نعمت "مينوش" شفيق وسطحية التمثيل

 يتابع الكثير منّا وفي أنحاء العالم تجليّات الاحتجاجات العالمية لوقف الإبادة في غزة، ولعلّ أبرزها الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية ونظيراتها في سائر أنحاء العالم. ومما يستدعي الانتباه والتفكّر كذلك هو ردود الفعل المؤسساتية للمدّ الاحتجاجي، من استمرار تواطئ الحكومات مع الإبادة، توحّش وقمع شرطوي وتسكيت الاحتجاجات. وذلك تحديدًا عندما يتعلّق الأمر بقمع الاحتجاج السياسي في مؤسسات تقليدية كالجامعات الأمريكية العريقة، والتي تعتبر من أعمدة الحكم هناك، إذ لها باعٍ طويل في تنشئة أجيال عديدة أكاديميًا، سياسيًا ومجتمعيًا، لكن في ذات الوقت لها أيضًا باعٍ طويل في الاستثمار والتعاون مع أنظمة وشركات عسكرية إسرائيلية، وتمويل لرأس مال يدعم الآلية العسكرية الإسرائيلية لم يتم الكشف عن حجمه ومقداره بعد. 

إحدى أبرز الجامعات التي قمعت الاعتصامات الطلابية المطالِبة بوقف التعاون مع المنظومة العسكرية الإسرائيلية كانت جامعة كولومبيا في نيويورك، واحدة من أهم مراكز الأبحاث في العالم، والتي ترأسها منذ عام 2023، نعمت "مينوش" شفيق، امرأة من أصول عربية وهي أول امرأة تتولى هذا المنصب منذ تأسيس الجامعة عام 1754. للوهلة الأولى يبدو أن تولّي شفيق لهذا المنصب هو بمثابة قفزة نوعية من أجل تحقيق المساواة في التمثيل، يتم تعليق آمال كثيرة على تعيينات كهذه بسبب كسر السقف الزجاجيّ لانخراط النساء في مواقع صنع القرار.

لكن برز اسم شفيق مؤخرًا ليس لمناصرتها لقضية عادلة أو إسماعًا لصوتها نصرًا للعدل، بل بعد استدعائها لشرطة نيويورك لاعتقال الطلاب المحتجين داخل الحرم الجامعي، خطوة لم تقم بها الجامعات الأمريكية منذ الاحتجاجات الطلابية ضد الحرب الأمريكية على فيتنام.

يتوقّع، بل وينادي البعض لتولّي نساء، خصوصًا نساء من خلفيات عرقية، إثنية وثقافية غير بيضاء لمناصب عليا ولمواقع صنع قرار. وهو مطلب وجبت مراعاته والعمل به، نلمس أهميته عندما لا تحظى نساء مؤهلة بفرص متكافئة تتلاءم وقدراتها في كلّ المجالات، في السياسة، في سوق العمل، في الأكاديميا وغيرها.  

لكن توجّب علينا في هذه المرحلة التاريخية طرح أسئلة حول جدوى التمثيل، أي بما هو أعمق من ملء الخانات فحسب. لأن المطالبة السطحية بتولّي نساء وأشخاص من خلفيات مختلفة مناصب لا يقضي بالضرورة إلى تقليص فجوات، تمثيل لائق ورافعة لصوت المهمّشين والمستضعفين، بل يمكن أن يؤدي إلى تعميق عدم المساواة، ولعلّ تداعياته أسوأ من عدم التمثيل. شفيق، على سبيل المثال لا الحصر، متواطئة في خدمة السلطة وفي الانخراط في مناصب لمؤسسات هي جزءٌ لا يتجزأ من أنظمة توصف على أنها الأذرع لتعزيز عدم المساواة الاقتصادية في العالم، وتحديدًا بما يسمى بالدول "النامية"، كالبنك الدولي حيث شغلت منصب نائب رئيس لعدة سنوات وكانت أصغر نائب مدير للبنك في تاريخه، وكذلك كانت عضوًا في صندوق النقد الدولي حتى أن ملكة بريطانيا كانت قد منحتها العضوية الدائمة في مجلس اللوردات البريطانية ولقب "بارونة".

شفيق لم تستخدم نفوذها دعمًا للاحتجاجات العادلة دعمًا لفلسطين، بل إضافة إلى استدعائها للشرطة كانت قد استخدمت في خطابها في الكونغرس الأمريكي ادعاء معاداة السامية لنزع الشرعية عن الاحتجاجات الداعمة للقضية الفلسطينية والمطالبة بوقف إطلاق النار التي يقوم بها طلاب جامعة كولومبيا والجامعات الأخرى.  

أي أن عِوضًا من أن تبدي شفيق موقفًا إنسانيًا لا لُبس فيه بوقف معاناة ملايين الفلسطينيين التي تتمّ إبادتهم بأسلحة تمّ تطويرها بمساهمة من الجامعة التي ترأسها، قامت شفيق باللجوء لأعنف الجهات القمعية، لشرطة نيويورك ذات الصيت العنيف والعنصري لقمع الاحتجاجات وتسكيت المحتجين بوصمهم معادين للسامية، ونحن نعلم كيف يتمّ استخدام هذا الادعاء لإبطال كلّ نقد شرعي على الجرائم الإسرائيلية.

ليس فيما أقوله اتهامٌ لشفيق بأن كونها من خلفية غير بيضاء إذًا فهي بالضرورة داعمة للقمع، لكن هي دعوة للتفكّر في جدوى ومفاهيم التمثيل، وفي الوَكالة الشخصية لكلّ شخص فيما إذا كانت حقًا رافعة لصوت المهمّشين نتيجة لهيمنة النظام العالمي أو نظام الحكم السائد وتحديًا له، أم كانت ذراعًا من أذرعه الممتدّة والمتواطئة معه.

كما ذكرت آنفًا، إن مثال شفيق هو غير حصري، إذ لا ينقص أمثلة من أرجاء العالم ومن واقعنا المحلّي في البلاد لنساء ورجال ممّن يتبوأون المناصب ويُحتفى به على أنهم "أول عربي يشغل المنصب" هذا و"أول امرأة عربية تشغل المنصب" ذاك وما إلى ذلك من هويات أو مناصب. حيث للأسف يكون فيها التمثيل سطحيًّا لا يخدم سوى المصالح الشخصية للفرد بتحقيق "نجاح" باهر في الانخراط في المناصب أو خدمة لمصالح المجموعة المهيمنة.

لا تخفى عليّ مخاطر الملاحقة ولا الخوف من خسارة "لقمة العيش"، لكن لا بدّ من مساءلة المنتفعين والمنتفعات ممّن لا يجرؤون على تحدّي الظلم بكل ما يملكون من قدرة، مهارة وقوّة ورفع صوتهم. وإن لم يكن باستطاعتهم قلب الموازين كلّها وهو أمر لا يمكن تحقيقه بخطوة واحدة، إلا أنه لا يمكن الاحتفاء بالتمثيل السطحي وتبرير المناصب في كلّ ثمن.

ما بين كسر السقف الزجاجي ومسألة شحّ التمثيل في مواقع صنع القرار، تقع فوّهة أخلاقية لا تستثني منها أحدًا. وكما قال الحديث النبوي الشريف "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". لذلك لا بدّ من تحية لكل أولئك الأشخاص، بغضّ النظر عن تصنيفاتهم العرقية والجندرية، عن مناصبهم ومراتبهم، عن شهرتهم ومكانتهم ممّن يرفعون ويرفعن صوت العدل لفلسطين ولمضطهدي العالم أجمعين، بذلك لا يكسرون السقف الزجاجي فحسب بل يساهمون في قلب الموازين العالمية كلّها، وهو ما علينا القيام به.


الصورة: من موقع جامعة كولومبيا -نيويورك.

شذى عامر

محامية وناشطة مجتمعية ونسوية 

سلافه
رائع اصبت في نقدك
السبت 1 حزيران 2024
Abeer Sliman-Sawaed
مقال غني شكرا شذى
الأحد 2 حزيران 2024
نجوان عراقي
لمثلكن تنحني القبعات جزيل الشكر والثناء على هيك مقالة عزيزتي شذى
الأحد 2 حزيران 2024
رأيك يهمنا