صرخة امرأة
في ظهيرة السابع من أكتوبر، وقبل أن تأتينا صرخات النساء في غزة، سمعتُ صرخة امرأة في ساحة بيتي، هرعت لأرى أم مروان وابنتها تبكيان وتصرخان: "قُتل مروان، قتل مروان". وهكذا تحول بيت أخ زوجي إلى بيت عزاء، كان فيه الألم الشخصي فاتحة للألم الجمعيّ الذي نعيشه لحظة بلحظة منذ ذلك اليوم، أثر مشاهد القتل والدمار التي تأتينا من غزة. وقد كنت تعرفت إلى مروان في أول مرة زرت بها غزة قبل ثلاث سنوات، حيث بقي في انتظاري لساعات حتى انتهى اليوم الطبيّ التطوعيّ في مخيم رفح، عندما التقينا قال دامع العينين :"انتِ من ريحة الحبايب" وأصر على اصطحابي الى منزله في خزاعة التي هدمت بالكامل عامَ 2014 وبُنيت من جديد. تعرفت إلى عائلته ثم أراني بتلهف بيتًا صغيرًا بجوار بيته أعدّه رغم ضيق العيش ليكون جاهزًا لاستقبال أمه التي تعيش في الجليل ولم يرها منذ سنين طويلة وعاش متأملًا أن يُسمح لها يوما بزيارة غزة. بعد ذلك قمنا بجولة في سيارته مع زوجته وابنه وأحفاده في كل أنحاء القطاع، رأيت حينها سحر هذه المدينه بشواطئها المليئة بالأطفال وشوارعها التي تعج بالناس المتعطشين للحياة رغم الفقر والحصار. كان مروان (51 عاما) سائق سيارة إسعاف في المستشفى الأوروبي، يعيش حياة إنسان مسالم مكافح يسعى بكدّ للقمة العيش، نجح في تعليم أبنائه وبناته رغم الظروف الصعبة. وفي أول غارة على غزة في السابع من أكتوبر، توجه مروان لإخلاء الجرحى، فقصفت سيارة الإسعاف ليستشهد مع زملائه على الفور.
توطدت علاقتنا بالنظام الصحي في غزة بعد أكثر من 100 وفد طبيّ تطوعيّ قامت به جمعية أطباء لحقوق الانسان في السنوات الـ 14 الماضية. من أجل فهم وضع الخدمات الصحية في قطاع غزة الذي يرضخ للاحتلال منذ 56 عامًا ويعيش تحت الحصار منذ أكثر من 16 عامًا، علينا أن نعرف أنّ 90% من الخدمات الطبية تعتمد على المستشفيات التي تم إنشاؤها بتبرعات من دول مختلفة بسبب عدم القدرة على تطوير جهاز صحي أولي.
منذ سنوات, يعاني هذا النظام من نقص حاد في الأدوية والمعدات، ونقص في الكوادر الطبية التي تمنع من تلقي التدريب خارج القطاع، وذلك في ظل وضع السكان الذين يعانون الفقر والاكتظاظ ونقص مياه الشرب والكهرباء وانعدام الأمن الغذائي.
منذ السابع من اكتوبر ألحقت إسرائيل بالنظام الصحي في قطاع غزة ضررًا لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وحتى في تاريخ صراعات أخرى في العالم، حيث تقوم بهجوم منهجي ومتعمد تسبب في دمار على نطاق لم نره من قبل، أدى إلى انهيار كامل للنظام الطبي والبنية التحتية الصحية، مما شل قدرته على تقديم العلاج للعديد من المرضى والجرحى.
كان هذا الانهيار نتيجة لشلل معظم مستشفيات قطاع غزة وجهاز الإنقاذ بسبب الهجوم المباشر عليها من الجو والبر، وكذلك من خلال توغل القوات العسكرية داخل المستشفيات وإلحاق الأذى بالطواقم الطبية والمرضى والنازحين الذين اتخذوا المستشفيات مأوى لهم من القصف المتواصل (تم تدمير 142 مؤسسة صحية، تم إغلاق 30 مستشفى و53 مركزًا طبيًا، حاليًا نتحدث عن 8 مستشفيات من أصل 36 في غزة تعمل في ظل نقص حاد في الوقود والأدوية والمعدات مثل المطهرات والتخدير والضمادات). فضلًا عن ذلك فقد تم استنزاف الطواقم الطبية بشكلٍ هائل بعد مقتل وإصابة واعتقال المئات منهم (326 قتيلا و350 جريحا و99 معتقلا).
ثمّة أضرار جسيمة لحقت بالصحة العامة نتيجة تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في قطاع غزة، والتي تسببت في تفشي الأمراض الفيروسية والأمراض الجلدية. هناك فئات سكانية معرضة للخطر بشكل خاص وكان الضرر مميتًا بالنسبة لها، كالمسنين والمرضى المزمنين كمرضى السرطان وغسيل الكلى. وكان بعض الجرحى يموتون على أرض المستشفى أمام عائلاتهم والطاقم الطبي العاجز، كل هذا في ظل عدم الموافقة على آلاف طلبات الخروج لتلقي العلاج خارج القطاع.
أما النساء فإن معاناتهن في ظل الهجوم الوحشي لا توصف، حيث تعرضت النساء الحوامل لمضاعفات الولادة بما في ذلك الإجهاض والولادات المبكرة وارتفاع معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة، وجميعنا يذكر مشهد الأطفال الخدّج الذين مات بعضهم أثناء الهجوم على مستشفى الشفاء لعدم وجود طريقة آمنة لإجلائهم. أن تكوني امرأة في غزة هذه الأيام يعني انتهاكًا كاملًا لحرمة جسدك وفقدانًا صارخًا لأيّ نوع من الخصوصية في ظل فقدان المأوى، الطعام، الماء والدواء، وفقدان أقل الوسائل للعناية والنظافة الشخصية. الكثير من النساء أنجبنَ في المدارس حيث نزحن، وأخريات في السيارات لعدم قدرتهنّ على الوصول إلى المستشفيات، أما النساء اللواتي أنجبن في المستشفى فقد تم تسريحهن بعد 3 ساعات من الولادة بسبب ضيق الحيز، وهناك نساء أجريت لهنّ عمليات قيصرية بدون تخدير. نرى شلل عيادات الأم والطفل ونقص وسائل تنظيم الأسرة ومنع الحمل، ناهيك عن أن نقص الغذاء والمجاعة له تأثير مباشر على الخصوبة والرضاعة.
تحظى المستشفيات والمرافق الطبية بالحماية الخاصة بموجب القانون الإنساني الدولي، ما تقوم به إسرائيل من هجوم على المستشفيات واستهداف الطواقم الطبية هو جريمة حرب يجب أن تحاسب عليها برأيي، فبعد مقتل مروان قُتل المئات من الأطباء والممرضين والمسعفين، بينهم زملاء عَمِلنا معهم أثناء زياراتنا إلى غزة.
استشهد مروان قبل أن يرى أمه، وبعد شهرين دُمّر بيته والبيت الصغير الذي بناه لأمه. لم تتحمل أم مروان الألم، ألم الفراق والخوف على من تبقى من عائلتها، فأصيبت بجلطة دماغية من شدة حزنها على غزة وأهل غزة.
تصوير: معتز عزايزة.
د. لينه قاسم - حسّان
طبيبة عائلة ورئيسة الهيئة الادارية لجمعية "أطباء لحقوق الانسان"