المهدئات والمخدرات... جبهة الحرب الداخلية

لا تَقتصر كلفة الأزمات، كالحروب والأوبئة وغيرها، على الجانب الماديّ مِن أضرارٍ اقتصادية وخسائر فادحة بالممتلكات والبنى التحتية، إنما تتعدّاها إلى النّفس البشريّة، حيث الآثار أكثر كلفةً وتعقيدًا.

هناك من لا يتمتّع بحصانة نفسية متينة إزاء الأزمات، فيجد نفسه قد انزلق إلى مهاوي أدوية الأعصاب والكُحول والمخدّرات والعقاقير التي تُساعد على النوم، هربًا من واقع خطير جَعَل كلّ فرد وكلّ بيت هدفًا للإصابة والموت، في ظلّ حربٍ تعدّت الجبهات الحدودية إلى الجبهة الداخلية.

مهمٌ التأكيد أن إسرائيل واجهت أزمتين حقيقيّتين في السنوات الخَمس الأخيرة، هما أزمة وباء كورونا وأزمة الحرب، في ما يتعلق بالوباء لم تكن هناك أيّ أبحاث أو دراسات بشأن سلوكيّات البَشَر، على العَكس من أزمات الحرب.

ارتفاع حادّ في تعاطي المخدّرات والمهدّئات

يشير مركز الدراسات والأبحاث التابع لللكنيست إلى ارتفاع في نِسَب تعاطي الأدوية والمخدّرات والمهدّئات نتيجة القلق والخوف في أزمة كورونا الأخيرة بحسب دراسةٍ اجراها المركز بعد تراجُع الوباء عام 2021.[1] أما بالنسبة لأزمة الحرب، فلدينا مؤشرات كثيرة تُظهر ذلك بشكل واضح، بأن فئات من المجتمع من سكان المناطق المَنكوبة بالحروب، ممن يعانون من ضَعف الحصانة النفسية، يتّجهون لتعاطي المخدرات وغيرها للهروب من الواقع، والتغلب على حالات الخوف والهلع، وبنسب أعلى بكثير مما هو في أزمة كورونا.[2]

هذه الحرب هي الأطوَل في تاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وبما أن الحرب لا تَقتصر على الجنود في الجبهات، بل تتعّداها إلى الجبهة الداخلية؛ أي إلى جمهور المواطنين، فالكل يستشعر الخطر. لو كانت الحرب على الجبهات فقط لاقتصر العلاج على حالات الصّدمة التي يَعود بها الجنود من الجبهات، كما كان في حرب أميركا على فيتنام، إذ كان الجنود يعودون إلى أوطانهم وتَظهر لديهم بعض الأمراض النفسيّة وأعراض الصّدمات وغيرها، وحتى في إسرائيل هناك وحدات عِلاج خاصة لمتابعة حالات الجنود بعد الحرب. لكن: في أيّ من الحروب لم تكن الجبهة الداخلية جزءًا من الحرب؟ ربما يتمثّل الاستثناء في حرب 2006 مع حزب الله التي استمرت مدّة شهر واحد تقريبًا، وهي فترة قصيرة نسبيًّا مقارنة مع الحرب الأخيرة.

في هذا السياق، عندما يكون الجمهور جزءًا من الحرب، ويشعر بأنّه مستهدف بالصواريخ والطائرات المسيَّرة التي دخَلت حديثًا في جبهات الحروب، وأنّه معرّض للقتل يوميًّا، ويصبح الحيّز الأكبر من تفكيره يتمحور حول سُبل النّجاة من الموت، فإنه يبحث عن طرق للهروب من هذا الواقع، ليجد بأن أسهَل طريق وأقصَرَها هو تعاطي الكحول والمخدّرات وتناول العقاقير المهدئّة.

سوء الاستخدام وكَثرة الطَلَب يفتح طريقًا للسوق السوداء

أظهرت نتائج مسحٍ أجرته وزارة الصحة الإسرائيلية في الصيدليات وصناديق المرضى في البلاد في الاشهر الاولى للحرب إرتفاعًا حادًا في الطلب على الأدوية من نوع مسكّنات الأوجاع والأدوية والعقاقير النفسيّة التي تعالج حالات الصّدمة والهَلَع والوسواس القهري وتساعد على النوم.[3] ما يعزز نتائج تقرير منظمة الصحة العالمية (WHO) الصادر في يناير كانون ثاني الأخير[4] بزيادة الطلب بشكلٍ كبير على هذه الأدوية. نلاحظ ظاهرة لا تقلّ خطورة، هي سوء استخدام هذه الأدوية، فالطبيب يدوّن للمريض وصفة تحتوي على وجبة أدوية لكي يستخدمها على مدار الشهر، لكنها تنفذ في أربعة أو خمسة أيام! فإذا كان الشّخص قد استخدم هذه الكمية في هذه الفترة القَصيرة فهو خطر، وإذا كانت قد استُهلِكَت مِن شخص آخر، فهناك خطر أكبر من أن تتحوّل هذه العقاقير إلى السوق السوداء للتجارة بها، وهي سوق موازية لسوق المخدرات!

على الرغم من فَرض وزارة الصحة عادة قيودًا مشدّدة على إعطاء وصفات لهذه العقاقير المخدّرة حتى لمن يحتاجها، فهناك دائمًا السوق السوداء، خاصة عندما تزيد الحاجة للعقاقير، ويزيد الطلب عليها، فورًا تنتج هناك سوق سوداء قد يتعاون معها بعض الصيادلة وربما بعض الأطباء في سبيل الربح المادي، وتَحدُث سرقات للأدوية من المستشفيات والصيدليات ومخازن الشركات المنتجة للأدوية ومصادر أخرى لا نعرفها. وفي مراكز الشرطة دائمًا هناك تحقيقات وملفات تتعلّق بسرقات أدوية لغرض بيعها في السوق السوداء الكبيرة والمزدهرة في إسرائيل في مجال التّجارة بالعقاقير والأدوية المحظورة، وهي - كما ذكرت - سوق موازية لسوق المخدرات.

المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل هو أيضًا جزءٌ من الحرب، وسَقَط من أبنائه العديد من الضحايا خلالها، ومثل هذه الظواهر منتشرة في البلدات العربية، بسبب حالات الهَلَع والخوف لدى ذوي الحصانة النفسية الضعيفة، وبالتالي تعزّز الاتجاه نحو الكحول والمخدرات والعقاقير هربًا من واقع صعب ومرير، ليس فقط بسبب الحرب، بل أيضًا بسبب فقدان مكان العمل وحالات الإحباط والاكتئاب وغياب الأمل، وتدهور الحالة الاقتصادية العامة، يُضاف إلى ذلك ترك البيوت، وربما الغرق في ديون ناجمة عن تراجع الوضع الاقتصادي العام.

بَعد سنوات من التّعافي، عادوا إلى الإدمان

لا بدّ من الإشارة إلى ظاهرة أخرى خطيرة لأشخاص تعافوا من تعاطي المخدرات منذ سنوات طويلة جدًّا (أكثر من 10 أعوام) واليوم يعودون إلى ذلك المربع الأول. تخيّل إنسانًا كان مدمنًا وتعافى من الإدمان، وفجأة اليوم فَقَد عمله ومصدر رزقه! إنه قد يلجأ إلى المكان الذي كان يعرفه وهو المكان الذي تعاطى فيه المخدرات والكحول. كثيرون هم الذين عادوا في هذه السنة إلى المخدرات بعد سنوات من العلاج والتأهيل، ولا يوجد سبب واضح لهذه العودة سوى الضغط النفسي والاقتصادي والهلع وحالة القلق المسيطرة.

 بالإضافة لما ذكر أعلاه، طرأ ارتفاع على أسعار ما يسمى بـ "حشيش الكيف" أو "الماريحوانا"، حيث كانت تُهرّب من لبنان وسيناء، لكن نتيجة الاستنفار الأمني بسبب اندلاع الحرب على هاتين الجبهتين، أصبح المهربون يخشون على حياتهم ويمتنعون عن الاقتراب من الحدود، ولوحظ نتيجة ذلك ارتفاع كبير على أسعار هذه المخدرات التي يستهلكها مئات الآلاف في البلاد بشكل شبه يومي، حتى أصبح سعرها يضاهي الكوكائين والهيرويين، نتج عن ذلك توجّه البعض من هؤلاء إلى المخدرات المصنَّعة 'الكيماويات' من 'نايس غاي' وحتى 'الكيتامين' الذي لم نكن نعرفه (يستخدم في الطبّ البيطري) وهو مخدر قويّ جدًّا ويترك أثرًا عنيفًا في النفس والجسد، لكن بسبب عدم توفر البدائل يلجأ البعض إلى هذا المخدر على الرغم من كل أخطاره.

آثار نفسيّة بقيت منذ اجتياح لبنان عام 1982:

 السؤال الصّعب: هل تنتهي هذه الظواهر مع توقّف الحرب؟

مع الأسف، الآثار تستمر سنوات، فالذي يَدخل هذا العالم ربما يستطيع أن يتدارك نفسه ويقلع عنه مع انتهاء الأزمة (الحرب) في حال لم يصل إلى درجة التعلّق النفسي والجسدي إلى حدّ الإدمان، لكن قسمًا كبيرًا سيبقى يتناول هذه العقاقير والمخدرات حتى بعد زوال الأزمة، وهو ما تؤكده كلّ الأبحاث.

 أَتذّكر حالات لأشخاص بدأوا تعاطي المخدرات في الحرب الأولى التي شُنت على لبنان عام 1982 وما زالوا يتعاطونها حتى اليوم وهُم في السبعينيات من أعمارهم! هذا هو ضرر الحروب الأخطر من سقوط البنايات والدمار الماديّ، فهذه الآثار التي تصيب النفس البشرية ليس من السهل التخلّص منها، وبعضها ينتهي بالانتحار أو بالجنون.


[1] الوضع الصحي والنفسي للشبيبة في اسرائيل في اعقاب ازمة الكورونا -12/08/2021 - مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست.

[2] صدمة الأسر مقابل وباء كورونا 2024 - زهافا سولومون واخرين.

[3] تقرير وزارة الصحة الاسرائيلية يناير 2025 - ارتفاع حاد في تعاطي المخدرات ومسكنات الاوجاع داخل المجتمع الإسرائيلي.

[4] تقرير منظمة الصحة العالمية 2025 (WHO) - تأثير الحرب على تعاطي المخدرات والكحول في إسرائيل - يوسي هارئيل فيش.

د. وليد حداد

محاضر في علم الاجرام.

مديحة صياد طالبة من دورة الادمان
لفتني جدًا الربط اللي حضرتك عملته بين تزايد تعاطي المخدرات والمهدئات وبين الحروب والضغوط النفسية. فعلاً موضوع مهم يتم تسليط الضوء عليه الإنسان وقت يكون محاصر بالخوف والقلق بصير يدور على أي وسيلة للهروب أو التخفيف، حتى لو كانت مدمّرة يمكن اللي أخطر من الحرب نفسها هو آثارها النفسية الطويلة اللي بتمتد للناس كلها بحس إنو النقطة اللي طرحتها عن ضعف الحصانة النفسية بالمجتمع بتفتح الباب لنقاش واسع عن دور التربية، والدعم النفسي، وحتى الإعلام في بناء مجتمع أكثر وعي وصمود ممكن اكتر اشي صدمني استخدامهم للادوية البيطرية واستعمالها للانسان وصل الانسان لمرحلة جدا صعبة يستخذم اي شيء كان للهروب شكرا الك على تسليطك على موضوع مؤثر جدا في مجتمعنت
الجمعة 1 آب 2025
رأيك يهمنا