في البحث عن المعنى المتغير هو الثابت الوحيد
لطالما كان البحث عن المعنى أول نتاج على إثر صفعة الحياة الأولى عندما أصبحت في الثامنة والعشرين من عمري.
تلقيتُ صفعةً أزالت جبالا من الغبار عن عقلي وفكري البسيط المتشرب من التربية العربية التقليدية المبنية على الطاعة الكاملة التي لا تستند إلى منطق ودون ركائز قائمة على أجوبة مقنعة.
حتى تلك الصفعة كنت أرى الحياة وردية، فتاة عربية طموحة تدرس تصميم الأزياء، تسكن في ألمانيا، على قناعة تامة بأنها ستصل حتما لما تريد، ليس هناك من سبب أن يحدث شيء يعكر مجرى أيامها، رغم أنها كانت تغلف حزنها وشعورها بالوحدة في تحقيق حلمها بدراسة وصناعة الأزياء.
عندما أنهيت دراستي لتصميم الأزياء حدث ما لم أتوقعه يوما واضطررت للعودة لقريتي كفركنا مكسورة الجناح، حزينة، لا أرى من الحياة إلا سوداويتها القاسية، أحاول أن أرى الغد لكن دون جدوى، عدت إلى البلاد بعد ستة سنوات ونصف.
كان الألم النفسي يعتريني، أصبحت أبحث عن سبب لإكمال الحياة لكني لم أجد، أصبحت أرى الناس من حولي يذهبون إلى أعمالهم ويبدأون يومهم وأنا غير قادرة على الاستيقاظ من نومي لأواجه نهارا جديدا وربما لأن عودتي آنذاك كانت مع بدايات فصل الشتاء ما زاد الأمر سوءا لأن شتاء ألمانيا قاسٍ وبردها الشتوي يعتريني في اللاوعي حتى في شتاء البلاد.
أذكر وقتها جيدا الشعور الذي اعتراني، لم أفكر في أي شيء يخص حلمي في الأزياء أو أي شيء آخر طمحت أو سعيت إليه، كنت أفكر فقط بأنني أريد أن أعود لطبيعتي وأن أسيطر على هذا الحزن الشديد الذي اعتراني وفقدان الشهية والكثير من الأمور، أردت أن أبتسم وأن آكل وأن أجلس مع عائلتي، أردت فقط أن أخرج من تلك البقعة المظلمة فحسب.
قوة الحياة
السؤال الوحيد الذي كان يتردد في بالي هو ما معنى وجودي في هذه الحياة وهل هناك فعلا من معنى وراء خلق الله لي؟ كنت أحتاج لجرعات من الأمل والإيمان كي أستطيع محاولة رؤية الغد رغم يقيني بقوله تعالى "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" لأرتاح قليلا، وأيضا كانت تراودني جملة غسان كنفاني "لك شيءٌ في هذا العالم فقم" كنت حين أتذكرها أشعر بقوة ولو ضئيلة ولكنها ليست بعابرة، وبعد فترة من الزمن وعندما بدأت الخروج من البيت وجدت أنه الوقت المناسب لتعلم التطريز فتعلمته وكانت أول العبارات التي طرزتها على القماش هي "لك شيء في هذا العالم فقم" أحسست حينها أن الكلمات يمكن تحويلها لأشكال أخرى ذات معانٍ تؤثر بنا ويصبح واقعا، وحين رأيتها على القماش للمرة الأولى شعرت برغبة عارمة بأن تصبح تصميما ما يعبر عني، لأن التطريز زاد من قيمة القماش وأضفى عليه المعنى.
مجموعتي الأولى كانت تراثي عَ راسي، حملت كل تلك المعاني التي كانت تعبر عني في ذلك الوقت، لاقت نجاحا كبيرا غير مخطط له، ولم أدرك أنها ستطلب بكثرة في جميع أنحاء العالم، فقط أتذكر أنني كنت أطرز تعبيرا عن شعوري بالحزن، والناس ترتديها وتبتسم وتلتقط السلفي وأعيد نشرها على صفحتي في الانستغرام.
هذه المجموعة كانت ثورتي الأولى في الأزياء والتي ولدت من رحم المعاناة.
العامل المجهول
هذه التجربة من حياتي جعلتني أدرك أن كل شخص سيتعرض في وقت ما من حياته لعامل مجهول، لحدث مروع، لفقدان، لأي شيء كان، ليأتي العامل المجهول ليقول له استسلم ومعه يولد شعور الخوف والضعف والألم، من ناحية اخرى كل نمو وكل تطور حتى الولادة نفسها هي أشياء منوطة بالألم. أما الألم فهو مهم لأنه يساعدنا على التشاعر أو تطوير مهارة الاحساس مع الآخر، ويجعلنا ننظر إلى الأمور من بعدٍ آخر أكثر عمقا من الذي شهدناه، الألم يأتي لكي يذكرنا دوما أننا بشر من لحم ودم وفي وقت الشدائد يتقلص حجمنا لنصغر أمام القدر راجين رحمة الله وعفوه.
السعي إلى البحث
هكذا بدأت رحلتي في البحث عن المعنى أو إن صح التعبير البحث عن الذات، في تلك الفترة سنحت لي الفرصة كمصممة أزياء أن اعتلي بعض المنصات في البلاد وخارجها لأشارك قصتي الخاصة في مشواري كمصممة أزياء، من خلال هذه الفرص أصبحت قريبة إلى الناس والمجتمع العربي أكثر، وأصبحت تزورني نساء من بلادٍ عدة وتتواصل معي أيضا نساء من خارج البلاد ليعبرن عن إعجابهن بإصراري على الاستمرار رغم ظروفي الصعبة التي مررت بها، وصرت ألاحظ أيضا أن العديد من النساء التي تأتي لأصمم لها تريد أيضا مشاركتي بمصاعب حياتية تواجهها في حياتها شبيه لما مررت به أو مختلفة، ولكن الحاجة للتعبير عن قضايا وصراعات داخلية تواجهها النساء كان شيئا ألمسه في العديد من المرات، التي بدوري أردت فعلا أن أستمع لهن وأن أشعر معهن وحبذا لو كنت قادرة على المساعدة المهنية فعلا لأنهن وجدن بي ربما أملا ما هو بالنسبة لي نعمة من الله أن ترتاح الناس بمشاركتي أوجاعها ما ولّد لدي رغبة في ترميم أرواح البشر قبل تجميل أجسادهم بقطعة ثياب.
دوام الحال محال
بعد مرور سنة على عودتي إلى البلاد اجتاح العالم ڤيروس كورونا، كانت تلك الفترة بمثابة فترة فزع لغالبية الناس واكتئاب، أما بالنسبة لي كانت فترة نقاهة وتنفس الصعداء لأن العالم خفف من سرعته قليلا وجعل الناس تجلس في بيوتها لتختبر بعدا جديدا للحياة لم نألفه من قبل ولنطرح على أنفسنا بعض الأسئلة الوجودية. بعض المهن كمهنتي أنا مثلا أصبحت غير مناسبة لفترة الجائحة، حيث إن اهتمامات الناس آنذاك صبّت حيث الأمور الأكثر أهمية من الأزياء، وهنا كانت أيضا نقطة تحول بالنسبة لي، بأن الظروف تتغير بشكلٍ مستمر وما نحتاجه اليوم ليس بالضرورة ما سنحتاجه غدا، ولكن بالنظر إلى كل المتغيرات التي ذكرتها أصبحت على يقين أن دوام الحال محال وأن قوة الإنسان تكمن في المرونة ضد المتغيرات والاستمرار رغم المتحولات ولكي يكون الإنسان مرنا وقادرا على الاستمرار عليه أن يكون أولا قويا من الداخل والقوة الداخلية أساسها السلامة النفسية التي تساعدنا على السيطرة على مشاعرنا وردات فعلنا أمام الظروف المتغيرة وبالتالي معرفة كيف سنتقدم خطوة إلى الأمام.
بالعودة إلى تصميم الأزياء، أحرص اليوم على أن أصمم أزياء تحمل معنى إنسانيا في الفكرة والتنفيذ، وأستمع كثيرا إلى صوتي الداخلي لذلك أحيانا يستغرق ذلك وقتا طويلا حتى تصدر لي مجموعة جديدة، لا أستعجل الأشياء ولا أكترث بأن أنمو بسرعة الآخرين.
من ناحية أخرى لجأت للجامعة لدراسة العلاج النفسي عن طريق الفن، للتزود بأدوات مهنية وعلمية أستطيع من خلالها ترميم أرواح البشر وإنارة دربهم.
لا أعلم أين سأكون غدا وما هي الظروف التي تنتظرني ولكنني أنهي يومي هذا بهذا المقال ممتنة لجميع الأشياء التي مررت بها شاكرة الله على جميع النعم التي لو نتمعَّن بها من حولنا سنجد أن الدنيا تستحق أن تعاش بكامل حذافيرها وبإدراكي التام أن الكمال لله وحده وأن حياتنا نحن البشر مليئة بالنواقص التي لن تكتمل إلا بالرضا، موصية بمقولة شمس التبريزي: " لا تحاول أن تقاوم التغيرات التي تعترض سبيلك، بل دع الحياة تعيش فيك، ولا تقلق إذا قلبت حياتك رأسا على عقب، فكيف يمكنك أن تعرف أن الجانب الذي اعتدت عليه أفضل من الجانب الذي سيأتي".
الصورة: للاعلامية اللبنانية رابعة الزيّات مرتدية فستانا من تصاميم ملك حكروش وعليه كلمات من شعر زوجها الشاعر زاهي وهبي: "في ضحكتها نشيدُ وطني".