حروب مضاعفة تخوضها النساء في غزة

بعد نحو 8 أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة، لم يتغير الواقع كثيرا، ما زالت وتيرة القتل متصاعدة، وما زال الفلسطينيون/ات عالقين/ات في قلب الفاجعة دون يوم واحد على الأقل يلملمون فيه أحزانهم أو حتى أشلاءهم. عند تصفح الأخبار والتقارير اليومية حول الحرب، نجد الأوصاف عديدة، تارة هي حرب على الأطفال، وتارة حرب على النساء، والحقيقة أنها حرب على كل شيء، حرب حتى على الهواء الذي يمر في سماء غزة، حيث آلة القتل الإسرائيلية تستهدف كل ما هو فلسطيني. تتكثف جرعات الألم والخسارة لدى البعض بطرق تتجاوز بعض الأحيان الموت نفسه، وتترك الحرب خلفها نساء أرامل لم يمر على زواجهن سنة بعد، أكثر من نصفها كان نزوحا وخوفا وموتا، تترك الحرب خلفها نساء فرقن عن عائلاتهن لأشهر في مدينة واحدة يحيط بها شبح القتل اليومي، تنزع الحرب عن النساء خياراتهن وحيواتهن، يصبحن مجبرات على اتخاذ قرارات أحلاها مر. 

في أبريل الماضي، صرحت هيئة الأمم المتحدة "بأن أكثر من 10 آلاف امرأة قتلت في غزة، وأن الناجيات من القصف قد تشردن وأصبحن أرامل ويواجهن المجاعة".

من المؤكد أن هذا الرقم يعطي مؤشرًّا عن مدى تأثير الحرب على النساء الفلسطينيات في غزة، لكن من المؤكد أيضا أنه غير دقيق وغير كافٍ لإيضاح حجم الثمن الذي تدفعه النساء بشكل يومي، شح الأخبار التي تصل من بعض المناطق في غزة تؤكد ذلك، انقطاع الاتصالات والانترنت في فترات عديدة خلال أشهر الحرب يؤكد ذلك، عدم قدرة الجهات الرسمية في غزة على العمل بنفس الطاقة والإمكانيات المعتادة يؤكد ذلك أيضا، حقيقة الحرب المستمرة تؤكد أن الضحايا من النساء أكثر من هذا الرقم بكثير.

نحاول في هذا التقرير أن نستمع لأصوات نساء ما زلن في غزة، يدفعن ثمنًا يوميًّا أو حتى يمكننا وصفه بأنه لحظي، ورغم شبح الحرب الذي يطارد الجميع بلا استثناء، إلا أنَّ تجربة كل سيدة من اللواتي قابلناهنّ كانت خاصة، في ألمها وخسارتها، في قدرتها على التحمل كخيار لا تملك غيره، في أصواتهن المرتجفة التي لم تستطع أخذ قسطٍ من الراحة منذ أشهر، في الخوف من المجهول، وترقب الحاضر وما يحمل، وسؤال واحد يجمع بين النساء اللواتي قابلناهنّ، هل من الممكن أن تنتهي الحرب قريبا؟ ألا يوجد هدنة؟

تقول سهى أبو سعدة (30 عاما) أرملة، فقدت زوجها في الشهر الثالث من الحرب:

"كنا نازحين من الشمال، طلعنا زي ما ناس كتير طلعت، ولادي كانوا خايفين وأنا كنت خايفة، أهلي ساكنين في خان يونس، قررنا نروح عندهم يمكن يكون أمان شوي، حملنا أنا وجوزي شناتي ضهر فيها كل شي قدرنا ناخده معنا، ورحنا مشي زي ما الناس بتمشي، في الطريق كان في ناس تحذر إنه لو وقع منك شي ما تنزل تاخده، ممكن يقنصوك، ما فكرنا انه الوضع سيء لهالدرجة، وقعت شنتة ابني الصغير الي كان حاملها، ضل يبكي ويصرخ بده الشنتة، أبوه نزل يجيبها، ما صار اشي كملنا مشي، بعد شوي ما لقيت غير جوزي بوقع عالأرض بعد ما قنصوه الجنود".

في لحظة كانت تبحث فيها سهى وزوجها عن لحظة أمان لأطفالها، وجدت نفسها وحيدة مع طفلين وزوج مصاب إصابة بليغة حسب وصفها، حسب سهى حاول الناس مساعدتها في سحب زوجها إلى جانب الطريق، لكن رصاص الجنود أصبح في تزايد، خوف سهى على أطفالها جعلها تحتمي في مكان قريب، لتعود لاحقا لزوجها وتجده قد فارق الحياة. تقول سهى "حسيت حالي مشلولة، معاي طفلين، جوزي استشهد، بحاول اتصل في كل الناس، الاتصالات مش شغالة، ولادي مرعوبين، الناس حواليي بتقلي لازم تمشي عشان ولادك".

لم يكن قرارا سهلا، أن تترك سهى شريك حياتها ملقى على الأرض، وتأخذ أولادها وتمشي نحو طريق مجهول، لم يكن بوسعها شيء، سوى أن تنقذ أطفالها من مجهول يتربص بها، مشت سهى مع آخرين حتى وصلت مكانا استطاعت منه أن تجري اتصالا هاتفيا مع أخ زوجها الذي بقي في الشمال لتخبره ما حدث. 

 استطاعت سهى من خلال حملة تبرعات ساعدها فيها بعض الأصدقاء، أن تجمع بضعة آلاف من الدولارات التي تكفي لإرسال أطفالها رفقة زوجة أخيها التي تحمل جواز سفر مصريا إلى مصر، لم تكفِ الأموال التي جمعت لتذهب سهى مع طفليها، لكنها اختارت إرسالهما حتى يطمئن قلبها كما تقول.

بعد أشهر استطاعت سهى أن تجمع الأموال المطلوبة لتسافر وتجتمع مع أطفالها، لكن اقتحام الجيش الإسرائيلي لمعبر رفح وتوقفه عن العمل، وقف حائلا بين سهى وسفرها.

فايزة أبو زايد (35 عاما) تعرفت عليها من خلال الفيسبوك، كانت ترسل لي دوما لتسألني حول نهاية الحرب، وماذا أتوقع؟ ومتى ستنتهي هذه الحرب؟ أطمئن عليها من حين لآخر دون أن أعرف عنها شيء، في إحدى المرات أرسلت لي تسألني حول معرفتي عن توفر أحد أنواع حليب الأطفال في المنطقة التي تسكن فيها، أخبرتها أني سأبحث وأحاول معرفة ما إذا كان متوفر، وبالفعل استطعت أنا وبعض الأصدقاء أن نوفر لها الحليب، وبعض الاحتياجات الاخرى.

عرفت لاحقا من خلال أحاديثنا المتقطعة، أن فايزة مطلقة ولديها طفل صغير يحتاج حليبًا معينًا ولا يقبل غيره، ومنذ بدء الحرب توقف طليقها عن إرسال النفقة لها، ولم يعد لديها أي مال لتلبي احتياجاتها واحتياجات طفلها.

تقول فايزة :

"النفقة الي كنت أخدها قبل الحرب كانت يا دوب تكفي، ومع الحرب انقطعت وما في جهة اتوجهلها، طليقي مقتدر ماليا، بس بتحجج في الحرب، ما في حدا احكي معه، لولا إني نازحة مع اختي وجوزها وناس كتير، كان يمكن ما لقيت اللقمة، بس مع لمة الناس بيوصلني أحيانا مساعدة أو اشي، أنا خايفة على ابني، وما بعرف من وين بدي اجبله الحليب لو انقطع أو بطل حدا يساعدني".

القمع الأبوي لا يتوقف في الحرب، بل إن السلطة والأذى الذي يمارسه البعض تزداد شدته مع الحرب، هذا حالة فايزة مع طليقها الذي يمتنع عن تسديد نفقتها الشهرية، أو مساعدتها بأي شكل كان، رغم أنها تحتضن طفلهما. لا نفاذ اليوم للجهات القانونية في ظل وطأة الحرب وتصاعدها المستمر، لا شرطة ولا قانون من الممكن أن ينصف فايزة وغيرها من النساء اللواتي يتحملن مسؤوليات نجاتهن ونجاة أطفالهن.

كل التقارير والتصريحات التي تصدر عن مؤسسات دولية تتابع الحرب وتحدث تقاريرها بشكل دوري، لا يمكنها أن تقدم أي شيء لامرأة فلسطينية في غزة، تعاني بشكل لا ينقطع، ليس انحيازا، لكن الحقيقة واضحة، والأسئلة تطارد عقول النساء منذ اللحظة الأولى لوقوع الحرب، أين سنستحم؟ كيف سنرضع أطفالنا؟ كيف سنتعامل مع آلام الدورة الشهرية؟ من أين سنحصل على فوط صحية؟ كيف سنتحمل الحرارة في الخيم؟ تلك الحرارة المصحوبة بانتشار الحشرات والزواحف، ناهيك عما واجهته النساء في غزة خلال اعتقالهن من تنكيل وتعذيب، وتحرش واعتداء جنسي.

والحقيقة أن الأسئلة لا تبدأ من احتياجهن الشخصي، بل تبدأ من مكان آخر وهو أطفالهن، كيف سيطعمن أطفالهن؟ هل سيكفي الطعام؟ كيف سيسيطرن على أطفالهن وهم يبكون ويصرخون؟ كيف سيحمين أطفالهن؟ ماذا عن أفراد العائلة الآخرين؟

هذه الحرب المستعرة منذ السابع من أكتوبر استهدفت كل شيء حي في الفلسطينيين في غزة، وقد تكون أماتت الكثير في داخلهم، الكثير من الأسئلة مؤجلة، والكثير من الدموع محبوسة، والكثير من الأمل يحكم الفلسطينيين هناك لعل شيئا يحدث وتتوقف آلة الحرب الإسرائيلية ليلملم الكل الفلسطيني نفسه ويجد متسعا صغيرا على الأقل للحزن والبكاء.


أنتجت هذه المادة بدعم من “الأكاديمية البديلة للصحافة العربية” التي تشرف عليها فبراير، شبكة المؤسسات الإعلامية العربية. المستقلة وينشر بالتعاون مع “فارءه معاي - المنصة الإعلامية العربية المستقلة.

الصورة: للمصوّر عبد الرحمن زقوت.

ريهام المقادمة

صحفية وباحثة فلسطينية

رأيك يهمنا