تفاصيلها "هِي" بقلمه "هُو" - جَندرية الصوت في زمن الحرب

كيف تُواجه النساء الحرب؟

كيف تُؤثر الحرب على حياة النساء؟

تختلف روايات النساء زمن الحرب عن تلك الخاصة بالرجال بعدة جوانب. فتركيز الرجال يَنصّب غالبًا على تفاصيل المواجهات واستراتيجياتها، وعلى تقييم مراكز القوة والضعف، بينما تهتم النساء في الغالب بالتفاصيل الصغيرة والأحداث الدقيقة التي تضيع في ازدحام التفاصيل العامة الكبيرة. وتميل النساء في شهاداتها الشفوية والمكتوبة إلى التعبير عن مشاعرها بحرية دون تقييد، حيث يشاركن تجاربهن مع الخوف والحزن والفقد والصراع والصمود والتحدي، بينما يركز الرجال على إظهار الشجاعة والقوة والصبر وإخفاء شعور الإخفاق. يحدث هذا بشكل خاص عندما يرتبط الأمر بعدم قدرة الرجل على القيام بأدواره المتوقعة منه مثل حماية البيت والعائلة.

تغطية الحرب الحالية الدائرة من وعلى وفي غزة، عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، العربية المحلية وغير المحلية، المرئية والمسموعة والمقروءة، لا يمكن أن تسرّنا أو ترضينا بالنسبة لدور المرأة الإعلامي والتوثيقي المهني. فبشكل عام وممنهج تعطي هذه الوسائل الأولوية للرجل فتقدمه حاملا تفاصيله العامة الى واجهة الإعلام وتقصي المرأة في الصفوف الخلفية فلا تتيح لها مساحة إعلامية كافية تستطيع من خلالها التعبير عن قدراتها في فهم وتحليل مجريات الحرب، وضمن هذا لا تتيح لها عرض تفاصيل ما تراه وتشعره وتقدّر تبعياته مستقبلا. 

في زمن الحرب، تتقولب المرأة العربية عنوة إما كمقدمة للأخبار وإما كمحاورة في قوالب نمطية جهّزت مُسبقا في غرف التحرير وإما كناقلة لحدث ما يضعها بمسافة بعيدة عن تفاصيل دقيقة تريدها، وإما كمعلقة جانبية، أو كضيفة محللة محصورة الحضور في مساحة البث وزمنه. بهذا الحال، يغيب صوت المرأة عن معظم منصات الإعلام أو يتحمل مسؤولية نقله رجل هو بالأساس مهتم بالتفاصيل العامة الكبيرة.

إن عدنا الى محور النكبة ومن خلال جريدة الاتحاد ممكن أن ننظر الى القصة القصيرة الفلسطينية كموروث تاريخي سجله فلسطينيون في إسرائيل عايشوا الحدث نفسه.  تحمل هذه القصص ميزات وتيارات واتجاهات أبرزها الرومانسية والرمزية والواقعية. وكانت القصة القصيرة في تلك الفترة تمثل أدبًا حدد سماته إميل حبيبي بأنه "أدب يخدم الشعب في نضاله، نحو سمو مستقبله، أدبا يثير الوعي الذاتي في نفوس الشعب، ويمنح الشعب فهم دوره". 

الى جانب ما ذكره حبيبي، يمكننا القول إن أهم سمات تلك الفترة هو وجود المرأة في نصوص القصة القصيرة المكتوبة كصوت متحدث وكمحور بارز تدور حوله ومن خلاله غالبية الأحداث. في هذا السياق لا بد وأن نلحظ سمة أخرى مفادها بأن الكتابة عن المرأة يتم بغيابها، فيأخذ الكاتب، بل ويستعمل صوتها ليصور مجتمعنا على محور النكبة ومآسي فترة الحكم العسكري بقلمه هو لا بقلمها هي، وبقصده وبتصوره هو، لا بقصدها ولا بتصورها هي.

إن نظرنا مثلا الى الدراسة التوثيقية لصالح أبي سيف والتي وثق بها لسبع وثلاثين قصة قصيرة نشرت في جريدة الاتحاد في سنوات 1967-1944 سنجد أن قلم النساء غائب تماما عنها.  بشكل مشابه، نلحظ غياب قلم المرأة عن الكتابة في القصص العربية الفلسطينية المحلية القصيرة التي جمعها حبيب بولس، حيث أنه من بين ستة وأربعين كاتبًا كتبوا ثمانين قصة بين سنة 1948 الى 1987 تحضر قصتان يتيمتان فقط لكاتبتين هما نجوى قعوار فرح وفاطمة ذياب.  

 والحقيقة أن تصوير واقع المرأة في فترة الحرب بقلم رجل حتى وإن كان مشاهدًا بارعًا هو موضوع شائك ومثير للجدل، فمثل هذا التصوير ممكن أن يقع تحت طائلة الاتهام بعدم الدقة. فلا يمكن لرجل أن ينقل تجارب النساء ومشاعرهن ووجهة نظرهن بتفاصيل تقارب ما يمكن أن تفعله المرأة في موقعه تجاه نفسها. ولكن إن أردنا الدقة سنصل في هذه الحالة الى النتيجة التي مفادها بأن الكتابة لا تمثل إلا قصد الكاتب نفسه. 

تصوير كاتب رجل لواقع امرأة في فترة الحرب ممكن أن ندخل إليه أيضا من باب "الجندرية" والتي تلفتنا الى بناء نظام اجتماعي ثقافي يُحدد الأدوار والسلوكيات والصفات المتوقعة من كل جنس. يُصنف هذا النظام الناس إلى ذكر وأنثى، ويُحدد ما هو "مناسب" لكل منهما. عبر هذا الباب يدخل الكاتب الصحفي والأديب العربي الشرقي الذي يحتاج لحضور المرأة في كتاباته لتعبر أكثر عن فيض مشاعره ورؤيته للتفاصيل، فيحافظ على اتفاقيات جندرية لا يخترق حدودها ظاهريًا، مع أنه يفعل ذلك بالفعل من خلال تقمصه الخفي لدور امرأة تنطق بلسانه ومشاعره، وهو بهذا يقدم منظورًا مختلفًا ويضيف الى تنوع أصوات القصص المَروية عن الحرب. مع التأكيد انه يجب ألا يختلط الأمر علينا، فتبقى هذه القصص منسوبة لهوية رجل حتى وأن صوّرت واقع امرأة ونُقِلَت وكأنها هي من تسرد تفاصيلها بصوتها.

نص "بوابة مندلباوم" لإميل حبيبي، والذي نشره ضمن "سداسية الأيام الستة" ممكن أن يساعدنا في سماع صدى صوت كاتب فلسطيني عايش النكبة وأراد أن يوثق واقعها من خلال تقمصه لدور امرأة. أشير هنا الى أن قلم إميل حبيبي في هذا الصدد ليس عاديًا، خاصةً أنه اعتاد منذ 1944 أن يكتب زاويته "أسبوعيات" في جريدة الاتحاد تحت إمضاء اسم امرأة هي "جهينة".

في القصة يكتب حبيبي عن والدته التي ستعبر من القد٢٠س الغربية الى القدس الشرقية عبر "بوابة مندلباوم" لغرضٍ لم يصرح به، وهو على الأغلب غرض ديني، حيث أن التأشيرات للعبور فترة الحكم العسكري كانت تُعطى في الأعياد المسيحية لزيارة الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم. حسب النص كان الخروج مشروطًا لمن يخرج عبر البوابة ألا يعود ابدًا منها. في الطريق نحو البوابة يصف حبيبي شعور والدته فيقول: " لقد بلغت الخامسة والسبعين من عمرها ولم تجرب ذلك الشعور الذي يقبض على حبة الكبد فيفتتها، ذلك الشعور الذي يخلف فراغًا روحيًا وانقباضًا في الصدر كتأنيب الضمير، شعور الحنين للوطن". في فيض وصفيٍّ للمشاعر ينسبها لامرأة يكمل حبيبي فيصف معاني مادية محسوسة صغيرة يستعملها لتشكل وقعًا أكبر لمعنى خسارة البيت والوطن في النكبة:" لو سئلت لاختلط الأمر عليها ...أهو البيت؟ إناء الغسيل وجرن الكبة الذي ورثته عن أمها؟ (لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها إناء الغسيل العتيق هذا، وأما جرن الكبة فلم تتجرأ على حمله؟) أو نداء بائعة اللبن في الصباح على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز أو سعال الزوج المصدور وليالي زفاف أولادها." حبيبي كان يعرف أن نقل هذه التفاصيل الجياشة سيكون وقعها أكبر على القارئ لأن التفاصيل تنسب لامرأة هي والدته.

  "قوت الأبناء" لأكرم أبي حنا نص آخر ممكن أن يشرح هذا التصور. في القصة يشرح أبو حنا حال أم قاسم والتي فقدت زوجها في النكبة وبقيت هي المعيلة لأولادها لتضطر أن تعمل كبائعة لبن: "فها هي السنة العاشرة التي تمضيها بنفس الشقاء اليومي. فكل يوم صيفًا وشتاء تحمل طنجرة اللبن على رأسها الى المدينة في الصباح وتعود ظهرًا بعد أن تبيعها وتشتري ببعض ثمنها بقايا خضرة ذابلة تجمعها وهي تتظاهر بأنها تشتريها لإطعام البقرة والدجاج" وعن ثمن هذا العناء يكتب أبو حنا عن تفاصيل مظهر أم قاسم "فجأة شعرت أم قاسم بشيء حاد يصدم باطن قدمها، ثم أحست بسائل لزج يتسلل بين أصابع قدمها. لا ريب أنها قطعة زجاج إذ أن الحجارة والأشواك لا تستطيع خدش قدميها اللذين اكتسبا جلدا غليظا." 

في الحقيقة المساحة القصيرة المتاحة لكتابة هذه المدونة لا تفي لعرض أوسع، ولكن من المهم جدا أن نذكر أن الحرب الحالية على غزة ستهدأ عاجلا أم آجلا شأنها شأن أي حرب سلفت. ولهذا، سنحتاج لمن يكتب لنا تاريخها وينقل تفاصيلها للأجيال القادمة. وإذا نظرنا للمدونات الخاصة بأهل غزة على منصة تويتر وفيسبوك وغيرها من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني فإننا، لا بدّ، سنلمح واقعًا بهيا تمارس فيه المرأة حريتها بالتعبير ونقل ما تريده كتابة وصوتًا وصورة بقوةٍ وحضورٍ غني التفاصيل. هذا كله يحتاج الى جمع وتوثيق علمي حتى يتحول من مادة أولية خام الى تاريخ مسجل ومكتوب. مهم أن نذكر في هذا السياق أن سطور كتب التاريخ وكذا الأبحاث العلمية، والشهادات الشفوية والمدونات المجموعة والمذكرات والسير الذاتية والروايات الأدبية المُصَوِرة للواقع، جميعها انتقائية، تتأثر بهوية وميول كاتبها سواء انتمى لفريق منتصر أو أقل انتصارًا. ولهذا نحن بحاجة الى جمع تاريخ متعدد المصادر والصور بقلم وصوت رجال ونساء من فئات عمرية مختلفة، فكلما كانت لدينا تفاصيل تاريخية أكثر كلما تركنا للأجيال القادمة صورة أوضح وأضخم أقرب الى الواقع، أحجار فسيفسائها ثابتة ملونة ومتعددة أكثر. وعلى هذا الأساس صوت المرأة الفلسطينية المؤرِخة والأديبة والإعلامية التي تكتب التاريخ بصوتها وقصدها وتفاصيل ما تراه وتشعره وتريد أن تنقله، يجب أن يصدح ويُعطى حقه - بقلمها "هي" وقصدها "هي". 

د. ميسون ارشيد - شحادة

باحثة ومحاضرة في العلوم السياسية في الجامعة المفتوحة وعضوة المجلس التربوي العربي

شاركونا رأيكن.م