عامٌ كامِلٌ مِن حَدَث واحِد والحَصادُ هو البَقاء

عامٌ كاملٌ عشناه في لحظة تتكرّر كلّ لحظة، وحصاده في المُجمل هو حرب إبادة ومشاريع تصفية مكثّفة، وبقاء فلسطيني لا يمكن تجاوُزه حتى وإن تلمَّسنا ضعفنا في إنقاذ غزة. إنه حَدث تداخَل في حياة الناس وتسلّل إليها ليسيطر عليها معنويًا وفاجعةً وقهرًا في منحىً تصاعديّ. إنه مَشهد نَدَرت فيه البسمة وبات الفرح حالة فيها من الحَرَج أكثر من السعادة، تسيّدت الموقف حرب الإبادة وقد شاهدنا كلّ شيء وكلّ تفرّع منها، في جغرافيتنا الداخلية الخوف والقلق والقهر سيّد الموقف. ولا يزال السؤال والتساؤل يتكاثران بينما تستعصي الأجوبة بالمجمل، لكن لا بد منها.

في نظرة استدراكيّة لهذه الفترة التي قد تبدو زمنيًا قصيرة إلا أنها حقبة بكاملها لم يعد فيها شيء كما كان، ولن يعود كما يبدو إلى ما كان عليه، وربما يتطلّب هذا أن نتحرر ذاتيًا من فكرة أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه. حين ننظر إلى حالنا نحن الفلسطينيين في الداخل جزءًا مِن نظرتنا إلى حالنا نحن الفلسطينيين الشعب، نجد أن المعارك الصغيرة كانت هي القول الفصل في التحرّك الشعبي، وإلى أنه في اللحظة التي أدركنا فيها أننا نعود إلى مرحلة صراع البقاء السياسيّ والصمود الوجودي، فقد تم فيه تكسير حواجز ومراكمة جرأة لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب كي نحمي هوامش تحرّكنا بينما المنحى يُبقي الأمل مؤسسًا على التراكم.

بعد إعلان الحرب بأسابيع قليلة بدأت المساعي للتحرك، وكانت الخطوات مرتبكة ومحدودة وبوتيرة بطيئة، لكن هكذا يكون جسّ النبض وبإدراك شراسة المنظومات الإسرائيلية الأمنية والقضائية والمدنيّة التي تداخلت في نظام قهر واحد أقرب إلى المليشياتية تقوم باصطياد ضحاياها لمجرد وجودهم. لم تعد ممارسة أي حق سياسي مفروغًا منها، وباتت نوايا الناس في قفص الاتهام والعقاب المباشر.

حين ننظر إلى أين كنا وأين نحن اليوم بعد أربعة عشر شهرًا بتقديري فإن الطريق الذي قطعناه طَويل وشاقّ، ولا نشعر بطوله بسبب صعوباته وبطء المسيرة. في ذلك نوع من الاعتياد على روتين الحرب، لكن أيضًا على بناء قدرات للتصدي لحالة القهر المكثّف والمكشوف والمستدام. رغمًا عن ذلك لم نصل إلى مرحلة يستطيع فيها الفلسطينيون في الداخل التخفيف عن الأهل في غزة، أو عن الأسرى في السجون أو عن ملايين النازحين قسرًا. كما لم نصل إلى مراكمة القوة الشعبية السياسية المنظمة كي نستطيع أن نؤثر باتجاه وقف الحرب والتطهير العرقي الإبادي والتجويع القاتل.

بتقديري إن الإنجازات التي تحققت محدودة للغاية لكنّها جوهرية، فقد تراكمت جرأة في رفع الصوت في المستوى المحلي إجمالًا، وبالتأكيد لا أثر لهذه الأصوات على مواصلة إسرائيل حربَها، وهي حرب الإجماع القومي الصهيوني وليست حرب نتنياهو الذي تَعيبُ عليه المعارضة لكونه أقل جرأة في الفعل العسكري العدواني. وبتقديري لم تصل هذه الأصوات إلى شعبنا في غزة كي تخفّف من وطأة القصف والجوع والبرد والمرض والتشرّد والدمار الشامل وفقدان الأحبة كلّ الأحبة وفقدان المكان التي باتت من قصة هذا الشعب. إلا أن الأهمية الكبرى لهذه التحركات الصغيرة تكمن في صيانة النَّفْس الجماعية وفي الإبقاء على جذوة النضال الوطني والإنساني. إنها أدوات مصيرية في الدفاع عن البقاء الوجودي المُستهدَف وعن الضمير الجماعي المقهور، وفي مقاومة اليأس حفاظًا على الأمل مسلحين بالنَفَس الطويل وبالوعي.

قد يكون روتين الحرب ضروريًا كي نخلق توازنات ملائمة تجعلنا كجماهيرَ شعبٍ قادرين على حماية الوجود وترسيخ دَورنا، كما تجعلنا نُعيد مكانة للهامش الضروري للتحرّك تجاه أنفسنا وتجاه كل شعبنا الفلسطيني. ومن الضروري في هذه المعادلة أن ننظر أيضًا إلى المشروع الصهيوني المحاصَر بدوره. قد لا يعرف حدودًا للنوايا الاستعمارية الاستيطانية في عصر التطهير العرقي وجنون العظمة الذي يعتقد بأن قادة إسرائيل قادرين حقًا على تغيير الوضع في المنطقة وإعادة هندستها لتكون خالية من قضية فلسطين ومما أمكن من شعب فلسطين كما يطرح وزير المالية والوزير في وزارة الحرب سموتريتش في دعوته المباشرة والعلنية إلى تقليص سكان قطاع غزة إلى النصف، ليضاف ذلك إلى خطة الحسم القائلة بالضم وبتقليص سكان الضفة الغربية وتفكيك أي ارتباط لهم بالحق على المكان. هذه ليست نوايا وزير وإنما ذهنية حكومة ومنظومات دولة.

إضافة إلى النضالات الشعبية، رغمًا عن محدوديّتها، لوقف الحرب على غزة وعلى لبنان، كانت هناك نضالات شعبيّة بإمكانها أن تشكل نمطًا من الفعل السياسي يلائم المرحلة، وهو النمط القائم على الدمج بين القضايا المصيرية. على سبيل المثال، المظاهرة الجبّارة شعبيًا ومن حيث المضمون في باقة الغربية غضبًا على اغتيال مدير المدرسة الثانوية الأستاذ فهمي أبو مخ في إطار الجريمة المنظمة ودورها الوظيفي سلطويًا. إنها مسيرة كاسِرة لكاتم الصوت وسياسة الكبت الرهيبة. في هذه المسيرة كان الخطاب عن الجريمة وعن أمان المجتمع الفلسطيني وعن الخطر الوجودي وعن رعاية منظومات الدولة لهذه المنظومة الإجرامية، وعن حرب الإبادة والتطهير العرقي. وحين يكسر فعل كفاحي منظومة الخنق في موضوع محدّد أو يدمج فيها مواضيع عدة تكون مساحات التحرك الشعبي قد اتّسعت. هكذا حَدَث مع الحراك الإعلامي والقانوني والشعبي في مواجهة سياسة التطهير العرقي وهدم البيوت واقتلاع البلدات في النقب وآخرها أم الحيران، وهو مشروع استيطاني يربط بين المزارع الاستيطانية في منطقة الخليل والنقب وغزة في حال نجحوا في ذلك.

لقد راكم الحراك القضائي القانوني المحلي والدولي الإنجازات وهو مسنود بالبعد الشعبي أو التمثيلي، وإن كانت حالة فلتان ترهيبي مطلق لكل منظومات الدولة ولكل العصابات الترهيبية ولكل المؤسسات المدنية، وحصريًا الجامعات، وبمصادقة الجهاز القضائي في المجمل، فإننا نرى اليوم أن الوضع فيه تَزَحْزُح ليس بفضل هذه المؤسسات وإنما بفضل مثابرة مؤسساتنا الحقوقية والتمثيلية والشعبية، فعلى قدر نضالاتنا ومثابرتنا يتسع هامش تحركنا وتأثيرنا، وهو أقل من اتساع الحلم والأفق كما يقول مصدر هذه الاستعارة شاعرنا محمود درويش.

أسوق هذه الأمثلة للتأكيد بأن القهر ليس قضاء وقَدَراً ولا المشاريع الإسرائيلية التصفويّة لقضية فلسطين. كما أن الرهان الإسرائيلي على عودة ترامب إلى البيت الأبيض باعتباره فرصة لضم الضفة الغربية وشمال قطاع غزة هو أيضًا ليس قضاء وقَدَراً، فالعصا السحريّة ليست في يده حتى ولا العصا السحرية العدوانيّة، بل الكل منوط باللاعب الأول ألا وهو شعب فلسطين. والذي يشكل وجوده وبقاؤه على أرضه الحالة العصية على أي تجاوز. ومهما كان صادقًا الانطباع العام بانسداد الأفق بشكل مُطبِق، تبقى فسحة الأمل أقوى في حياة الشعب.

أمير مخول

باحث في مركز تقدم للسياسات

رأيك يهمنا