أهالي الجولان المحتل يعيشون "حياة طبيعية" بين الألغام الأرضية

تشكل الأراضي الزراعية والحرجية في مرتفعات الجولان بين سوريا وإسرائيل مصدراً لأعداد كبيرة من الألغام الأرضية. تم زرع هذه الألغام خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، إبان الحرب العربية ـ الإسرائيلية عام 1973. ومنذ ذلك الحين، تشكل هذه الألغام عائقاً كبيراً أمام تحرير الأراضي المحتلة في هذه المنطقة.

منذ نهاية الحرب المذكورة، تم زرع حوالي 18 مليون لغم أرضي في هذه المنطقة، مما يجعلها واحدة من أكثر الأراضي الملغومة في العالم. ولسوء الحظ، تم وضع هذه الألغام بشكل عشوائي ودون معرفة مسبقة بالأماكن التي تم زرعها فيها، مما يجعل من الصعب تحديد مواقعها وإزالتها بشكل آمن.

وعلى الرغم من أن إسرائيل قد بدأت بإزالة الألغام في عام 2011، إلا أن هذه العملية تستغرق وقتاً طويلاً، حيث تتم إزالة حوالي 15,000 لغم أرضي سنوياً فقط. ولسوء الحظ، لا تزال هذه الألغام تشكل تهديداً حقيقياً على المدنيين في المنطقة، إذ يتعرض العديد منهم لإصابات خطيرة وحتى الوفاة بسبب الألغام المزروعة في هذه المنطقة.

يُعَدُّ الجولان المحتل من قِبَل إسرائيل والموجود على الحدود السورية - الإسرائيلية، منطقة نزاعٍ منذ العام 1948. احتلَّت إسرائيل الجولان السوري خلال حربِ العام 1967، ما أدَّى إلى تشريدِ العديد من السوريين.

لا تزالُ حقول الألغام هذه تصعّب استخدامِ وتطويرِ الأراضي ومصادرِها. يواجهُ الكثير من سكان الجولان المحتل صعوباتٍ اقتصاديةً، نتيجةَ اعتمادِ معيشتِهم على المحاصيل الزراعيةِ وتربية المواشي. ويتجنَّبُ السكَّانُ بعضَ المناطق خوفاً من الألغام المزروعة، حيثُ يزرع بعضُها مباشرةً قرب المنازل والمدارس والشوارع. ولغاية اليوم هنالك حقول ألغام داخل المناطق السكنية في قرى الجولان.

الجولان المحتل هو منطقةٌ جبليةٌ وتتسبَّبُ الأمطارُ وعوامل الطقس والجرف بتحرُّك الألغام من أماكنها الأصليةِ إلى مناطق أخرى.

الحادث الأخير من بين الحوادث الناتجة عن الألغام في الجولان المحتل وقع في السادس من حزيران عام 2001 في منطقة عين الحمرا وأسفر عن قتل راعٍ يبلغ من العمر 73 عامًا في قرية بقعاتا، وهي المنطقة نفسها التي قُتل فيها ابنه وأصيب آخر بجروح عام 1977 جراء الألغام الأرضية.

وتفيد المعلومات غير الرسمية ان أكثر من 60 شخصًا من عرب الجولان المحتل وقعوا ضحايا انفجار الألغام الأرضية بين عاميّ 1967 و1999، توفي منهم 16 شخصًا وأصيب نحو 50 آخرين.

وكان لمنصة "فارءه معاي" حديث مع سلمان فخر الدين (70 عاما)، وهو من أبرز الشخصيات الوطنية وصوت أعلامي بارز في التعبير عن قضية الجولان وناشط سياسي كرس حياته للعمل الوطني، من سكان بلدة مجدل شمس في الجولان المحتل، أجرى بحثاً حول الألغام الأرضية في الجولان، وبضمنه محاولات لإحصاء عدد الضحايا والمتضررين من الألغام، وأعد فيلمًا وثائقيًا عن الألغام الأرضية كمحاولة منه لرفع الوعي والضغط على حكومة إسرائيل لإزالة الألغام.

سلمان فخر الدين

يقول فخر الدين إن إسرائيل انضمت مؤخرًا إلى ما يسمى "إعلان أوتوا" لمناهضة الألغام والقنابل العنقودية وحظر استعمالها ونقلها وتخزينها. وتطالب الدول المشاركة في المعاهدة بتحمل مسؤولياتها والعمل على إزالة الألغام. وأضاف فخر الدين إن الألغام الأرضية كانت سبباً في انسحاب إسرائيل بشكل أحادي من جنوب لبنان عام 2005.

وعن مواقع هذه الألغام قال فخر الدين: "نظريًا، ينبغي أن تكون هنالك خرائط واضحة لمواقع هذه الألغام وهي لا تزرع بشكل عشوائي، عادة، إلا في جنوب لبنان – كما ذكرت - كانت تلك حالة استثنائية. في الجولان هنالك نوعان من الألغام، قلة منها موجودة على خط الرابع من حزيران، وهي قليلة كما ذكرت، لأن الجيش السوري لم يكن "مولعا" بزرع الألغام أولًا لأنهم أصحاب البلاد، وثانيًا لأن الحدود قريبة جدًا من المناطق السكنية ووجود الألغام يضيق على معيشة السكان. أما الألغام من النوع الثاني فتنتشر من شمال الجولان إلى جنوبه، وهي ألغام زرعها الجيش الإسرائيلي. تغطي الألغام في الجولان المحتل مساحات تقدر بأكثر من 75 الف دونم[1]، ما يعادل 6% من مساحته الكلية، ويبلغ عدد حقول الألغام ما يقارب 2,000 حقل."

ويصف فخر الدين عملية زرع الألغام بأنها واحدة من تفاهات الحرب العالمية الأولى، التي لا زالت راسخة في الفكر العسكري التقليدي حتى اليوم، رغم أن فكرة زرع الألغام لم تعد ذات فاعلية بقدر ما هي مصلحة اقتصادية لمنتجيها، وهي عادة ما تصيب الأبرياء من محبي الاستطلاع أو المواشي.

وحول ما إذا كانت هذه الألغام ظاهرة للعيان ويمكن تفاديها، قال فخر الدين إن السبيل الوحيد للاحتراس من الألغام هو عدم الدخول والتوغل في حقول الألغام، لأن انتشار الألغام فيها هو بمعدل لغم واحد على الأقل في كل أربعة أمتار مربعة، وهذه الحقول غالبًا ما تكون محاصرة بأسلاك شائكة مع علامات واضحة من كل الاتجاهات، بقصد منع الدخول العفوي للأبرياء.

لكنهم في إسرائيل لا يحرصون على هذه القواعد، لأن المؤسسة الأمنية فوق القانون ولا أحد يحاسبها، فضلًا عن أن معظم المواطنين الذين يتعرضون لخطر الألغام هم من العرب. ومن حسن حظنا – وإن كنت لا أشمت بأحد، بل ربّ ضارة نافعة – فقد شاءت الأقدار أن عائلة يهودية كانت تتنزه في المنطقة بعد أن هطلت الثلوج على الجولان، تسبب انفجار لغم بإصابة بالغة لصبي يهودي، كان والده محامياً. وقد أثار المحامي ضجة كبيرة على مستوى البلاد، وكان هذا الطفل بمثابة "المخلّص" لنا جميعاً. فتلك الحادثة شكلت في حينه ضغطًا على حكومة إسرائيل للانضمام الى معاهدة نزع الألغام. ومن المفارقات أنه حين كان المصابون عرباً، ليس فقط لم تثر ضجة إعلامية، بل رفضت المؤسسة الأمنية تحمل المسؤولية عن إصابتهم، وفي بعض الحالات لم يكن هنالك تحقيق في الحادثة".

وأخيراً، قال فخر الدين إن معظم الذين أصيبوا من جرّاء انفجار الألغام كانوا رعاة من صغار السن (الأطفال حتى سن 12 عاماً) وكانت العائلات تعتمد في معيشتها على الزراعة وتربية المواشي ومهمة رعاية الأغنام تقع على عاتق الأبناء الصغار. ويذكر فخر الدين حادثة تعرض لها مواطن من قرية بقعاثا في الجولان، أصيب في انفجار لغم. وحين وصلت قوة عسكرية لإنقاذه تعرضت المركبة العسكرية للغم أودى بحياة أحد الجنود الإسرائيليين.

مفيد عبد الولي (63 عاما) من قرية "سحيتا" المحتلة والمهجرة في الجولان، والذي لجأ مع عائلته عام 1970 الى بقعاثا، هو واحد من ضحايا الألغام الأرضة، التي أدت إلى فقدانه جزءًا من يده اليمنى حين كان طفلًا في الثالثة عشرة من عمره. يقول عبد الولي في حديث لمنصة "فارءه معاي" إن هنالك حقول ألغام منتشرة بين الأراضي الزراعية التي يملكها سكان هضبة الجولان، وفي محيط بعض هذه الحقول تآكلت الأسلاك الشائكة بفعل العامل الزمني والعوامل الطبيعية، لذلك أصبحت هذه الحقول تشكل خطرًا على حياة الناس والمواشي وكل من يدخل إليها، عمدًا أو عن غير قصد.

مفيد عبد الولي

ويؤكد عبد الولي أن بعض هذه الألغام تنفجر من تلقاء نفسها بسبب تلف أصابها، وبعضها تغيرت مواقعها بسبب السيول والجرف وعوامل الطقس لذلك فإن الخطر غير بعيد، حتى لو أنك لم تدخل إلى حقل الألغام فقد تتواجد هذه الألغام خارج إطار الأسلاك الشائكة.

ويضيف أن عملية إزالة الألغام تحتاج الى جهد كبير وأن اسرائيل قامت بتنظيف منطقة "الجمرك" نظرًا لبعدها عن خط وقف إطلاق النار، وهي تقيم اليوم مشروعاً سياحياً عليها. أما في الجانب الإسرائيلي، فقد بدأت عملية لإزالة الألغام في العام 2011 لكن ما زال الآلاف منها يشكل خطرًا على سلامة المتنزهين.

وعن إصابته روى مفيد عبد الولي أنه حين كان طفلاً في الثالثة عشرة من عمره، في العام 1973 تحديداً، أثار اهتمامه صاعق لغم (جزء من مخلفات الوحدة الهندسية التابعة للجيش السوري) كان ملقى على الأرض، في منطقة "الرحبة" قرب بقعاثا، فحمله وراح يعبث به ويتفحّصه فانفجر الصاعق في يده مما أدى الى فقدانه راحة اليد وبضع سنتيمترات من منطقة الرسغ.

يقول مفيد إنه ليست هنالك جهة رسمية توثق حالات ومعدلات الإصابات السنوية نتيجة الألغام الأرضية ويضيف: "نحن كالأيتام على موائد اللئام، لكن المعلومات غير الرسمية التي نعرفها نحن تشير إلى أنه بين السبعينات والتسعينات سُجلت أكثر من 100 إصابة تسببت ببتر أطراف وإعاقات وبعضها انتهى بالموت، وهي نسبة عالية جدًا بالنظر إلى عدد السكان في هضبة الجولان.

صالح أبو عرار (54 عاما) من بلدة مجدل شمس في الجولان المحتل، هو أحد أبرز المتضررين من حقول الألغام، حتى أصبح اسمه رمزًا لموضوع الألغام الأرضية ومخاطرها، بحيث لا تجد أحداً من سكان الجولان لا يعرف أو لم يسمع بقصة أبو عرار الذي فقد يده وإحدى ساقيه وعينه في انفجار لغم من مخلفات الجيش في العام 1982.

صالح أبو عرار

في حديث له مع منصة "فارءه معاي" قال أبو عرار: "حين كنت في الثانية عشرة من عمري، وكنت طالبًا في المرحلة الابتدائية، أذكر أنه كان هنالك إضراب في الجولان احتجاجاً على فرض الهوية الإسرائيلية على سكانه. وقد وجدت أنا وأصدقائي فرصة للخروج إلى الطبيعة مع الأصدقاء نرعى الأغنام ونلهو معاً".

وأضاف: "في أطراف القرية وعلى مقربة من بيوتها عثرت على ما يشبه العلبة، ولم أكن أدرك ما هو هذا الجسم غير المألوف لنا، وكان يبدو أن هذه العلبة قد تدحرجت من فوق تلة مجاورة بفعل الجرف والسيول، وكان في قمة التلة معسكر للجيش. وما أن حملت "العلبة" وبدأت أعبث بها حتى جاء الانفجار، ولم أعد أرى من حولي إلا اللون الأسود قبل أن أغيب عن الوعي ثم لأستيقظ لاحقاً فأجد نفسي في مستشفى "رمبام" في مدينة حيفا وأنا مبتور اليد والساق وفاقد عيني اليمنى".

كما أصيب في الانفجار أحد أصدقاء أبو عرار، من الأطفال الذين كانوا يرافقونه، لكن اصابته كانت طفيفة نتيجة شظايا اللغم.

ويقول أبو عرار انه بعد أن تم تسريحه من المستشفى، تقدم بدعوى قضائية محملًا الجيش الإسرائيلي المسؤولية عن إصابته، إلا أن دعواه رُفضت. وقدم محاميه استئنافًا إلى المحكمة العليا التي قامت بدورها برد الاستئناف مدعية بأن اللغم الذي انفجر هو من مخلفات الجيش السوري، متجاهلة مسؤولية الجيش عن المناطق التي احتلها بكل ما فيها، ولم يحصل على أية تعويضات من الدولة حتى لا تصبح هذه سابقة قضائية يستفيد منها كل الذين أصيبوا بالألغام.


الاحالات:

  1. פסולת נפיצה, דו״ח מצב על שדות מוקשים בישראל וברשות הפלסטינית, (survivor corps, (2010, עמ׳ 11

زكريا حسن

صحافي، ورئيس تحرير صحيفة "حديث الناس" ومقدم بودكاست "ما ورائيات"

شاركونا رأيكن.م