المَجاعَة المُدَبَّرَة في غَزّة: "الصَوْت" والصُورَة!

حين كنتُ أَتحدّث مع صديقتي دُعاء في غزة، خَطَر في بالي أن أَسأَلها أيّ أصوات الطائرات أكثر إزعاجًا لها، ثُم أُعقِبُها بخيارات للجواب: هَل هو صوت طائرة الأباتشي، الزنّانة، الكواد كابتر؟

قالت: وَلَا واحدة مِن هذه الأصوات، هناك صَوت آخر، هو صوت الطائرة الّتي تُلقي المناطيد فوق رؤوسنا، لأنّها تذكّرني بأنني يجب أن أَركض وأَركض حتى أَبقى على قَيد الحياة، إنها تذكّرني بالإهانة والذُّل.

بهذا القَول كانت دعاء تنقُلُنا من صوت طائرات المَوت التي يَقَع اختصاصها ضمن دائرة القَتْل عَبر الصواريخ والرَصْد، إلى صوت الإهانة والذلّ المُرتَبط بطائرات المساعَدات، التي تُسرّب إليك قولًا داخليًا مفادُه بأنّك يجب أن تَركض فيما يتردّد صدى جوع أطفالك إلى أذنيك.

هنا، لا تتعلّق الإبادة بالموت أشلاءً بفِعل القتل فقط، تُعطينا هذه الرواية أَحَد أهمّ أنماط الإبادة، وهي المَجاعة، فنَسمع من خلال هذه الرواية صَوتَ المَجاعة، إذ ترتبط المَجاعة بالذلّ والإهانة شَرطًا للبقاء.

ذكّرني صوت الطائرة التي تُلقي المَناطيد فوق رؤوس الناس في غزة، بالمجاعة التي وَقَعت في المَغرب في أوساط الأربعينات من القرن الماضي، وسُمّيت بمجاعة القسيمة الشرائيّة، ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تَنهب موارِد المغرب كانت تَمنح بعض الناس قسيمة شرائيّة تحتوي على بعض اللُّقيمات، لم تَمنع هذه القسيمة الشرائيّة وفاة 300 ألف مغربي في هذه المَجاعة، وكَذا هذه المساعدات التي تقّدم لغزة لن تمنع وفاة الكثيرين من أهلها، فيما يُعاني أكثر من 90% من سوء التّغذية. إنّ هذا الوجه "التّضامني" للعالم ضدّ المَجاعة إنّما هو صوت المَجاعة، إنّه التّذكير بالمجاعة المُصطَنَعة، التي كانت  ولا تزال إحدى أهم تقنيات الإبادة التي اصطَنَعتها إسرائيل في غزة تجسيدًا لما  أعلن عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وقال: "لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كلّ شيء مغلق".[1] 

يُعرّف كورت جوناسون في مقالته “Famine, Genocide, and Refugees” المجاعة بأنها حَمَلات مُخطَّطة ضدّ الضحايا، ولا تَحْدث بسبب الكوارث الطبيعيّة، مشيرًا إلى أن معظم الأدبيّات تعزو سبب المجاعات للأحداث الطبيعيّة، إلا أن معظم المَجاعات المُعاصِرة هي نتيجة حملات مخطَّطة ضدّ مجموعات الضَحايا. فهي تسمَح للجُناة بإخفاء دوافعهم الحقيقيّة وراء كارثة طبيعيّة ظاهريّة، نظرًا لأنها لا تتطلّب تكنولوجيا متقدّمة أو بيروقراطية متطوّرة، كما أنها تُضعف الضحايا جسديًا، مما يقلّل من مقاومتهم الأوبئةَ، في حين أنها تقوّض معنوياتهم وقُدرتهم على المقاومة. وفي النهاية، تؤدي إلى المَوت، وبهذا المعنى، نَفْهم كيف أن المَجاعَة المُصطَنعة كانت أَحَد أَهمّ تقنيّات الإبادة في غزة التي جسّدت المَوت الأقلّ كُلفة، الموت غير المباشر الذي لا يتطلّب الكثير مِن الجُناة ويُمكن إخفاء معالم هذه الجرائم: "لقد ماتوا بسبب الجوع، صواريخنا بريئة منهم".

وأثناء ذلك، حاولت العائلات خَلق مُبادرات على الأرض للنّجاة من هذا المَوت، كان من أهمها "التكيات"، التي أَخَذت تنتشر في قطاع غزة في الحرب، تتحدّث رشا النجار (نازحة من غزة) عن هذه التكيات بالقول:

 "في ظلّ الحرب الجماعيّة التي تُلاحقنا أينما ذهبنا، إلا أنّنا نغيث أنفسنا، نريد أن نعيش، واقفين مع بعضنا، هناك مبادرات لعمل تكيات الطعام، صحيح أن هذه التكيات لا تستطيع أن تقوم بمهمة إطعام كلّ الناس، لكنّها تقدّم وتعمل تحت شعار أننا يجب أَلّا نموت جوعًا" (النجار، 2024).

توضح رشا كيف يَعمَل الأفراد على تحقيق نجاتهم من الموت جوعًا، عبر إنشاء التكيات التي تقوم على إعداد المتطوعين طعامًا وتوزيعه على النازحين.

في تقرير بعنوان "تكايا الطعام، مشاريع تطوعيّة لإطعام نازحي الحرب في غزة وسدّ جوع الأطفال بإمكانيات بسيطة"، يتحدث أشرف الهور عن مبادرة تكية الطعام التي أقامتها مجموعة من المتطوّعين في مركز إيواء للنازحين من الحرب على غزة 2024، حيث اصطف الأطفال والنساء والشباب لأَخذ وجبة فاصولياء أعدتها مجموعة من المتطوعين. ما يتحدث عنه هذا التقرير هو أنّ هذه التكية ليس لها مكان محدّد، فهي تتنقّل من منطقة إلى أخرى، من مراكز الإيوء إلى الساحات العامة، إلى معسكَرات النازحين، ويضيف التقرير أنه على الرغم من المشقّة الناتجة عن عدم توفر الغاز ووسائل الطهي، فإن أحدًا من هؤلاء المتطوّعين لم يَشْتَك من هذا التعب، بل على العكس قاموا بتوفير وجبات لـ 2500 شخص (“تكايا الطعام”.. مشاريع تطوّعية لإطعام نازحي الحرب في غزة وسدّ جوع الأطفال بإمكانيات بسيطة- (صور وفيديوهات)، 2024).

وفي ظلّ المجاعة المُصطنَعة، التي يجسّدها إعلان غالانت، تُشكّل مِثل هذه المساحات فرصة تُساعد في توفير وجبات من الطعام؛ لا أقول إن هذه المساحات أوقفت المجاعة وتصدّت لها- وهو موضوع آخر- وإنما مَثَّلت مبادرات إبداعيّة قادها الناس في مناطقهم ليس لإشباع أطفالهم، وإنما لسدّ جوعهم، بما يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة.


[1]  غزة بدون ماء ولا كهرباء ولا غذاء: ما موقف القانون الدولي؟، أخبار BBC، بتاريخ 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تم الاطلاع بتاريخ 14 كانون الثاني/ يناير 2025، المصدر، https://bit.ly/40xxPhx.

الصورة: للزميل المصوّر عبد الرحمن زقوت.

نور بدر

باحثة وكاتبة فلسطينية، تهتم بتفكيك القهر النسوي في سوسيولوجيا الحياة اليومية تحت الاستعمار الإسرائيلي

رأيك يهمنا