تَوظيف الشّباب العَرَب في إِسرائيل: نَظرَة مِنَ داخِل قِطاع "الهايتك" خِلالَ الحَرب وبَعدَها

يَشْهَد سُوق العَمَل الإسرائيلي في العُقود الأَخيرة تحوّلات مُتَسارِعة، وبالأَخَص في قطاع التكنولوجيا الذي باتَ يُعتبر المحرّك الأساسي للاقتصاد ومصدرًا رئيسًا للتّوظيف، والابتكار، والاستثمار. وسط هذا النّمو اللافت، يُطرح سُؤال جَوهريّ: أين يقف الشّباب العَرَب مِن هذا المشهد؟ وهل تحقّقت لهم فُرَص متكافئة في الانخراط والاندماج؟ أم أن الفَجوة لا تزال قائمة، بل وتتعمّق في أوقات التّوتر السياسي والنزاعات العسكرية، كما في الحرب الأخيرة على غزة؟

مِن خِلال خِبرة مهنيّة امتدت أكَثَر من 15 عامًا في مَجال "تَجنيد المَواهب" لشركات الهايتك الإسرائيلية، وكمجنِّدة فلسطينية من الدّاخل تعيش هذا الواقع يوميًّا وترافقه عن قُرب، يُمكن القول إن الصورة معقَّدة ومتشابكة. فهي ليست صورة قاتمة تمامًا، لكنّها بعيدة عن الإنصاف، تَجمع بين الكفاءات الحقيقية التي يتمّ تهميشها، والمبادَرات الواعِدة التي تتعثّر أمام البنية المؤسساتية، والأمل المتجدّد والخَوف من انغلاق الأبواب، خاصة في اللحظات التي تشتَدّ فيها حدّة الخطاب السياسي.

تُشير الإحصاءات إلى أن نسبة تمثيل الشّباب العرب في قطاع التكنولوجيا لا تتجاوَز 2.1%، رغم أنهم يشكلون أكثر من 21% من السكان، ومع ازدياد عدد خرّيجي علوم الحاسوب والهندسة في الجامعات الإسرائيلية، فإن الفجوة بين التّأهيل الأكاديمي وفُرَص الاندماج المهنيّ لا تزال قائمة. يشير هذا بوضوح إلى أن المُعضِلة ليست في الكفاءة، بل في الوُصول، والسياسات، والبيئة المؤسساتيّة التي لا تتعامل مع التعدّدية كقيمة، بل كاستثناء.

تَظهرُ مِن واقع العمل اليومي داخل أقسام الموارد البشرية مجموعةٌ حواجز لا تَرتبط بالمهارات التقنيّة، بل بعوامل بنيويّة واجتماعية، أهمها:

•  ضعف إتقان الّلغات الرسميّة المَطلوبة في بيئة العمل، وتحديدًا العبريّة والإنكليزية، ما يؤثّر على فُرَص اجتياز المقابَلات بثقة.
•  البُعد الجغرافيّ عن المراكز التقنيّة الكبرى التي تتمركز غالبًا في تل أبيب، وهرتسليا، ورعنانا، في حين تَفتقر البلدات العربية إلى بنية تحتيّة داعمة أو مراكز تدريب متطوّرة.
•  التحيّزات الثقافية غير المعلَنَة داخل الشركات، الّتي تَخلق أجواء غير مرحِّبة بالمرشَّحين العرب أو تَنْظر إليهم كـ "تمثيل رمزي"، لا كعنصر إنتاج فعليّ.
•  معايير انتقاء غير مكتوبة تؤدّي إلى استبعاد المتقدّمين العرب في مراحل التّصفيات الأوليّة، دون أيّ توثيق أو تفسير موضوعي.

في كلّ مرّة تَندلع فيها الحَرب على غزة، تَنعكس التّداعيات ليس فقط في جبهات القتال، بل داخل مكاتب الشّركات، خصوصًا في العلاقة بين الموظَّف العربي ومكان عمله. خلال الحرب الأخيرة، تم فَصل عدد من الموظفين العرب من شركات تكنولوجيا بسبب منشورات إنسانيّة، أو تَعبير بسيط عن التّضامن مع الضحايا المدنيين. حَدَث هذا في وقت يُسمح فيه للموظفين اليهود بالتّعبير بحرّية عن مواقفهم السياسية.

يولّد هذا التّمييز حالة مِن الفَرز الصّامت خلال عمليّات التّوظيف، ويَزرَع الشكّ في العلاقة المهنيّة، خاصة مع تصاعد الحساسيّة الأمنية، ما يُضعف مناخ الثقة، ويكرّس شعور التّهميش لدى المرشّحين العرب حتى أولئك الذين يحملون سجلات مهنيّة استثنائية، وهو شعور ألمسه يوميًّا في المقابلات التي أُرافقها أو أُشرف عليها.

النساء العربيّات في التكنولوجيا: كفاءات تنتظر الإنصاف

لا يُمكن الحديث عن واقع التّشغيل دون التطرّق إلى النّساء العربيّات اللواتي يواجهن تحدّيات مضاعَفَة في هذا القطاع. فرغم التفوّق الأكاديمي والإصرار المهني، لا تتعدى نسبة النّساء العربيّات في الهايتك 0.5%. لا يَعكس هذا الرقم ضعفًا في القدرات، بل يعبّر عن عراقيل مجتمعيّة، ومؤسساتية، وجغرافية تُقصي المرأة العربية من مساحات الابتكار والإنتاج.

توجَد مبادَرات واعدة مِثل "جمعيّات"، تَسعى إلى تأهيل النساء العربيّات للعمل في التكنولوجيا، لكنّها غالبًا ما تُعاني مِن نَقص التّمويل وعدم وجود شراكات استراتيجية مع شركات القطاع الخاص. وكامرأة فلسطينية شارَكَت في تَصميم وتَرويج برامج تشغيل عديدة، أعلم جيدًا حجم العوائق غير المَنظورة التي تحول بين المرأة وطموحها في هذا المجال.

الانفتاح المَزعوم... بين الواقع والتوقّعات

رغم هذا المَشهد المتشابِك، ظَهَرت مؤشرات تبدو إيجابية للوهلة الأولى، لكنها لم تُترجم إلى تحوّل فعلي على أرض الواقع. إذ إن التحوّل إلى العمل عن بُعد بعد جائحة كورونا، وإن خفّف من عائق التنقّل الجغرافي للمرشَّحين من البلدات العربية، فهو لم يكن كافيًا لاختراق البنية المؤسساتية التي ما زالت تقاوم التّغيير.
لم يُحدث هذا التحول انفتاحًا حقيقيًا بقدر ما خَلَق وَهْم فرص جديدة سرعان ما تَلاشت أمام ثقافة شركات تفضّل "الاندماج الرمزيّ" على التّوظيف الفعلي. كما أن المُراجَعات التي بدأَتها بعض الشركات الكبرى حول سياساتها المتعلّقة بالتنوّع والتضمين، بقيت في كثير من الأحيان شكليّة أو مرتبطة بالضغوط الخارجية، دون أن تنعكس على آليات التوظيف أو بيئة العمل اليومية.
في المقابل، ظلّ المرشَّحون العرب يواجهون الحواجز القديمة نفسها، وإنْ اتَّخذت أحيانًا طابعًا أكثر خفاءً، يُصعّب على أصحاب الكفاءات اختراق جدران "التّمثيل المحدود" ضمن فرق تقنيّة لا تزال تغيب عنها روح التعدّدية الحقيقيّة.

استنادًا إلى سنوات من الخبرة في تجنيد الكفاءات، يُمكن تلخيص مجموعة من الخطوات العملية التي تتكامل مع هذه السياسات الحكومية، وتشكّل حجر الأساس لبناء سوق عمل أكثر عدالة وفعاليّة:

•  تبنيّ سياسات توظيف عادلة وواضحة داخل الشّركات، تَضْمن فَتح المَجال للمرشحين العرب دون تحيّز أو تَمييز، وتَنسجم مع التّوجهات الحكوميّة نَحو تقليص الفجوات.
•  توفير دعم لغوي ومهنيّ ممنهج عبر دورات إعداد وتوجيه، بالتعاون بين القطاع الخاص والبرامج الحكومية، لتعزيز جاهزيّة الشّباب العرب للمنافسة في سوق التكنولوجيا.
•  إنشاء برامج تدريب مهنيّة داخل البلدات العربية، بتمويل حكومي وشراكات مع شركات الهايتك، لتقليص الفَجوة الجغرافية وربط التّعليم بالوظيفة.
•  دَعم المبادَرات النسويّة وتَوسيع نطاقها مِن خلال تخصيص ميزانيّات تفاضليّة، وشراكات استراتيجية مع القطاع الخاص، لتمكين النّساء العربيّات في التكنولوجيا.
•  مراجَعَة ثقافة التّعبير المؤسساتية داخل الشّركات، بما يتماشى مع المبادئ الدستورية، لضمان احترام حريّة التّعبير دون أن يتحوّل إلى تهديد وظيفي أو سبب للإقصاء.

هذه الخطوات، إذا ما نُفذت بتكامل بين القطاعين العام والخاص، يمكن أن تُحدث تحولًا حقيقيًا في واقع التشغيل، وتعيد تعريف النجاح بعيدًا عن الاعتبارات الهوياتيّة، نحو نموذج اقتصادي أكثر شمولًا واستدامة.

خلاصة: التّشغيل لَيسَ هِبَة… بل حقّ إنسانيّ واقتصادي

إن دَمْجَ الشَباب العرب في سوق العمل الإسرائيلي، خاصة داخل قطاع التكنولوجيا، يجب أن يُنظر إليه باعتباره ركيزةً أساسيّة في تحقيق التنمية والتّوازن الاجتماعي، لا كمجرد استجابة ضاغطة أو دعاية مؤقَّتة. فهم يمتلكون الكفاءة، والطّموح، والقدرة على الإبداع، وتكمن مسؤوليّة المؤسَّسات في إزالة الحَواجز المعيقة، وفتح المجال أمامهم لبناء مستقبل مشترك أكثر عدالة وابتكارًا.

ومِن داخل غرف المَوارد البشريّة، ومن واقع المقابَلات والمرافَقَة المهنيّة، حيث أعمل يوميًّا على فتح أبواب الفُرَص، يتّضح أن التّغيير ممكِن. ليس عَبر الخطابات فقط، بل عَبر بناء بُنى تحتيّة حقيقيّة للدمج، والتطوير، والتّمكين.

لينا كناعنة

مديرة مركز التّوظيف التكنولوجي "نورثمد".

رأيك يهمنا