سُقوطُ "القِيَمِ" الكونيّة في "اختبار" حَرب الإِبادَة

طَرَحت الجرائم الفظيعة التي شهِدَتها الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها "الهولوكوست"، أسئلةً فلسفيّةً عَميقةً حول مشروع الحداثة والتنوير والاعتماد على العقل الإنساني في بناء المجتمعات والدول وإدارَتِهما. مشروع التنوير، الذي فَرَض بأنّ العقل الإنساني يتقدّم مع الوقت بمنحى إيجابي ويَبني مجتمعات أكثر أخلاقيةً وقادرةً على حماية قيم الحرية والإخاء والمساواة، وَجَدَ نفسه أمام أسئلةٍ وتحدّيات مصيريّة نقلت المجتمع الأوروبي والأمريكي إلى مرحلة ما بعدَ الحداثة، كما نقلت الدول ومؤسسات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية إلى مرحلةٍ من البحث عن سُبُلِ -والعمل على- منع تكرار جرائم الحرب بأنواعها كافة وعلى رأسها جرائم إبادة الشعوب.

بَعد عام مِن حرب الإبادة التي تَرتكبها إسرائيل ضد أبناء شعبنا في قطاع غزة، والعدد الرهيب من المجازر وجرائم الحرب اليوميّة في غزة والضفة الغربية ولبنان، باتَ واضحًا أنّ هناك عجزًا في المؤسسات الدولية تِجاه مَنع تكرار جرائم الإبادة وويلات الحرب خارج أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وليس الفشلُ في الحالة الفلسطينية فحسب، وإنما كان أيضًا في الحالة السورية، والسودان، واليمن، وليبيا، والكونغو، ومناطقَ عديدةٍ أخرى.

قد تكون هناك عوامل كثيرة تُفسّر هذا الفشل في منع ويلات وجرائم الحرب والإبادة في مرحلةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية. أودّ في هذه المقالة التركيزَ على أهمّ هذه العوامل بِرَأيي، وهو ازدواجيّة المعايير والتعامل العنصري الذي يميّز بين "الغربي" وكل من هو "دون ذلك"، حيث أنّ الفكر المؤسس للاستعمار الحديث المبنيّ على فوقيّة الإنسان الأبيض ما زال متجذّرًا في عقول عدد كبير من سكان الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. كان هذا الفكرُ العنصري محورَ التعامل المُختَلف بين الإسرائيلي والعربي منذ بداية حرب الإبادة في غزة، فكلّ مَن يتابع دور الإعلام الغربي منذ بداية هذه الحرب وتصريحات القادة والنخب السياسية في إسرائيل والغرب، تَصفعُه ازدواجية المعايير في قراءة الأحداث وتحليلها على مدار الساعة.

منذ بداية الحرب، أَدلى وزير الحكومة الإسرائيلي، ووزير الحرب في إسرائيل، ووزراء اليمين الديني ورئيس الدولة بعددٍ كبيرٍ من التصريحات حول نوايا ارتكاب أنواع جرائم الحرب كافّة، وعلى رأسها الإبادة. مِنهُم مَن وَصَف الفلسطينيين بحيوانات بشريّة، أو صرّح أنه لا يوجد أبرياء في قطاع غزّة، أو طالَبَ بقصف غزة بقنابل نوويّة. تم التعامل مع هذه التصريحات كلّها على أساسِ أنها مُحتَملة وشرعيّة. استمرّت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعامل مع الحكومة الإسرائيلية بعد هذه التصريحات والجرائم اليوميّة على أساس أنّها ليست فقط لاعبًا شرعيًا ومقبولًا في الخارطة الدولية، وإنّما شريكٌ استراتيجي يجب الاستمرار في حمايته ودعمه كلاعبٍ مركزيّ في "نادي الدول الديمقراطية". لم تُدلِ قيادة حركات المقاومة في فلسطين ولبنان بتصريحات شبيهة، ولا تستطيع ارتكابَ جرائمَ شبيهةٍ ضد الإسرائيليين بأي شَكل مِن الأشكال. إلّا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، لا يَرون فيها لاعبًا شرعيًا أصلًا، ويصِفوها بالحركات الإرهابية.

لماذا لم تُخرِج تصريحات السياسيين الإسرائيليين، وجرائمهم اليومية، هؤلاء السياسيين عن دوائر الشرعيّة في "الغرب الديمقراطي"؟ كيف يمكن أن نفهم استمرار استقبال بنيامين نتنياهو، المشتبه بارتكابِهِ جرائمَ إبادة شعب، في الأمم المتحدة، وإعطائه المساحَة للتحدّث عن حقوق الإنسان والديمقراطية وحربِ "أبناء النور" ضد "أبناء الظلام"؟. تَغلغلت أطروحة صامويل هانتينغتون حول صراع الحضارات في فِكرِ عددٍ كبير مِنَ المثقّفين والسياسيين وقادة الرأي العام في المجتمعات الغربية، مما أعاد الكثيرين لتبنّي فكرة وجود "أبناء النور" و"أبناء الظلام"، وأنّ الحربَ بَينهم حتميّة ولا يوجد أيّ أَمَل في حلّ الخلافات والصراعات سلميًا. يُمكنُ فَهْم ازدواجية المعايير في التعامل مع نتنياهو وغيره من القادة الإسرائيليين، في حقيقة أنّ هناك الكثيرين مِمّن يؤمنون فعلًا بوجود هذه الحرب، وأنّ الإسرائيلي هو جزءٌ من مجموعة "أبناء النور"، فيما العرب كلّهم جزءٌ من "أبناء الظلام".

شَغَلت حرب الإبادة في غزة، وما يجري في جَبهة الضفة الغربية ولبنان، وسائلَ الإعلام العالمية كافّة، وهناك تَغطِية على مدار الساعة لما يجري في هذه الحرب بتفاصيلها كلّها. لم نرَ مِثل هذه التغطية لويلات الحرب في سوريا أو ليبيا أو اليمن ولا في أماكنَ كثيرةٍ أخرى في العالم. الاهتمام إذًا هو لَيس بغزة أو الضفة أو لبنان، وإنّما في إسرائيل. لم تَعتقد وسائل الإعلام الغربية في السابق بأنّ ملايين الضحايا في الشرق الأوسط يستحقّون التغطية الإعلامية. المتغيّر في هذهِ الحرب هو أنّها بَدَأت بعددٍ كبيرٍ ولا يُمكن احتماله مِن الضحايا الإسرائيليين في السابع من أكتوبر، ومن ثمّ الحاجة لاستمرار التغطية لوجودِ احتمالٍ لوقوع ضحايا إسرائيليين آخرين، ووجود خطر على الاقتصاد والمجتمع في إسرائيل. التعاملُ العنصري والتمييزُ في الإعلام الغربي بارزٌ منذ بداية الحرب، بالرغم مِن اكتشافه عددًا كبيرًا جدًا من الأكاذيب الإسرائيلية.

التمييزُ الأكبر والأخطر هو في التعامل مع الضحية الإسرائيلية بشكلٍ مُختلف عن الضحية الفلسطينية. المواطنُ الإسرائيلي، المدني أو العسكري، لديه اسمٌ وعائلة ومجتمع يحزن عليه، ولديه تَفاصيل حياة كثيرة تُشبه تفاصيل حياة المواطن الغربي، ويحظى بتعاطفٍ كبير بشكل دائم. أمّا "الآخر"، وهم عشرات آلاف الأطفال والنساء والأبرياء الفلسطينيين، فهم أرقامٌ فقط، ليس لهم أسماء ولا أحلام ولا تفاصيل حياة أو عائلة تحزن عليهم. تمرّ الضحية الإسرائيلية بشكل دائم بعمليّة "أنسَنة" أمّا الضحية الفلسطينية، أو اليمنيّة، أو اللبنانية فليس لها أيّ اعتبار أو اهتمام.

حاز ضحايا السابع من أكتوبر في الحفلات المختلفة في غلاف غزة على تغطيةٍ إعلاميّة على مَدار مئات الساعات في شبكات الأخبار العالمية كافّة. أمّا آلاف الضحايا اللبنانيون الذين فقدوا أبصارهم وأطرافهم وحياتهم في أكبر عملية إرهابية منذ عمليات 11 سبتمبر (11.9.2001)، فتمّ التعاملُ معهم كأرقام فقط. لم نَرَ تغطيةً للألم والحزن والدمار الذي أصاب آلاف العائلات اللبنانية في العملية الإرهابية التي ارتكبتها إسرائيل، حتى أنّه كان هناك في بعض الأحيان انبهارٌ بهذه العملية الإرهابية. تفجير آلاف الأجهزة في الأسواق والشوارع والمدارس والمراكز التجارية، لَمْ يَبدُ بدرجة الشرّ نفسها من الاعتداء على ضحايا أبرياء إسرائيليين في السابع من أكتوبر. لماذا؟ لأنّ الضحايا ليسوا مِن "أبناء النور".

هذا بالإضافة إلى أسئلة الشجب والاستنكار التي توجَّه فقط للمحلّلين والسياسيين العرب كشرط أوّلي لإجراء مقابلة في الإعلام الغربي، مما يَضعهم في خانةِ الاتّهام والحاجة للدفاع عن موقفهم ويشكّك في شرعية مواقفهم وروايتهم. لا توجد لدى القائد أو المحلل العربي المساحة اللازمة للتعبير عن فِكره أو رأيه بحرّية لمجرّد أنه لا يتبنى الرواية الإسرائيلية للحدث. أمّا السياسي أو المحلل الإسرائيلي فلا تُفرض عليه بالحدّة نفسها أسئلةُ الاستنكار والشجب، كما أنّه لا يحتاج للدفاع عن روايته، حتى بَعدَ ثبات كَذِبها. مما يعني أنّ هناك قبولًا ضمنيًا للرواية الإسرائيلية، حتى وان كانت كاذبة، ورفضًا ضمنيًا لرواية ضحايا العدوان الإسرائيلي في غزة ولبنان.

مُنذ بداية الحرب، ضَرَبت قضيّة ازدواجية المعاييرِ القيمَ الإنسانية الكونيّة في الصميم. أصبحَت الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الانسان كافةً في خَطرِ أن تفقد معناها بسبب العنصرية والتمييز. أصبَحَ جزء لا يُستهان به من أبناء الشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي، الذي يشاهد يوميًا الدعم الأعمى لإسرائيل وجرائمها والتعامل المختلف بين الإسرائيلي والعربي، أصبح يشكّك في قيمة هذه القيم الكونيّة ومَعناها.

دون شكّ، حافَظَ خروج الملايين من أنصارِ القضية الفلسطينية إلى الشوارع في أوروبا وأمريكا والعالم لدعم الشعب الفلسطيني وقضيّته، بشكلٍ كبيرٍ على معنىً لهذه القيم الكونيّة، لكن ذلك لم يُسعف عشرات آلاف الشهداء، ولم يوقف حرب الإبادة المستمرّة منذ عام. مما يعني أنّنا بحاجة إلى إعادةِ بناء المؤسسات الدولية وتمكينها، بحيث تستطيع منعَ إسرائيل أو أيّ دولة أخرى في العالم من ارتكاب مِثل هذه الجرائم في أيّ مكانٍ في العالم. لقد فشلت الأمم المتحدة والصليب الأحمر وعشرات المؤسسات الدولية الكبيرة والمهمّة في تقديم الحماية الأساسية لأبناء شعبنا في غزة والضفة، أو في مَنع إسرائيل من استعمال سلاحِ التجويع والتعطيش والتنكيل والتعذيب اليومي للفلسطيني في تفاصيلِ حياته كلّها.

قد يَقود هذا الفشل إلى اتّجاهين معاكسين. الاتجاه الأول والأخطر هو اليأس وفقدان الأمل من المنظومة الدولية القائمة وإمكانية إصلاحها، مما يعني العودة إلى الوراء بشكل كبير في كلّ ما حَصّلناه في مشروع الحداثة. أمّا الاتجاه الآخر فهو العمل مرّة أخرى على إصلاح المنظومة الدولية القائمة وتَقْويتها وتَمكينها حيث إنها تستطيعُ منعَ جرائم الإبادة وويلاتِ الحروب وفظائعَها قدر الإمكان في المستقبل.

سامي أبو شحادة

أكاديمي وسياسي فلسطيني، مقيم وناشط في مدينة يافا، نائب سابق في الكنيست ورئيس حزب "التجمع الوطني الديمقراطي"

رأيك يهمنا