أجساد النساء ساحة حرب أخرى

لا أعلم إن كانت معاناة النساء في الحروب مضاعفة، لكنني أعرف أن هناك معاناة لا تعرفها إلا النساء فقط لكونهن نساء. "أن تكون امرأةً في صراع مسلّح ربما هو أخطر من أن تكون جنديّا"، يقول باتريك كاميرت القائد السابق لشعبة الأمم المتحدة لشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية واصفًا ما تتعرض له النساء في زمن الحروب والصراعات.

إن عُدنا إلى تاريخ الحروب على مدار العصور نجد أنّ أجساد النساء كانت دائمًا مستباحة، فقد ذُكر في كتاب "تقاليد الحرب" لشيشرون أن انتزاع ثروات وممتلكات العدو في العصر الأوروبي ما قبل الحديث اعتبر سببًا منطقيًا للحرب ومن ضمن هذه الممتلكات "النساء".

مخيمات الاغتصاب الجماعي

عام 1995 قام الجيش الصربي بقيادة "رادكو ملاديتش" في سربرنيتسا بفصل النساء والأطفال تحت سن الـ 14 عن الرجال، وقد تم جمع هؤلاء النسوة برفقة الأطفال في باصات جماعية بحجّة نقلهن إلى محلات آمنة، والحقيقة أنّ هذه الباصات كانت متّجهة إلى مخيمات الاغتصاب الجماعي. وفقًا للمنظمات الحقوقية وشهادات الأمم المتحدة وأهالي المفقودين تم اغتصاب النساء على مدار أربعة أيام ونتيجة لهذه الجريمة تراوحت حالات الاغتصاب بين 5000 إلى 12 ألف حالة من بينهن أكثر من 3000 حالة حمل نتيجة للاغتصاب المتكرر. المروّع أكثر في هذا الأمر أنّ هذه الاغتصابات حصلت بدافع قومي لإجبار النساء على الحمل بأطفال صرب.

الاغتصاب كأداة حرب عصرية

"هل يجوز الانتحار لأحمي نفسي من الاغتصاب؟!" كانت هذه رسالة موجهة من فتاة سودانية إلى أحد الشيوخ بعد أن رأت أنّ الموت مهرب وحيد في ظل ما يحدث. فتيات أخريات سألن عن حبوب منع الحمل أو حبوب الإجهاض، هذه الحالات ليست قديمة بل تحصل الآن وربما في هذه اللحظة الّتي أكتب فيها عنها. منذ نيسان 2023 يشهد السودان صراعًا مسلّحًا بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، أدّى هذا الصراع إلى واحدة من أكبر المجاعات في العالم ونزوح أكثر من 90 ألف سوداني. إضافةً إلى انتهاكات وحشية تتعرض لها النساء السودانيات، حيث تشير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إلى أنّ هذه الانتهاكات كانت الأبرز بحيث تعرّضت النساء لاعتداءات وصلت حد الاغتصاب على يد ميليشيات الدعم السريع.

والسؤال الّذي يطرح نفسه: "هل كنّا سنشهد هذا التواطؤ لو كنّ نساء شقراوات وذوات أعين زرقاء؟"

يقول الناشط السوداني أمجد النور: "إنّ الرجل في حالات معيّنة فضّل قتل نساء بيته قبل دخول قوات الدعم السريع إلى منزله"، هذا ما يُذكرني بما حدثتني به صديقتي حول شهادة جدّتها عن النكبة، تقول إنّ العائلات الفلسطينية آنذاك فضّلت موت الفتيات على أن يتم اغتصابهن من قبل الجنود البريطانيين.

انتهاك بحق النساء الفلسطينيات ما بين نكبة ال 48 ونكبة اليوم

شاهدنا صورًا عديدة التقطها جنود إسرائيليون في غزة حاملين بأيديهم ملابس نسائية خاصة، محاولين عبر هذه الصور مسّ الفلسطيني والانتقام منه. أخيرًا نشر جندي إسرائيلي صورة له يحمل بيده صورة لامرأة غزيّة حصل عليها من أحد المنازل، كتب تحتها: "المشاكسة فاطمة قرّرت أن تُرسل لي بطاقة بريدية بشأن الحرب".

هذا الأسلوب المستخدم لإذلال الفلسطيني والضغط عليه ليس وليد اليوم ولا بنيّة الانتقام فقط، بل هي أداة استخدمتها كذلك القوات الصهيونية في النكبة عام 1948، في الفيلم الوثائقي "الطنطورة" اعترف أحد مقاتلي لواء إسكندروني باغتصابه فتاة تبلغ من العمر ستة عشرَ عامًا تقريبًا.

تقول الناشطة نور عاشور من قطاع غزة بعد انتشار خبر اغتصاب النساء في ساحة مستشفى الشفاء في آذار الأخير:"إنّ موضوع اغتصاب النساء الفلسطينيات في هذه الحرب ليس بجديد، فقد سمعت منذ بداية الحرب على القطاع شهادات عديدة تحوي الكثير من الإهانة، ولأنّنا مجتمع شرقي ومحافظ لا توجد أي امرأة مستعدة أن تُصرّح بما حصل معها، فلن يرحمها أحد ولأنّ سمعتها وسمعة أهلها ستضرّر، تُفضّل الصمت".

تقول نور: "إنّ الخالة نسرين عباس وهي أسيرة محررة كانت الوحيدة المستعدة لكشف ما حصل معها للعلن"، قائلة لها :"مش مهم يا خالتي، خلّي العالم يسمع!". 

وفقًا لشهادتها، أُجبرت نسرين عباس على خلع ملابسها، بعد أن قالت للجنود: "أنا محترمة وعلى باب الله، شو بدكم مني؟! ولكن كان جوابهم لها: "عشانك محترمة طول عمرك، بدنا نخلي الكل يشوفك هيك، بهذا الشكل". 

في مقابلة أجريتها مع محمد السيّد أخصائي نفسي تعامل مع الناجيات السوريّات، يقول: إنّ حالة العنف تجاه المرأة ليست وليدة فترة النزاع والحروب، في الغالب تتعرض المرأة في مجتمعنا للعنف. لقد عملتُ مع الكثير من السيّدات اللواتي تعرضن للتحرش وحتى للاغتصاب الكامل والمتكرر. لم تُشارك هذه النساء ما حصل معهن لعائلاتهن، لأزواجهن وحتى لأمهاتهنّ، كي لا يتعرضن لعنف نفسي أو عزل وازدراء من قبل المجتمع. كذلك، في بعض الحالات تم تحميل النساء المسؤولية، "لو ما طلعتِ في مظاهرة ما كان صار هيك"، "وقفوكِ أربع ساعات ما نعرف شو صار معك.."، حتّى أنّ هناك أمًا قالت لابنتها بعد ليلة اعتقالها: "ليلة بتكفي تخرّب الدنيا". المرأة ضحية لعنف مستمر حتى بعد خروجها من بيئة الصراع إلى أوروبا أو تركيا. الإنسان العربي يتعرّض للترهيب السياسي والتربوي، فما بالك لو كانت امرأة؟! تخاف أن تُستخدم أي معلومة ضدها.

 أمّا بالنسبة لتبعات التعرض للاعتداء الجنسي في منطقة صراع أو حرب، فيقول: "غالبًا ما يكون هناك غياب للاستقرار والأمان النفسي، حتى تصل حالة الخوف إلى حالة خوف أصيلة وطبيعية، فحتى لو أتيحت الفرصة للمرأة هي لا تنتهزها، قد تتساءل هذه المرأة "هل يوجد ألعوبة في الموضوع؟"، "هل سيتم استغلالي"، "هل سيعلم زوجي أو عائلتي"؟ هذا الخوف ينعكس على تعامل المرأة مع المجتمع أما الأمر الثاني وبطبيعة دور المرأة في الرعاية والتربية فهي تنقل هذا الخوف أو هذه الصدمة إلى أبنائها، فيتم التعاطي مع العالم على أنّه مكان خطير، وهكذا تنتقل "التراوما" عبر الأجيال. الأمر الآخر هو أنّ هذه الاعتداءات وعدم الافصاح عنها يؤدّيان إلى تدنّي الصحة النفسية والجسدية للمرأة الأمر الّذي قد ينتهي بظهور أعراض خطيرة لديها. النقطة الأخيرة، هي أنّ عدم مشاركة المرأة لما تعرضت له يجعل علاقة الأسرة العربية هشّة وغير متماسكة مما قد يؤثر على النسيج المجتمعي.

لماذا الاغتصاب؟

على الرغم من أن جرائم العنف الجنسي هي جريمة حرب وفقاً لاتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907 ورغم المواثيق الدولية والتغطية الإعلامية العالمية وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي إلّا أنّ هذه الجريمة مستمرة حتى يومنا هذا دون رادع، والفرق، أنّها باتت على مسمع الجميع.

وفقًا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2023، هناك ارتفاع ملحوظ في ظاهرة العنف الجنسي المتعلّقة بالنزاعات، كما ذكر التقرير أن هذا النوع من العنف يستهدف بشكل خاص النساء والفتيات النازحات دون أي معاقبة أو إجراءات بحق المغتصبين.

 لماذا إذاً يُستخدم الاغتصاب كفعل حربي؟

ترى دارا كاي كوهين الأستاذة المساعدة في كليّة همفري للشؤون العامة بجامعة مينيسوتا أنّ طريقة التنجيد القسرية هي سبب في حدوث حالات الاغتصاب كوسيلة غير معلنة لبناء روح الفريق بين الرجال الغرباء الّذين تم جمعهم للقتال. ما تؤكّده منظمة العفو الدولية أن الاغتصاب الجماعي هو استراتيجية عسكرية لخلق الشعور بالتماسك بين الوحدات القتالية.

كما أن العنف الجنسي يستخدم في الحروب كأداة لترويع المدنيين وإخضاعهم، الأمر الّذي اعتبره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 2008 تكتيكًا حربيًا. بالإضافة إلى ذلك، الانتهاكات الجنسية قد تُستخدم كأسلوب للتعذيب وانتزاع المعلومات.

وفي سياقات أخرى وتحديدًا في الحروب الّتي تحصل على أراضٍ شرقية يُستخدم الاغتصاب كوسيلة لإذلال الطرف الآخر، كون المرأة في المجتمعات الشرقية تُمثّل الشرف وأنّ هذا الانتهاك يجردها من هذه القيمة ممّا قد يلحق العار بها وبالمجتمع كلّه.

ما هو مصير النساء في الحروب والنزاعات؟

وفقًا لتقرير صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيسان الأخير حول "العنف الجنسي المتصل بالنزاع" هناك 3688 حالة عنف جنسي متصلة بالنزاع وتُشكّل النساء والفتيات 95% من هذه الحالات. أما فيما يتعلق بالضفة الغربية أكّدت المعلومات التي تحققت منها الأمم المتحدة أن عمليات اعتقال واحتجاز النساء والرجال الفلسطينيين من قبل قوات الأمن الإسرائيلية كانت تحوي في كثير من الأحيان سوء المعاملة والإهانة بما في ذلك العنف الجنسي. توجد ادعاءات مماثلة حدثت في قطاع غزة بعد بدء العمليات البرية.

على الرغم من هذا التوثيق الخطير إلا أنّ عدد الحالات التّي تصلنا اليوم حول هذه الانتهاكات غير دقيق، وذلك لأنّ الاغتصاب والانتهاكات المتعلقة بجسد المرأة هي وصمة العار مجتمعية ليس من السهل الحديث عنها، فقد تجد المرأة نفسها في حالة حرب أخرى.

لا قوانين وإجراءات فعلية تحد من ظاهرة العنف الجنسي كأداة حرب، مما يؤكّد عدم وجود أفق يُنهي معاناة المرأة في حرب ليست لها علاقة بها.

ملاك عروق

حاصلة على لقب أول في مجال الإعلام والعلوم السياسية. ناشطة اجتماعية وسياسية. مهتمة بإنتاج الوثائقيات وكتابة المقالات

اية
مقال مهم ، بيلقي الضوء ع قضية مهمة بينحكاش عنها كفاية ، كل الاحترام 👏
السبت 1 حزيران 2024
اسامة الغول
جهد جميل ورائع
السبت 1 حزيران 2024
رأيك يهمنا