها لحمل فوري - وبعدم المسؤولية - لأنها لا تقدّر قيمة الدخل الإضافي الذي يجنيه في ساعات عمله الطويلة عندما يكون بعيدا عن العائلة. عندما تابعت الزوجة في برنامج تخصصها ولم توافق على طلبات الزوج، قام الزوج بتصعيد الخلافات وترك المنزل الزوجي كتهديد صارم للزوجة. عندما فشلت جميع محاولاتها بالحديث المنطقي معه وبقي مصّرا على موقفه عندها قررت الزوجة طلب الطلاق.
هناك قاسم مشترك في الحالات أعلاه جميعها: جميع الأفراد حصلوا على سنوات تعليم عالٍ أكثر من المعدل في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، مستوى دخلهم مرتفع أكثر بكثير من المتوسط، بعضهم تعلم أو عمل خارج البلاد، وكلهم يسكنون في مدن. بالرغم من هذه المعلومات الديموغرافية للنساء والرجال إلا أن مضمون النقاش الحاصل بينهم عندما يكون سلوك أو موقف المرأة هو تحت المحك يؤثر على النقاش محور مركزي ولكنه خفي وهو "امتياز الذكورة" أو ما يمكن إدراجه تحت المصطلح العام (White privilege بالانجليزية) والذي يفترض أن من يمنح القرار يحكي عن حقوق تاريخية يحاول من يطلب تغيير وضعه التاريخي أن يسلبه إياها ويدخله في ضائقة نفسية-عاطفية عند مطالبته بالتنازل عنها. نلاحظ أن مضمون النقاش هو نفسه الذي كان حاصلا قبل فترة قاسم أمين وأثنائها وبعدها - بين مجموعة النساء الرائدات وأسرهن وبيئتهن، وهو نفس المضمون الذي حصل بعد كل الثورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في العالم العربي؛ لقد تغيّرت الحقبة وديكورها ولكن الحديث الأسري والاجتماعي حول سيادة الذكر العربي ما زال ثابتا.
ما زال الرجل والأسرة والحمولة والمجتمع المحيط يتدخلون في تحديد مكانة المرأة، بغض النظر عمّن تكون وعمّن يكونون.
الأنكى من هذا هو نجاح بعض المنتقدين في تسريب المعنى الخاطئ للنسوية والذي أذاعوا أنه الدعوة إلى: تعالي النساء، كره الرجال، فساد الأسرة، كفر بالدين، وتواطؤ مع الغرب ضد الأسرة العربية والعالم العربي. لم يقرأ المنتقدون النظرية النسوية والتي يدعو مضمونها الجوهري إلى العدل الإنساني المجتمعي وإلى احترام حق كل إنسان في أن يحقق ذاته وأن يكون في الموقع المناسب له/ا دون وصاية أو تمييز جندري.
رغم التغييرات الهامة التي شهدها العالم العربي في مكانة المرأة إلا أنه لم يحقق المساواة الجندرية. كان هذا لعدة أسباب، أهمها أن هذا المطلب لم يتحول لمطلب اجتماعي وبقي محصورا على صعيد فئات ضيّقة. في حين أنَّ المعادين للفكرة اشتغلوا على صعيد اجتماعي واسع مستخدمين المنصات الدينية، الإعلام، الفن، كتب التدريس وكتب الأطفال والموروث الشعبي والرقابة الاجتماعية. السبب الثاني هو انتشار بعض العادات الجديدة مثل الاحتفال بعيد الأم أو يوم المرأة أو عيد الحب والذي نجح في التغلغل للعالم العربي بسبب قدرة هذه المناسبات على ترويج بضائع تجارية. ادعى البعض أن الاحتفال في هذه المناسبات هو إبراز لمكانة المرأة بينما هي في الواقع مساهمة اقتصادية كبيرة ولكنها لم تساهم في تحسين مفهوم المساواة الجندرية. والسبب الثالث هو أن الحركة النسوية في العالم العربي نشطت جدا في الجيل الأول، وساهمت في أن تعيش بناتهن في أسر داعمة وغير قامعة مقارنة مع البيئة المحيطة وبيئة أسر الجيل الأول. أما الجيل الثالث والرابع فلا يناقش المساواة، بل يعيشها ويمارسها. ولكن هذه الفئة هي ضئيلة جدا وهامشية مقارنة مع السواد العام في العالم العربي حيث إن مطلب المساواة كان فرديا أو محصورا على جماعات صغيرة، ولم ينجح في أن يصبح مطلبا مجتمعيا. والجدل الحاصل في الحياة الزوجية والأسرية هو من الأدلة على هذا.
أ.د. خولة أبوبكر
محاضرة وباحثة أكاديمية، معالجة زوجية وأسرية مؤهلة ومرشدة معالجين مؤهلة