العلاقة بين الكاتب والقارئ
هل تتخيّلون كاتبًا بلا قراء! وأنتم معشر الكتّاب هل تخيَّلتم مرةً أنَّ ما تكتبونه لن يقرأه أحدٌ! تصوّر أنَّه ما كان عليك سوى أن تجلس أمام حاسوبك ساعات وأيامًا وتكتب ثم تمحو كتاباتك، أو أنّ ما تكبته يُمحى تلقائيًا بعد أسبوع مثلا، دون أن يراه أو يعطي رأيه فيه أحدٌ، هل كنت ستكتب حينها! هل كنت ستكتب لقارئ وحيد هو أنت!
أعتقد أن الأمر ليس سهلاً، ليس للكاتب فقط، كل من يعمل عملاً إبداعيًا يحتاج إلى رأيٍ فيه، فعملية الإبداع تبقى ناقصة من غير المتلقي، الذي يتأمَّلها أو يشعر بمتعة وهو يقرأ أو يشاهد أو يأكل! الطَّاهي يريد أن يرى أثر طعامه على الناس الذين يتناولونه، هل أحبّوه أم لا! لهذا نرى الطّباخ في المناسبات، يطلُّ بين حين وآخر من مطبخه مراقبًا سير عملية الأكل، هل الناسُ مقبلون على طعامه أم لا! وما هو الطَّبق الذي أحبُّوه، أو العكس، ما هو الطَّبق الذي لم يقبلوا عليه ولماذا! وتنفرجُ أساريرُه إذا ما شعر بطلبٍ كبيرٍ على طعامه، فيفتخر ويقول: لم يبق من الطعام ولا حتى حبة أرز واحدة! وهذا مثل قول كاتبٍ ما" لقد نفدت النَّسخة الأخيرة من روايتي"! كذلك المغنّي، فهو يراقب ردّة فِعل الجمهور على ما يقدّمه في حفلات الزَّفاف مثلاً، ينظر المُغني إلى حَلَبَةِ الرَّقص وإلى الطاولات، ويتفاعل أكثر مع الجمهور إذا ما شّعر بحماسته، فيرُدُّ بالمزيد من العطاء والفن، وقد يُحبَطُ إذا ما شَعر بأنَّ الجمهور غير مكترثٍ ولا يتفاعل برقصٍ أو تصفيقٍ أو أيِّ تعبير آخر عن الاستحسان، والرّسام كذلك وال (دي جي)، كلُّهم يحتاجون إلى من يسمع أو يرى أو يقرأ أو يتذوَّق ما صنعوه وأثره عليهم، وطبعًا لا مسرح ولا سينما من غير مشاهدين، وقد تُفاجَأ بشخص ما يرسل إليك "على الخاص" لوحةً رسمها، ويطلب رأيك فيها، أو بعازفٍ يرسل إليك تسجيلاً لقطعة من معزوفاته، وسوف يفرح إذا كان ردَّك إيجابيًا، أو على الأقل إذا أعطيت رأيًا بما سمِعت حتى ولو ملاحظة نقدية، وسوف يشعر بانقباض إذا لم تُعِرْه اهتمامًا.
يحتاج الكاتب إلى قارئ، لأنّه أصلاً يكتب لأجلِ قارئٍ مفترض، سيقرأ كلماته ويتأثَّر بها سلبًا او إيجابًا! يكتب له كي يثيرَ انتباهَه وإعجابه، وقد يسعى إلى تقديم فكرةٍ جدِّية له، وليس إلى مجرّد تسليته.
مُخرج الأفلام السينمائية، يقصد إغراء المُشاهِد وإثارةِ فضولِه كي يدفعه للاستمرار في مشاهدة ما يعرضه عليه حتى النهاية، ولهذا مهما كانت الموضوعة التي نعالجها جدّية ومهمّة، فهي تحتاج إلى شكلٍ جاذب في التقديم، إنَّها تشبه تنسيق الأزهار، فكل زهرة جميلة بذاتها، وكل فكرة قد تكون جميلة بذاتها، ولكنها تحتاج إلى تنسيق مع غيرها من أفكار لتصبح أكثر سلاسة وجمالاً، يحتاج الفيلم إلى مشاهِد مِن التوتر والتشويق، ولا يكشف المُخرِج كل أوراقه في بداية رحلة المشاهدة، بل يبقي بعض الأمور الخفية إلى النهاية لإثارة فضول المشاهد.
على الكاتب أنَّ يتوقّع بأنّ بعض كتاباته لن تعجب بعض القراء خصوصًا، مثلاً إذا كانت تتطرق إلى السِّياسة من زاوية أو رؤية عميقة غير شعبوية، أو فكرة جديدة تحتاج إلى العقل أكثر من العاطفة، أو من زاوية تمسُّ أفكارًا اجتماعية جاهزة ومُقَوْلبة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالدِّين والمرأة والجنس، التي أطلق عليها الباحث السوري بوعلي ياسين "الثالوث المحرّم"، أو إذا ابدع شكلا جديدًا من أشكال التعبير، وإذا حاول هدم قناعات اجتماعية سائدة.
يبقى الأهم، وهو أن يقدّم المبدع قناعاته، وأن يكتب ما يؤمن به في أعماقه، وأن يكون حقيقيًا، حينئذ سوف يحقّق ذاته ومتعته، ويمكن القول بأنه ينتج أفكارًا، أو أنّه كان جريئًا في نقل أفكارٍ مختلفة عن السائد راودته، قد لا تصل الفكرة إلى أعدادٍ واسعة من القراء في المرحلة الأولى، ولكن العمل الجيِّد والأصيل يشق طريقه إلى الناس ولو بعد حين.
معروف عن الفنانين نرجسيتهم بعضهم يقلِّل من قيمة الآخرين أو يستهتر بهم، في معادلة مريضة وهي أنه كلما كان الآخرون ضعفاء كنت أنا الأقوى.
هذا ينطبق أيضًا على عالم الأدب، فبعض الكتاب يرى في الانتقاص من قدر وقوّة الآخرين قوَّته، فيهزأ ويتساءل ماذا أبدع فلان؟ وعلى ماذا يقدِّر الناس فلانًا؟ ثم يهاجم النُّقاد لأنهم مجاملون ومنطلقاتهم شخصية ولكن عندما يطلب منه رأيًا صريحًا فإنه يراوغ ولا يعطي رأيه.
في نهاية الأمر يحتاج الكاتب إلى قراء ، لأنه يكتب إلى الآخرين، وتبقى على الكاتب مسؤولية عدم محاباة القراء وخصوصًا أولئك الذين يعربون له عن إعجابهم بكتابته ومحبتهم له ، وأن لا يكتب فقط كي يرضيهم أو كي يواصلوا محبة كتابته، بل أيضًا أن يكتب ما قد لا يلقى ترحيبًا من أكثرهم، ما دامت هذه قناعته، فعليه أن يكتبها وسوف يجد في نهاية الأمر من يقدِّرها الصِّدق بغضِّ النَّظر اتفق أو لم يتِّفق مع الكاتب في ما يطرح.
سهيل كيوان
كاتب صحفي وروائي فلسطيني. ولد عام 1956 في مجد الكروم . يكتب في القدس العربي وفي موقع عرب 48. له عدد من المجموعات القصصية والروايات.