سوريا المُستقَبل، سوريا الآن: بَين الشّرع والجولاني: هَل تَعبُر سوريا مَخاضَها؟
تَرِدُ في مُقدمة ابن خلدون عبارةٌ مشهورة تَقول: "إنّ الطُغاة دائمًا كانوا رُسُل الغزاة". صحّت هذه العبارة مَرّة ومرّات، وسوف تصحّ مستقبلًا على كلّ بلاد تَغيب عنها التشاركيّة في الحكم والإدارة، ويستفرد فيها الرّأي الواحد حتى يُحيل كلّ شيء فيها إلى خَرابٍ بَلْقَع. في حالة بشّار الأَسد، تَنطبق هذه العبارَة حدّ التلاصق.
عندما وَصَل بشّار الأَسَد ـ طبيب العيون المقيم في بريطانيا ـ إلى سدّة الحُكم في سوريا بعد وفاة والده حافظ الذي حَكَم سوريا بالحديد والنار ثلاثين عامًا، كان هناك توافق دوليّ على أن تستمر عائلة الأَسَد في الحكم. لم تَعترض دول كبرى وازِنة ذات تاريخ في مجال الدفاع عن الدستوريات وحقوق الإنسان على عملية تغيير الدستور في سوريا التي استغرَقت بضع ساعات، فأنزَلت عُمرَ الرئيس المقرَّر في الدستور من أربعين عامًا إلى أربعة وثلاثين ليطابق عُمر بشّار القادم مِن عوالم لا علاقة لها بالمطلق باﻹدارة أو الحُكم أو أيّ أمرٍ يمكن أن يكون مفيدًا للسوريين. لقد كانت واشنطن وباريس عرّابتا بشّار الذي قلب لهما ظَهر المِجنّ بعد سنوات قليلة. ولسخرية القدَر، فإن "القائد" الحالي للبلاد قادمٌ من عوالم لا علاقة لها بالإدارة والتخطيط والحكم إلى درَجة الاستعانة بموظفي القصر الجمهوري السابقين لتمشية أمور البروتوكولات الرسميّة.
بَلَع السوريون مرارة الهُزء بالدستور وبعقولهم ووافقوا على الإكمال مَع الرئيس "الشاب" الذي بادَر بدوره للتخلّص من الحرس القديم الذي أوصَلَه للسّلطة، وأعلن في خطاب شهير "خطاب القَسَم" عن نيّته الانفتاح على العالم، وتحرير المجتمع السوري من القمع والإرهاب، وغير ذلك مِن مفردات حداثوية أوقعتنا جميعًا في فخّ التصديق سنواتٍ لاحقة. لكنّنا كنّا واهمين فعليًا، إذ سَرعان ما عاد الأسد الجديد إلى أساليب أبيه في الحكم. أوضَحَت المَشاهد التي تسّربت من سجن صيدنايا قبل أسبوع من الآن أنّ جملةً كرّرها بشار كثيرًا تقول إنه لا يوجد لدينا معتقلون سياسيون كانت كِذبة كبيرة يعرفها السوريون جيدًا.
كَمَنت المشكلة الأساس التي عاشَ فيها نظام بشّار الأَسَد ودفعْنا ثمنها غاليًا بشَكل دقيق في عدم الرّبط بين الموقف الوطني/ القومي والموقف الديمقراطي داخل البلاد. إنّ التَلازم بين المسألتين -في رأينا- هو عقدة العقد في العالم العربي بين الحاكم ذي المشروع الوطني والقومي والقضية الديمقراطية، وكلا القضيتين هما ما تمنَحان الحاكم شرعيته الحقيقية لا "الثورية". إنك كحاكم لا يمكِنك أن تَضحك على الناس بحديثك عن القضية المركزية لدى شعوب العالم العربي (قضية فلسطين والمقاومة) وتعتبرها هاجِسَك اليومي، فيما أنتَ تمارس كلّ أشكال الفساد والقمع والإقصاء في البلد. لا أحد سيصدّق هذا الكلام فيما أنت لا تملك قرارًا مستقلًا عن اللعبة الإقليمية التي دفعَت سوريا ثمنها الأكبر. إنّ حضور إيران القويّ في المجتمع والسياسة السورية كان انفصامًا حقيقيًا عن المحيط العربي والتركي والإيراني (الذي حافَظَ عليه الأَسَد الأب بكفاءة)، وبدوره فإن هذا المحيط لم يقصّر في محاولة تفكيك الرابطة الإقليمية مع إيران ولو على حِساب كلّ السوريين الذين لا علاقة لهم بهذا التوجه السياسي للنظام.
الحصيلة الراهنة التي يقول كثيرًا من السوريين إنها نتاجهم، أعني "الثورة" وسقوط نظام بشّار الأَسَد، في الحقيقة لم تكن لهم فيها يدٌ كُبرى، خاصة في السنوات الأخيرة التي استعاد فيها النظام السيطَرة على مناطق واسعة مِن البلاد بدعم روسي وإيراني. لقد بَدَت معركة كَسر عَظْم بين فريقين مدعومين كلّ منهما من جهة دولية وإقليمية حوّلت سوريا إلى ملعب دموي دفع السوريون ثمن التقاتل فيه من دماء أبنائهم وبتهجيرهم مسافات بعيدة بأعداد كبيرة، وفوق هذا كلّه تناقَصَت "سوريا" إلى دويلات تحكُمها قوى أمر واقع يرتبط كلّ منها بقوة إقليمية ودولية مصالحها فوق مصالح السوريين بالضرورة والتاريخ.
ليس التحوّل الأخير الذي أتى بالجولاني وجماعاته المُتنافسة إلى السلطة في سوريا وصعودهم المفاجئ في عشرة أيام بتدابير مرتّبة وتغلّبهم على نظام قمعيّ جثَم على صدر سوريا نحو ستين عامًا، أمرًا عاديًا أو يمكِن فهمُه في ضوء موازين القوى مع النظام السابق، بل يجب أن يُنظر إليه -برأينا- عبر الموشور الدولي والإقليمي والمحلي. والدولي أولًا لأن روسيا على الأرجح هي مَن رتّبت لبشّار الأَسَد هذا الخروج المُذّل بين عشيّة وضحاها، وبالضرورة سوف تنال مكافأة في مكانٍ آخرَ مِن العالم: أوكرانيا. والدولي أولًا مِن جديد لأن واشنطن تقول وبِعالي الصوت إنّ المطلوب مِن النظام السوري الجديد حماية الأقلّيات وحقوق المرأة و… عدم الاصطدام مع الجيران. والجيران المهمون لأميركا بايدن أو ترامب أو بوش هم مَن يتوغلون اليوم في محافظة القنيطرة وخرقوا هدنة العام 1974 ورفعوا رايتَهم الزرقاء فوق قمة جبل الشيخ بعد نصف قرن على اندحارهم. والإقليمي ثانيًا لأن هؤلاء الجيران المكروهين عملوا خلال أسبوعٍ واحد على القضاء على بقية الجيش السوري (سادس جيش عربيًا) بسلاحه ومواقعه ومنشآته التي استغرق بناؤها عقودًا طويلة، وباتت اليوم قاعًا صفصفًا، في مَشهد أدمى قلوب السوريين وأبكاهم ونغّص فرحَتَهم بالخلاص مِن الرئيس الغَبيّ.
العامل المحليّ هو الآخر ليس أقل صعوبة مِن العوامل الخارجية، والتّداخل بينها معقّد ضمن سياق إرث ثقيل مِن القمع والمقابر الجماعية والتوترات الطائفية والقومية التي وَسَمَت هذه العقود وأدّت إلى تفكّك ضخم للنُسُج الوطنيّة والقومية في سوريا، متزامنًا مع تدمير الجيش الوطني ونشوء جيوش جديدة مموّلة من الخارج، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهات ثقيلة على رأسها التقسيم المحتَمل، رغم سيطرة هيئة تحرير الشام على الجزء الأكبر من البلاد.
إنّ مستقبل سوريا يكتنفه الغموض، خاصّة مع وجود قوى جديدة مِن طينة جهادية (الجبهة الشامية على رأسها وهي التي دَخَلت مدينة حلب أولًا) ترفُض وتتحدّى النظام الجديد الذي يحاول الخروج من العباءة نفسها والتّعامل مع الإرث الأسدي بشكل عقلاني حتى الآن. وبينما تَعمل قوى مدنيّة كثيرة لملء الفراغ الذي تركه غياب الدولة ومؤسساتها سعيًا نحو دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تعمل قوى أكثر اتّساعًا على تحويل البلاد إلى مدنيّة شرعيّة (كما في تصريحات واضحة لأفراد مِن النظام الجديد)، وهذا يعني ببساطة أن الاستقرار في سوريا لا يزال بعيد المدى.
أما التحدّيات التي تواجه النظام الجديد ـ الذي بالمناسبة وَجَد نفسه أمام دولة مهترئة ومفككة وعليه حلّ كثير من المشاكل العاجلة مثل المياه والكهرباء والوقود والرواتب وغيرها ـ فهي لا تقتصر على إعادة البناء السياسي والاجتماعي، بل تتجاوز ذلك إلى ضرورة مواجهة قوى شاركته رحلته نحو السلطة ولا ترغب بالتخلّي عن حصّتها بسهولة وقد تستغل أي توجّه عربي (إماراتي مثلًا) أو إقليمي (إيراني أو تركي) لإشعال الفوضى التي تتيح لأي من هؤلاء اللاعبين البقاء في الساحة السورية.
مع ذلك، يبقى الأمل موجودًا في أن يتمكّن السوريون من استعادة هويتهم الوطنية وبناء مستقبل مشترك يضمن حقوق الجميع. لكن الطريق إلى ذلك سيكون مليئًا بالعقبات، مما يجعل من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا في السنوات القادمة. إن ما يَنتَظر السوريين هو امتحان حقيقيّ لإرادتهم في تجاوز الماضي وبناء غدٍ أفضل، وَسَط كلّ هذه التحدّيات التي تلوح في الأفق.