عن بلداتنا التي تلفظ شبابها إلى الهامِش

ثمّة ادّعاءات متكرّرة تتردّد على مسامعي مؤّخّرًا: "البلد بس للنّوم، صارت مثل الأوتيل. منطلع نشتغل بالمدن الكبيرة وآخر النهار منرجع عالبيت" او ادّعاء على شاكلة: "اطّلعي حواليكِ البلد صارت مثل بيت كبير لرعاية المسنّين. فش شو تعملي فيها، وين الشباب؟" –  ونحن نتحدّث عن مجتمع يُشكّل الشباب نحو 30% من مجموع السكّان. أمّا بخصوص هذه الادّعاءات، فكلّها صحيحة وشرعية ولها أسبابها، ولكن لنكن واقعيين، مقالتي ليست بحثيّة لأخوض في تفاصيل التفاصيل، أو لأعد بطرح خطّة شاملة لتوفير مساحات شبابيّة في بلداتنا، لكن بإمكاننا أن نعتبرها فضفضة شبابيّة-جماعيّة.

في العام الأخيرة قضيت 6 شهور في مدينة توبنغن، وهي مدينة طلّابية في جنوب ألمانيا، لاستكمال دراسة الماجستير وثلث السكّان فيها من الشباب. لنضع مبدئيًا البيروقراطية الألمانية جانبًا، ونتحدّث عن الحيرة والاضطراب الذي قد تواجهه يوميّا كشاب، في اختيار المكتبة او المقهى الذي ستمضي نهارك فيه متنقّلّا ما بين القراءة والكتابة او حتّى مجرد التحديق في الناس بلا سبب، ففي كل حارة يوجد متجر لبيع الكُتب، او "مقهى كتاب"، ناهيك عن المكاتب العامّة ومكاتب الجامعة المنثورة في كل ارجاء المدينة. حيرة كبيرة قد تصيبك أيضًا عند اختيار المكان الذي ستقضي فيه سهرة اليوم مع اصدقائك لتحتفلوا بالحياة!  ويا لها من حيرة كُبرى إن أردت ان تذهب لمتنزّه في نهاية الأسبوع! يا لها من معضلة، فأيّ متنزّه من عشرات المتنزّهات الكبيرة والجميلة والمجانيّة ستختارون؟ متنزه عادي؟ أو واحد بجانب النهر الذي يقطع المدينة طولا؟ او ملاعب التنس الكبيرة؟ باختصار، في هذه المدينة وجدت كل ما ينقصنا كشباب؛ الفُرص، البهجة، العلم، المساحات، المُتعة، الهدوء، والأهم من هذا "الأمان" الذي أصبح عملة نادرة بالنسبة إلينا.

بعد انتهاء المُدّة، عدتُ بالطبع إلى قريتي التي أعيش فيها في شماليّ البلاد. أذكر الشعور الأوّل الذي أنتابني عند مدخل البلدة؛ "خنقة". انا بالفعل مخنوقة، وكأن شيءٌ ثقيل ثقيل أطبق على صدري، فوضى عارمة، سيارات تتقاطع من كلّ جهة، فالرصيف غير واضحة معالمه، وممرّ المشاة غير موجود، لا شَجَرة ولا زهرة، والبناء عشوائي وبشع وكأنني أول مرة أراه! ناهيك عن اللافتات ضخمة الحجم فوق كل مصلحة، وجميعها صارِخة مُضاءة باللون الأحمر المُزعِج بنصوصها العبريّة، فوضى أشبه بدوّامة صراع البقاء. كانت تلك المرّة الأولى التي اتأمّل فيها قريتي بعينين ناقدة لاذعة، ولربّما كان عليّ أن أبتعد كثيرًا حتّى أدرك حجم المصيبة أو حجم النقصان.

اسمه "عنف العمارة"

لا يخفى على أحد حقيقة النقص الفادح في المساحات الشبابية والمؤسّسات الحاضنة للشباب. لكن هل من علاقة بين ذاك الشعور بالضّيق أو الخنقة بهندسة المكان؟ في مقولة مشهورة للكاتب الإيرلندي جيمس جويس، واصفًا مدينته "دُبلن" التي تأبى إلّا أن تخذله في كل مرّة، قال عنها: "كالخنزيرة العجوز التي تأكل خنّوصها"، بعبارة أخرى، مدينة تلتهم أبناءها. ونحن، هل تخذلنا بلداتنا وتخنقنا وتلفظنا إلى هوامش الحياة؟

في حديث مع المعماريّة رزان زعبي- زيداني، تؤكّد أن ثمّة علاقة قويّة بين أسلوب الهندسة المعماريّة وشعورنا العام تجاه بلداتنا، ثمّ إنه من غير المنطقي أن نفصل بين الواقع السياسي الاستعماري الذي نعيش في ظلّه وبين شعورنا بالاغتراب. من وجهة نظر معماريّة، تشرح رزان بأن هذا الشعور بالضّيق هو نتيجة لظاهرة تسمّى "عُنف العمارة"، أو البناء العشوائي و"الدخيل"، الذي لا يشبهنا ولا يشبه طبيعتنا.

على سبيل المثال، لا حصر، تسمح إسرائيل بالبناء العشوائي في البلدة القديمة بمدينة الناصرة، على حساب البناء في الأراضي الاحتياطية للمدينة لتوسيع المستوطنات اليهوديّة، فتصبح العمارة العربية عبارة عن طابق فوق الآخر، بناية من أربعة أو خمسة طوابق بدون مكان موقف للسيارات، فتضيق الشوارع بالسيارات وهذا ينعكس على شعورنا العام بالضيق والخنقة. أضف إلى أن المدينة تخسر هويّتها المعمارية رويدًا رويدًا، أو تتشوّه، لتصبح مجرد بنايات اسمنتية بشعة وعشوائيّة بلا هويّة، بعيدًا عن الذوق الرفيع الذي عرفته عمارة أجدادنا. تؤكّد رزان أن عدم إتاحة التوسّع الحضري والابتعاد عن الاهتمام بالجماليات يعزّز شعورنا بالضيق والاغتراب وعدم الانتماء.

مثال آخر لسلخ المدينة عن هويّتها بسبب الواقع الاستعماري، هو مشروع "الناصرة 2000" والذي كان من المفترض ان يطوّر المدينة تجهيزا لاستقبال البابا. حصلت البلديّة آنذاك على ما يقارب 280 مليون شاقل، وتمّ اختيار معماري صهيوني واسمه "رحاميموف"، يملك مكتب هندسة في قريّة "لفتا" المهجرّة، وهو ذات المعماري الذي يشرف على هندسة المستوطنات مثل "كريات أربع". بدأ رحاميموف بتطوير سوق الناصرة، بحجّة تخلّف بنيته التحتيّة وعدم جهوزيّته لاستقبال السائحين. ومن أجل مدّ أسلاك المياه والكهرباء، تمّ إخفاء "الواد" الذي كان الحلّ الأفضل لمياه الشتاء بسبب تضاريس المدينة الجبليّة والحادّة، وبحسبه تمّ بناء البيوت واتّخذت شكلها الحضري. لاحقًا استخدم الواد كمسار للحمير التي كانت من وسائل النقل الأساسية لتوصيل البضاعة والأغراض من وإلى البيوت الجبليّة في الناصرة.  "كأنّهم يفهموا أكثر من اجدادنا الذي عاشوا مئات السنين هناك" تقول رزان، مضيفةً إلى أن هذا المشروع حقّق عكس ما تم الترويج له، إذ تحوّل السوق من مكان حيّ ينبض بالحياة، ليبقى فقط 50 محل تجاري من أصل 450، وأنه قتل روح المدينة والأمل، في دلالة على أن من يعمّر الأرض، يجب أن يكون على اطّلاع ومعرفة بتضاريس المكان وهويّته واحتياجات أهله. ومن يعرف حجارة البلد أكثر من أبناء وبنات البلد؟

بلداتنا لا تحتوينا على الأرض، لننظر إليها من السماء!

بالنسبة لطارق طه، وهو طالب تخطيط مُدن في كليّة الهندسة المعماريّة في معهد التخنيون، يقول لو نظرنا لبلداتنا العربيّة بصورة جويّة من الأعلى، ما نراه هو عبارة عن كتلة اسمنتيّة كبيرة ومتراصّة. "بلداتنا غير صالحة للتفاعل الإنساني-الشبابي في الحدّ الأدنى، وتقريبا المساحة الوحيدة للتفاعل هي الشارع الضيّق الذي بالكاد يتّسع لسيارتين، فيحدث تواصل متوتّر أصلا".

تعرف لجان التخطيط المحلية واللوائية الإسرائيلية، خصوصية ما تبقى من أراضٍ في البلدات العربية، ضمن مساحة نفوذ المجالس والبلديات، ومدركة حقيقة أن هذه الأراضي وهي بملكيّة خاصّة، غالب الظن قد تكون حجر عثرة أمام خطط توسّع أحياء قائمة أو بناء أحياء جديدة، لأن من حق أصحاب الأراضي الاعتراض على المخططات، ولذلك تستعين بسلاح البيروقراطية القاتل الذي من شأنه أن يعوّق مشاريع التوسّع، وتتهم هؤلاء بالأنانية لعدم اكتراثهم للصالح العام، لكن الحقيقة أن لمحيط قُرانا العربية مساحات شاسعة من أراضينا المسلوبة والتي تسيطر عليها "دائرة أراضي إسرائيل" و"الصندوق القومي الدائم لإسرائيل"، فلو كان الطموح هو العدالة في التخطيط، فاسترداد الأرض لأصحابها الأصلانيين بالضرورة يجعلنا نتخطى أسئلة الأزمات، ولكن فلنفترض جدلا أن مطالبنا تواضعت واكتفينا بالحديث عن المساواة بالتخطيط، فلنطالب بتحرير مساحات أراضٍ من "سلطة أراض إسرائيل" للصالح العام للتوسّع والخروج من عنق الزجاجة، ضمن مخططات حضرية مهنية يصنعها ويكتبها ويرسمها أبناؤنا.

يشدّد طه، بأنّنا لا نطمح بالتوسّع المعماري والحاراتي فحسب، إنما ذلك التوسع من أجل صياغة أحياز ومساحات عامة يتشاركها الناس تعبّر عنهم ويعبّرون عنها، يشعرون فيها بأمان وينتمون إليها، ضمن المعايير والعوامل التي يبحث عنها الشباب خارج بلداتهم، خصوصا الأزواج الشابة؛ أماكن عمل ودراسة وأمان ضمن الحفاظ على الخصوصية من جهة، وتطوير مهارات التواصل الاجتماعي من جهة أخرى.

روح الشباب حاجّة ضرورية

خروج الشباب العرب من بلداتنا يُفرغها من الروح الشابّة القادرة على رفع مكانتها الاجتماعية والاقتصادية، ويجعلها عالقة مع شرائح كبيرة في السن أو مستضعفة لا يمكنها أن تدفع بها إلى مكان أفضل مستقبلًا. هذه الهجرة الشابّة لها أسباب كثيرة لا يمكن حصرها هنا.  المحامي ومخطّط المدن أمل عُرابي، يؤّكّد أن اهم الأسباب لهجرة الشباب العرب للبلدات اليهودية أو المُدن المختلطة هو الارتفاع الحادّ بأسعار السكن والأراضي، وهو نتاج لسياسات التخطيط القومي التي تنتهجها إسرائيل منذ قيام الدولة والتي تتمثّل بتقييد مساحة البلدات العربية وعدم تكريس الموارد لضمان عدم التوسّع، لتصبح وكأنها "سوق مغلق" ترتفع فيه الأسعار على الدوام دون إعطاء أي بدائل للأزواج الشابّة. 

أضف إلى ذلك، في رحلة بحث الشاب العربي على فرصة عمل "نوعيّة" تضمن له دخل اقتصادي يؤمّن له عيشًا كريمًا، يضطر للذهاب للبلدات اليهودية، وبسبب عدم وجود بنية تحتية لوسائل نقل رخيصة ومتعدّدة يذهب ثلث مدخول العائلة العربيّة على المواصلات ولذلك يفضل العيش في بلدة قريبة تتوفّر فيها محطّة قطار مثلا، أو وسائل أخرى. وفي الوقت الراهن، لا يمكن غضّ النظر عن كارثة العنف والجريمة التي تفتك بنا، فبالإضافة إلى مكان السكن وفرصة العمل والبنى التحتية للمواصلات العامّة يبحث الشباب اليوم عن أمنهم الذي لا يجدونه في بلداتهم.

مؤخّرا، بتنا نرى مساحات شبابيّة جديدة كالمقاهي، والمراكز الثقافية المستقلّة ودور الكتب والأطفال والمسارح والمراكز الشبابيّة، حتى وإن كانت مبادرات فرديّة صغيرة، إلّا أنها تبعث فينا الأمل وتتيح لنا بالحديث والفضفضة مع الأصدقاء والرفاق بعد نهاية يوم متعب، أو حتّى العمل- مساحات تخلق الفرص.

ففي النهاية لا نريد لبلداتنا ان تكون كأنثى الخنزير التي تأكل صغارها، أعتقد أننا نستحق أن نطمح لتصبح بلداتنا مثل الكنغر، ذلك الحيوان اللطيف الذي يحتوي صغاره، يعطف عليهم ويخبّئهم في حضنه خوفًا من الحيوانات المفترسة.

زهرة سعيد

صحافية وباحثة فلسطينية

شاركونا رأيكن.م