ما بين الحماية والحقوق – دور المرأة في النزاعات

إن العواقب المترتبة على الحروب والصروعات المسلحة مروعة بالطبع على جميع الفئات المنخرطة فيها وعلى المجتمع ككل. بدأ من سنوات التسعينات من العقد الفائت، تجاوز عدد القتلى والجرحى بين المدنيين من الرجال والنساء والأطفال في النزاعات المختلفة، عن عددهم بين العسكريين والقوات المسلحة. بموجب بعض الاحصائيات، وصل عدد الضحايا من المدنيين في النزاعات المختلفة في التسعينات نسبة 90 بالمائة وعلى الأرجح أن هذه النسبة آخذة بالازدياد في القرن الحالي.

عادة ما تتحمل النساء، إضافة إلى العديد من الفئات المهمشة الأخرى، العبء الأكبر والأثقل لنتائج الحروب والنزاعات، على المستوى السياسي، الاجتماعي والاقتصادي. إنها الحلقة المفرغة ذاتها منذ القدم حيث تُعد التفاوتات وانعدام المساواة بين الشعوب والأمم من ضمن الأسباب الأكثر شيوعا للحروب والصراعات، فالفئات المضطهدة والمهمشة عادة ما تنهض وتطالب بكرامتها وحقوقها، وفي ذات الوقت عادة ما تؤدي هذه النزاعات والحروب إلى زيادة التفاوتات وتوسيع الهوة بين الطبقات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، إضافة الى تغيير حدود الأدوار الجندرية. 

تختلف أوليات النساء في السياسة العامة عن الرجال وتنتج عن ارتباط قوي بالقواعد الشعبية التي تطرح منظوراً أكثر شمولية لرفاهية المجتمع ككل، احتياجاته المختلفة والميزانيات اللازمة لتلبية هذه الاحتياجات. فالنساء أكثر وعيًا بالاحتياجات الأساسية للمجتمع نتيجة لدورهن الهام في صنع القرار الأسري وإدارة الشؤون العائلية. من الجدير لفت الانتباه إلى الأدوار المتغيرة للنساء في الحروب والنزاعات، إذ تتولى العديد منهن مهامًا جديدة مثل إعالة الأسرة والتعامل مع الوكالات والمؤسسات التي تقدم المعونات الإنسانية، بينما تزداد من جهة أخرى "مسؤولياتهن التقليدية" المتمثلة برعاية الأطفال وكبار السن من الأقارب، والتخفيف عن المخاوف والضغوطات النفسية لهنّ ولمن حولهن. ليست هذه إلا أمثلة صغيرة على الدور الهام لنضالات النساء في خضم أصعب الظروف.

ليس صدفة أن العديد من المؤسسات الانسانية الفاعلة في مناطق النزاع المختلفة، تولي الشطر الأكبر من المساعدات والمعونات الأساسية، سواء كانت مالية أو عينية، للنساء وربات البيوت من الفئات العمرية المختلفة، اذ تشير الخبرات والأدلة إلى أن المرأة أكثر حكمة في إدارة هذه المعونات وإنفاقها على الاحتياجات الأساسية للأسرة بما في ذلك المأكل والمأوى، الرعاية الصحية والتعليم. وتساهم الإدارة الحكيمة للمساعدات والميزانية العائلية بشكل عام في الحفاظ على الرباط العائلي والمجتمعي، التخفيف ولو بشكل بسيط من التحديات اليومية والمساهمة في بدء التعافي الإجتماعي، خاصة بعد انتهاء الصراع. 

وإذا ركزنا النظر على دول الشرق الأوسط التي تعاني من تفاوتات طبقية واقتصادية كبيرة وتواجه في العقود الأخيرة أسوأ الأزمات السياسية في التاريخ الحديث، نرى أن النساء يعشن في ظل أنظمة وهياكل متعددة تحدّ مسبقًا من حقوقهن وحرياتهن. مع اختلاف الدرجات والتفاصيل، فإن مستويات الضعف المتعددة التي تواجهها المرأة في منطقة الشرق الأوسط، لا سيّما في الدول العربية، تؤدي إلى تفاقم الظلم، انعدام المساواة وزيادة التمييز المنهجي، والذي يشتد عادة خلال الاضطرابات وحالات عدم الاستقرار من أي نوع.

تتشابة التحديات التي يواجهها المجتمع الفلسطيني بشكل عام، والمرأة الفلسطينية بشكل خاص، والناتجة عن عقود من الاستعمار، الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير، إلى حد ما، مع الأنماط المذكورة أعلاه، ولكن ربما بمستوى أكثر حدة، فالمعاناة شديدة والثمن على المستويات الحياتية والإنسانية مرعب.

تضيف حرب الإبادة الإسرائيلية المستشرسة منذ أكتوبر الماضي، والممولة من بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، على الفظائع الاسرائيلية المستمرة بحق السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، وتطرح علامات استفهام حادة بشأن مصداقية القانون الدولي الإنساني والحقوق المدنية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية كما ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية المختلفة. كما يؤدي التخاذل السياسي من الدول والحكومات خاصة الغربية منها، إلى تقويض مكانة وأهمية القانون الدولي الإنساني والقانوني الدولي لحقوق الإنساني بما فيها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن لعام 2000، اذ يبعث هذا التخاذل برسالة مفادها بأن حياة الفلسطيني وحقوقه، بما في ذلك حياة المرأة الفلسطينية، قابلة للانتهاك، التجاوز والاستهلاك. 

وإضافة الى انعدام الحماية الدولية والقانونية وتفاقم الاحتياجات الأساسية لكافة سكان القطاع، اتخذ الاعتداء على كرامة المرأة الفلسطينية وحقوقها أبعادا جديدة مرعبة، تتعلق بحقهن في الحياة الآمنة والكريمة، حقهن بالانجاب، الأمومة، المآوى، الصحة، الخصوصية وغيرها من الحقوق الأساسية.  تضاف هذه الانتهاكات إلى التراكمات الناتجة عن عقود من الاحتلال والاستعمار، العنف والقمع الممنهجين والوضع التبعي للمرأة في المجتمع، والنابع عن ترسيخ النظام الأبوي التقليدي المبني على التمييز الهيكلي بين الجنسين. لنساء غزة وفتياتها الحصة الأكبر من المعاناة كضحايا الجرائم الإنسانية والإبادة الجماعية المستفحلة يوما بعد يوم، وكما أشرنا سابقا، عندما تكون المجتمعات في حالة أزمة أو صراع فإنها تميل إلى تعزيز المفاهيم التقليدية للعلاقات بين الجنسين والتسلسل الهرمي المرتبطة بالاستقرار والبقاء.

وفي ظل المآسي الجمة، الصعوبات والتحديات، يجدر أيضا التركيز على بعض الزوايا الإيجابية والدور الفاعل الذي تقوم به العديد من النساء الفلسطينيات في النضال الوطني، المقاومة والتكاثف المجتمعي، إن كان على الصعيد السياسي او الإعلامي، خاصة بواسطة شبكات التواصل الإجتماعية أو المستوى المجتمعي والنفسي. ويؤكد ذلك على أهمية تواصل الربط بين النضال من أجل حقوق المرأة والنضال الوطني من أجل التحرر، فالاثنان مترابطان ومتشابكان إلى حد كبير.

بالإضافة إلى الجهود المطالبة بتكثيف الضغوط السياسية والقانونية لتوفير الحماية الأساسية لجميع المواطنين الفلسطينيين، بما فيهم النساء والفتيات، يتوجب على السياسيين وصناع القرار، التأكيد على المبادرات المختلفة المتعلقة بتمكين المرأة لمتابعة دورها الفاعل في المجتمع، كما ويتوجب على العاملين في مجال المساعدات الإنسانية الاستمرار في ضمان المشاركة الفعالة للمرأة في صنع القرار، وإسماع أصوات النساء على مختلف المحافل. أما فيما يتعلق بالتحضيرات للمرحلة القادمة، فعلينا خلق الأطر المواتية لتوسيع مشاركة النساء بقوة وكثافة أكبر في الحياة السياسية والحيز العام، زيادة الاستثمار لتحقق تكافؤ الجنسين في هياكل الحكم المختلفة، والشروع بالتدابير والتجهيزات اللازمة للشروع بإجراءات وحملات قانونية واسعة ضد مرتكبي جرائم الحرب في المحافل القانونية المواتية. في انتظار أيام أفضل، تبقى المرأة الفلسطينية والغزية، العنوان الأقوى للصمود والمقاومة على جميع المستويات.

إكرام نبيل نقولا

محامية فلسطينية متخصصة في مجال العمل الإنساني والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

 

رأيك يهمنا