حين نَشَرت الصّحافَة الإسرائيليّة خَبَر... نِظام الأَسَد
في الثامن من كانون الأول 2024، انشغَلَت القنوات الإخباريّة حول العالَم بالمعلومات عن مغادَرة الرئيس السوري السابق بشّار الأَسَد سوريا، وتنوّعت العناوين بمختلَف اللغات حول مُسمّى المغادرة وسيطرة "هيئة تحرير الشام" وقائدها الملقّب "أبو محمد الجولاني" على البلاد.
نشَرت وسائل الإعلام الإسرائيليّة أيضًا الخَبَر، وتنوّعت عناوينها، ومحتويات أَخبارها الأولى فَور وُقوع الحَدَث. نَرصد في هذا المَقال ما جاء في سبعة مواقع إخباريّة بارزة، نقرأ العناوين، نتمعّن في اللغة، وفي كيفيّة وصف النّظام مُقابل معارِضيه، وعن دور إسرائيل، ونَستخلص أهمّ الرسائل المنقولة للجمهور الإسرائيلي.
تم اختيار تاريخ الثامن من كانون الأوّل، والخبر الأوّل الذي نشر في كلّ مِن مَوقع: “هآرتس”، و”كيكار هشبات” الدينية، و”يسرائيل هيوم”، و”والاه”، و”واينت”، و(N12)، و”مكور ريشون” الدينية.
نَبدأُها بالعَناوين
اختارَ موقع “هآرتس” عنوان "سُقوط الأَسَد هو ضربة للمِحور الإيراني لكنّها يُمكن أن تسبّب مصاعب لإسرائيل"، أما “كيكار هشبات” فاكتفى بالإعلان عن "سُقوط نِظام الأَسَد"، وفي “يسرائيل هيوم” حذّروا وقالوا "سقوط نظام الأَسَد، عبرة لإسرائيل"، أما موقع “والاه” فنشر عنواناً وصفيًّا مجلجلًا "سقوط نظام الأَسَد هزّة أرضية تاريخية في الشرق الأوسط"، وكتب موقع “واينت” ببساطة "نظام الأَسَد أُسقِط"، فيما اختار موقع (N12) عنوانًا يَختصر الكثير: "زمان الأَسَد: 54 سنة سلطة وراثة حوّلت سوريا إلى أناركية"، أمّا موقع “مكور ريشون” فكتب عنوانًا ساخرًا إلى حدّ ما "سُقوط نظام الأَسَد: مجموع تنبؤات المحلّلين الإسرائيليين التي لم تتحقق أبدًا".
وَصْف النّظام
استخدم كلّ واحد من المواقع لُغة لها دلالات تتعلّق بالموقف الإسرائيلي من الحَدَث ومن النّظام نفسه، فمثلًا يكتب مَوقع “هآرتس” كلمات مثل سقوط، صعوبات، إفلاس. ويَصف بشّار الأَسَد بنعوتٍ قاسية مثل: كبير قتَلة الجماعات، دكتاتور، قاتل، طاغية، سَقَط من كلّ ناحية فعليّة. إنّما في وصفه الوضعَ عمومًا يكتب أن سقوط الأَسَد نَصر أخلاقي، تعذيب وإعدام، هَربوا دون أن يحاولوا القتال. فنستخلص من الخَبر تأييدًا للحدث الذي خلّص المنطقة من الأَسَد وليس سوريا فحسب.
تعامَل موقع “كيكار هشبات” مع النظام وإسقاطه بتعابير مختلفة أقلّ اتّهامًا لشخص الأَسَد، فاستخدَم عبارات مثل أزمة سياسية، إسقاط النّظام، هُجوم مفاجئ، نهاية النّظام، سُقوط سلالة الأَسَد، قمع عنيف، تهاوٍ، بشّار تَرَك الدولة. وجاء الخَبَر على شكل وَصْف لما حَدَث يعتمد على ما سَبَق وعرفناه عن النّظام.
كان موقع “يسرائيل هيوم” أكثر دقّة في شرْح التفاصيل، فوصف ما حدث بمصلح زعزعة وشَرخ، وأكد أنّ الحديث يدور عن تقسيمات دينية، فتحّدث عن الأقلية العلويّة وسيطرتها. استطرد في ما بعد بالحديث عن حرب أهليّة وما سببته من اقتلاع ولجوء، ثم شرح حول الشّرخ في المبنى الإثني وقلّة حيلة النظام مقابل الأتراك والسدود التي بنوها فحرموا سوريا من الماء، وعزا ما حَدَث إلى تهرّب الجيش النظامي من القتال، وأكد أن مؤيدي الأَسَد ظلموا أنفسهم، وأصبح الخَبَر موقفًا سلبيًا من النّظام.
موقع “والاه” اختار وصفًا دراماتيكيًا لما حدَث، وكتب أنها هزّة أرضيّة بمقاييس تاريخية، ثم وضّح أنها حرب أهليّة وأحداث دراماتيكية، ووصف وضَع سوريا عمومًا بالفوضى. أما عن النّظام فشَرَح الموقع مستخدمًا كلمات مثل سُلطة عائلة من الأقلية العلويّة وحزب البَعث العلماني، ووصف بشّار بأنه الوريث الذي اعتبر واعدًا للتغيير، واتضح أنه ديكتاتور فظيع قتَل مئات آلاف السوريين الأبرياء بالسّلاح الكيميائي والقنابل.
اقتصر الخَبَر في موقع “واينت” على التّبليغ عن أن الأَسَد فرّ هاربًا بعد حَرب أهليّة وسفك دماء. ثم وصف النّظام بكونه نظامًا عنيفًا، والأَسَد بكونه طاغية قاسيًا متسلّطًا.
اكتفى موقع (N12) بوصْف الحدث بأنه نهاية أو نتيجة حرب أهلية. وأن البلاد كانت تحت سيطرة أقلّية علويّة، وأن حُكم عائلة الأَسَد أدّى إلى خراب الدولة، لأنه نظام قامع، وبشّار تحوّل من طبيب إلى قاتلِ الجُموع.
كان مَوقع “مكور ريشون” دراماتيكيًا أيضًا حين اختار وصْف ما حدث بـ "مفاجأة تكتونيّة"، أي هزّة أرضية في طبقات الأرض العميقة، ثم وضّح بأنها حربٌ أهلية انتهت بسقوط النظام وكأن ما حَدَث هو نتيجة متوقّعة- وفي الأمر بعض التناقض بين المفاجأة والنتيجة الحتميّة لحدثٍ سابق.
وَصْفُ المعارِضين
تحتل كلمة "متمرّدين" جميع الأخبار لوصف "هيئة تحرير الشام" ومن تحالَف معها، فهكذا وصفهم (N12) و”واينت” و”مكور ريشون”. لكن المواقع الأخرى ارتأت بعض التفصيل، فجاء في موقع “هآرتس”: المتمردون، قوات تتماهى مع القاعدة، مسلحون، احتلوا دمشق، انقلاب، اجتياح، انتفاضة، متمردون سُنّة، تدمير وسرِقة واستيلاء، وهذه أوصاف سلبيّة تُنذر بخطورة الجيران الجدد. أما “كيكار هشبات” فوصفهم بالمعارضة السنيّة، سَيطرة، موجة احتجاجات، والرّبيع العربي، جماعات إرهابية، متمردين. “يسرائيل هيوم” لم تكن أكثر تفاؤلًا وإيجابيّة فكتبت عن موجة احتجاجات الربيع العربي: متمردون، ضربةٌ مخطط لها بتوجيه تُركي، وحذّرت أهالي الجولان بالقول إن على الجولانيين ألا يقعوا فريسة للخدعة. اختار موقع “والاه” مرّة أخرى وصف الحدَث بتسلسل فتحدّث عن هجوم سريع جدًّا، تحالف إيراني مع المتمردين، استيلاء المتمردين دون معارضة، قلق مِن جهات إسلامية متطرّفة، منظمة معارضين إسلامية، الجولاني إرهابي تغيّر ويطلُب من العالم اختبارَه.
إسرائيل المُتفرّجة
تحدّث موقع “يسرائيل هيوم” عن نظام إقليمي جديد وقطع المدّ الشيعي، وأنه توقع حدوث أزمة لكنّها جديرة بأن تكون عبرة، خاصة أن كاتب الخبر هو ضابط سابق في الجيش: الزجّ بالعدو إلى مناطق ومواقف تتيح له استعادة قوّته خطر، وهو يذكّر بطرد نشطاء حماس إلى منطقة مرج الزهور جنوب لبنان، ثم قارن وضع سوريا مع ما حدث يوم 7.10، وكيفيّة الجاهزيّة لكلّ حدث. كما حذّر من وجود ميليشيات تهرّب السلاح عبر الأردن إلى السلطة الفلسطينية، ونادى بتدخل إسرائيلي فعّال للتأثير على النّظام الجديد المتشكّل وفق مصالح إسرائيلية بَعيدة المَدى.
قبل الحدث المصيريّ كانت إسرائيل دائمة الاعتداء على مساحة سوريا، وقد استحضرت المواقع هذا الأمر، فكتب موقع “هآرتس” أنّ إسرائيل على مدار حُكم بشّار الأَسَد قَصَفت دون ازعاج، ووجوده كان حالة مُريحة، لكن الآن أصبحت المخابرات متفاجِئة، وخطر السلاح الكيماوي والصواريخ جعل إسرائيل قلقة، إضافة إلى خطر تسلّل جعل الجيش يرسل قوات كخطوة دفاعيّة مؤقتة وتكتيكية. وأيد موقع “كيكار هشبات” "الردّ" الإسرائيلي ووصفه بخطوات للدفاع، قصف أهداف عسكرية، منْع تسلل السلاح لأيدي الأعداء.
أما باقي المواقع فتحدّثت أيضًا عن الحُدود الهادئة والخَوف المُستجدّ وضرورة التجهّز وصدمة المخابرات،وعلى الهامش أهميّة سوريا بالنسبة لروسيا في حربها ضد أمريكا حليفة اسرائيل.
رسائِل بين المُباشر والمبطّن
هذه الجزئية هي الأهم للقارئ الإسرائيلي، فالنعوت والأوصاف للنظام و"هيئة تحرير الشام" هي جزء من مقولة أوسع ترتبط ضمن نَصّ الخَبر (ما عدا موقع “واينت” وذلك لِقِصر الخبر) بالمَواقف وعلاقات الطرفين مع جهات أخرى تصبّ كلّها في الهدوء الذي تضْمَنه أو الخطر الذي تُشكّله على إسرائيل.
إن اختيار كلمة سُقوط مقابِل كلمة إسقاط لها دلالات تختلف بين الفاعل والمفعول به، إذا سَقَط النظام فهو خَلَل فيه، وإذا أُسقط فقد واجه قوّة أكبر منه تغلّبت عليه. وفي الثانية إشارة تحذير من تلك القوة وتاريخها وحليفاتها. أما استخدام الأَسَد مقابل نظام الأَسَد فهو أيضًا مثير للاهتمام، لأن سُقوط شخص بشّار الأَسَد وحده شيء، وسُقوط مفهوم متمثّل بنظام وحزب له موقف واضح من إسرائيل هو أمر آخر، فغياب بشّار وَحده ليس كفيلًا بإلغاء دَعم مقاومة إسرائيل، وللتعمّق في المقصد علينا مراجَعَة جمع المُصطلحات في عنوان الخبر أو مضمونه: هل هو سقوط الأَسَد أو إسقاط الأَسَد؟ وهل هو إسقاط الأَسَد أم إسقاط النظام؟
في المصطلحات المستخدَمة الكثير من التَخويف، ومن جهة أخرى طمأنة من قَطع الامتداد الشيعي وما يوصف طوال الوقت بالمِحور الإيراني. فيقول موقع “هآرتس” إن المحور الجديد المتشكّل يشمل الجولاني وتركيا وقطر، وهناك قلق على مصير دروز الجولان، وبالطبع لا يخلو الخَبَر من ربط الحَدَث مع الأحداث الداخلية الإسرائيلية، فتحذر “هآرتس” من استغلال نتنياهو المستجدات للتهرّب من الصفقة أو التحقيق.
في نصّه، يَعكس موقع “كيكار هشبات” حالة الترقّب الحَذِر، فتاريخ النظام السابق هو تاريخ لم يعد مهمًّا، أما النظام الجديد فهو منظمات متطرّفة بدعم خارجي، وبالتالي ما يريد قوله أن سوريا الجديدة ليست حليفًا إنما عدو قاعدته أكثر خطرًا، وهو ما يعكسه موقع “والاه” أيضًا، حين يصف الأَسَد بأن عدو معروف تمّ ردعه، أما الجديد فهو عدو مجهول، وبالتالي فهو أكثر خطرًا على أمن إسرائيل وسلامتها. أما حالة السّخرية التي اتبعها موقع “مكور ريشون” من الباحثين ذوي الشأن فَلَها دلالاتها أيضًا على صعيد الثقة بالجيش والمخابرات والسّاسة وكلّ الأطراف العلمانية الأخرى.
تَظهر روسيا في جَميع الأخبار كونها كانت حليفًا للأسد، ويأتي ورود ذِكرها في جميع الأخبار للتّحذير منها ومن الدّور الذي تَلْعَبُه في المنطقة ضمن حربها الطّويلة ضد أمريكا، وتقاسُم الدول وخلْق حلفاء ونشر قوات وبناء قواعد عسكرية. كما لم تغِب تركيا من القائمة السّوداء المقدمة للجمهور الإسرائيلي، فيأتي عددٌ من المواقع على ذكر علاقتها الاستحواذيّة مع سوريا، وكيف بنت سدودًا على مصادر المياه السورية الأمر لم تتمكّن سوريا من الوقوف ضده أو منعه أو ردعه رغم خلقه أزمة مياه فيها، وبالتالي فإن تركيا دولة قويّة يجدر الحذر منها من جهة وعدم جرّ إسرائيل إلى عداء معها من جهة أخرى.
أمّا الجُزء الأهمّ في كلّ ما جاء فهو حالة النّفاق المتمثّل بالحِرص المُفتعل على مصير دروز الجولان، وهذا ما أكّدته معظم المَواقع، بحيث كان بعضها يميل إلى التعاطي مع الجولان كمنطقة تشكّل تحديًا وخوفًا من حرب على الجبهة السورية، وآخرون رأوا في الجولانيين أنفسهم هدفًا، فدعى موقع “هآرتس” إلى الالتفات نحو هضبة الجولان والتحرّكات فيها، فيما دعى موقع “يسرائيل هيوم” للتوسع أكثر والاهتمام بالأقلّية الدرزية في جبل الدروز.
كان واضحًا أن الخَبَر الأول في كلّ واحد من المواقع يتأرجح بين القدرة على استيعاب ما حدث ومحاولة تحليله والتنبؤ بإسقاطاته على إسرائيل. إن الإجماع على وصف نظام الأَسَد بالقاتل الطاغي الوحشي لا يعني فَرَحًا بسقوطه، في المقابل فإن وصف الجولاني – الذي لم يحصل حينها على اسم أحمد الشّرع- بالإرهابي والإسلامي والمتطرف لا يعني بالضرورة أن هناك جبهة قتال جديدة مع عدو جديد. لكنّ الأهم، أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تستغلّ - كما هو الحال دائمًا- أيّ حدث بربطه بما يحدث فيها داخليًّا، فهي فرصة للمحاسبة على الأخطاء، ودعم طرفٍ سياسيّ ضد آخر، وفرصة ثمينة لتعزيز حالة الخوف الدائم من الأعداء الوحشيين المُنتشرين في الشرق الأوسط، وربما إشارة متواضعة هنا وهناك لضرورة استمرارية مشروع التّطبيع.