ناجِيَة بِقُوّة الأُمومَة، ماذا فَعَلَت بِنا الإبادَة!
"صَفّطِت ابْني.. عَظْمِة عَظْمِة..! حتّى أصبَح لُه كَفَنْ.!"
بِصَوتٍ مُرتعش ودموع متحجّرة قالت الأمّ الشابّة: "أنا حَضَنتُه وحَمَلته وعْمِلتلّه جَنازة.!"
هذا ما قالته إحدى الأمهات المَكلومات في غزة، بينما هي تَدفن بقايا ابنِها بعد أن أخرَجت جثّته من تحت الرُكام بعد بَحث طويل!
***
كَتَبت هذا "البوست" على صفحتي لأجد إحدى الأمّهات المَكلومات تُعلّق عليه قائلة: "عُقبال عِندي يا رَبّ أَلاقيهُم وأَدفِنهم، حتّى لَو عَظِمْ..!"
كان التعليقُ باسم كاتبتِه "رَجاء أكرم"، لَم أتوقّف عن البكاء..! كيف بَعد عام واحد تتحول أمنيات الأمهات الغزيّات بدلًا مِن الفَرح بالنجاح والاحتفال بالزواج والأحفاد إلى أُمنِيات مُخيفة مُفزِعة: أن يَجِدن عِظام أبنائهن! حتى يتمَكَّن مِن دفنهم في قبر يَليق بموتهم! كَيف أصبَحنا، وماذا فَعَلت بِنا هذه الإبادة..!
قلوبٌ مَشلوعة مَنْ تَكتُب ومَنْ تُعلّق ومَنْ تحاول ألا تفقد الإيمان بالعدالة الكونية، بَعد أن توقّفتُ عن البكاء الحادّ وجدْت نفسي أَبحث عن قصّة "رجاء أكرم" لأَفتَح صفحَتَها وأجد قلبًا مشتعلًا بالفقد والألم والوجع، ولأجدها ناجِيَة بِقُوة الأمومة وليس بمنطِق القوة، نعم، فَقد نجت بأعجوبة مِن موت محققّ مع عائلتها، فَقَدت زوجها وابنيها وأصيبت هي وابنتها، عاشت ويلات لا تراها إلا في كُتب الخَيال.
"أُمنِيتي أن أَجِد جُثت أولادي، عِظامَهم، حتى أستطيع أن أدفِنَهم وتنطفئ النار التي في قلبي".. هذا ما كتبَته الناجِية رجاء على صفحتها، وَجدتُ أمًا ناجية ومَكلومة، يحترق قلبُها كلّ يوم بَعد أن نَجَت بأعجوبة هي وابنتها بعد أن داست عليها الدبابة الإسرائيلية رغم أنّ جسدها مرئي للعيان.. رحلة النجاة مِن الموت كانت بحدّ ذاتها موتَها.. السيدة رجاء، هل يعرِف العالم حقًا ما مرّت به وما زال عَلَيها أن تمرّ به مِن ألم ومعاناة وقهر وحُرْقة قَلْب حتى أن أمنيتها فقط أن تجِد عِظام أُسرتها...!! تتطلع لكل خبر حول تسليم جثت مِن الاحتلال الإسرائيلي وتناشد دون أن يبدو أن هنالك مِنْ مُستمع..
لم أجِد سبيلًا لي كإعلامية وكاتبة إلا ترك مساحتي لهذه الأم المُلتاعة. أَترُكُها لها بِلُغتها، بِوَصْفها، بِمشاعرها، حتى نَشْعر ببعض ما عاشته ولا تزال تعيشه بَعد نجاتها...! وأدعوكُم قراءنا الأعزاء للدعاء لها أن تتحقّق أمنياتها بدفن أطفالها! كُنتُ سأحدّثكم عن الأمنيات بَعد عام مِن الإبادة، وها هي أغرب الأمنيات وأقساها مِن غزة!
نَعَم، أَقَلّ ما يُمكنني فِعله أن أترك هذه المساحة في مُدوّنتي لصوت رجاء، بِكَلماتها ومشقّة الموت الذي تَخلّصت مِن براثِنه لتقع في براثِن موت الحياة، فمَن يَنجو في غزة إنما يقع في موتٍ سَحيق، بينما لا يزال جَسده يئن تحت قسوة الحياة/الموت...!
"نِفْسي ألاقي جَثامين زوجي وولادي وأدفِنهم"
تقول رجاء حمدونة، زوجة الشهيد أكرم حسن الهربيطي:
"في تاريخ 6\6\2024 يوم الخميس قَبل المَغرِب بِشوَيّ كنت قاعدة بَخْبز عَ الصاج، وأحمد ابني كان بيساعدني بوضع الخشب، وجارتي اسمها "رواء مقداد" بِتْرُقّ باقي العجين والصْغار بيلعبوا حَوالينا، ما في ولا أيّ شيء حَوالينا، فجأة أجت طيارة إسرائيلية صارت تِقصُف بشكل عنيف عَ البيوت اللّي بالعزبة في رفح قرب الحدود المصرية، أصابنا خوف ورعب ما بَعْرف كيف مَسَكت كوم رمل وطفيت النار وأخذت باقي العجين رميته بالأرض وبسرعة دَخَلت الخيمة أنا وولادي وجارتي وولادها وكُلْنا انبطحنا ع الأرض وزوجي وصاحبه بحاولوا يهَدّوا فينا".
"بَعِدها بِشوي سكْتت الطيارة وبدأ القصف مِن الطرّاد البحري الإسرائيلي بشكل عنيف جدًا، طَلَب زوجي مِنْ صاحبه "محمد قاعود" إنه نجتمع أنا وزوجته وأولادنا بخيمتي وهما يضلوا برّة يشوفوا الوضع".
"قعدوا عنّا شويّ وبعد ساعة قرروا يرجعوا عَ خيمتهم اللي ما بتبعد عنّا سوى أربع أمتار، وخوف مِن الوضع المخيف اللي صار حوالينا جوزي (الله يرحمه) زرع بالأرض عمود ارتفاعه ثلاث أمتار تقريبًا وعليه راية بيضا حتى يِعرف الجميع إنه إحنا مَدنيّين".
وتكمل السيدة رجاء: "أَجا عبّود ابن جارتي بينادي: خالتو أم حسن بدّي صاج نتعشا، حكيتلوا خُذ يا حبيبي، ولَحْظتها سألت أول واحد مِن ولادي (أحمد) شو بدّك تأكل زعتر ولا جبنة، قال: زعتر مع جبنة. إلّا محمد (حبيب روحي) بقولي: لاااااا أنا يمّا بدّيش أكل، بخاف تشتغل معدتي، وأصير بدي أفوت الحمام، خَلَص الصبح باكل. صار أحمد يقول: وأنا كمان خلص بديش بناكل سوا الصبح..!
ناموا الأولاد بخوفهم وجوعهم...! طبعًا بهذه اللحظة ما كان في مجال حدّ يتحرك ولا يطلع، الساعة تقريبًا ١٠ المسا، قصف مِن كلّ فَج وميل، كلّه أصوات انفجارات قريبة ومرعبة، دبابات على طيران على طرادات بحرية مِن جِهة البحر، أصوات مُخيفة جدًا وإحْنا حاضنين بعض بخيمة..!
جوزي بِيراقب مِن باب الخيمة القصف كلّه عَ البيوت ومسجد الرحمة اللي بالعزبة (أو القرية السويدية متل ما بيحكوا عنها)، الأولاد بيتقلّبوا مِن الخوف، أنا بَرْجف قلبي ح يوقف صرت أتشاهد أنا وجوزي، ويضل يقولي: ما تخافي والله ما يضرونا بأمر الله بَسّ بِدْهم يقصفوا البيوت.
الوضع بيزيد للأسوأ، شُبّاك الخيمة مفتوح شايفين كلّ شي وإحنا وَلا حَرَكة ولا إضاءة ولا صوت، لدرجة اللي بدو يقضي حاجته مِن الأولاد بيستخدم سَلّة في الخيمة مِن الرعب والخوف.!
الساعة 4:30 الفجر تقريبًا شُفنا الدبابات وضوء أصفر قوي، بَحْكي لجوزي: والله دبابات كتيرة، إلّا طِلِع الضوء الأصفر جرافة كبيرة بَعِد ما قصفوا البيوت والناس فيها صاروا يجرفوهم.
"محمد وأحمد صاحيين، سوسو بْحُضني، إبراهيم بْحضن أبوه، أجا محمد ع الجهة اللي أنا متمددة فيها، وأحمد لِحْقه: يماا بِدنا ننام عِنْدك. قلت لمحمد: إنت روح في ظهر أبوك وإنت يا أحمد في ظهري. سألت أحمد: خايف يا عمري؟ قال: لأ، بَسّ لمّا قرّب مني ولصق فيّا حسّيت كأنه كهربا مَسْكَتني مِن كتر ما كان يرجف حبيبي.
ضلينا كُلنا نايمين وجوهنا بالأرض، الصوت قوي جدًا، أنا خايفة مِش متحملة ضغطي بالسما، قلبي وقف، جسمي مْكَسّر كلّه خوف، صِرت أحكيلهم: وَعِد أوّل ما يطلع النهار إلا غير نترك المنطقة ما دام وِصْلتها الدبابات، يعني مفيش، ما بنقدر نظل فيها".
"الفاجِعة حَدَثَت في 5:30 فجرًا"
تقول الأمّ: "الحَدَث الأليم صار ع الساعة 5:30 الفجر؛ قامت جارتي رواء عَ الحمام ومعها ابنها عبّود عمره ١١ سنة وحاملة راية بيضا بايدها، قَضوا حاجتهم ورجعت عَ خيمتها، ما لِحقت توصل الخيمة إلا دبابتين سريعات جدًا جايين علينا وبيطخوا جامد، أول شي سمعت رواء بتقول: "محمد محمد"، كان هو أوّل واحد يستشهد، وصاروا أولادها ينادوا يابا يابا، بَعِدها سَكَت صوتهم وزاد صوت الرصاص، إحنا تصاوبنا كُلنا،
أحمد. آخخخ يمااا.
أكرم يتشاهد ويكبر، أنا صِرت أتوجع من الإصابة وأتشاهد مِن شدة الألم لمّا دخْلت رصاصة برجلي، "سوسو" يا قلبي عليها صارت تتوجع وخايفة تِطْلع صوتها.
"محمد" يا عمري ما سْمعت صوته نهائيًا، كان أقرب واحد ع باب الخيمة رأسه انفتح نصفين.
الآن كلْنا مُصابين: جوزي بيِنْزف وقاعد يتشاهد، وأنا بطلّع مِن شباك الخيمة وأنا نايمة ع بطني ومصابة إلّا دبابة دَخلت عَ خيمة جيرانا عائلة قاعود ودعستهم ..!
صِرت أصرخ.. أكرم أكرم الدبابة جاية علينا والله جاية، راح جوزي وهو مصاب وبينزف رمى حاله فوق ولادي الثلاثة ع أساس يحميهم يا روحي، أما أنا ما بعرف كيف قمت وحملت سوسو مِن كتفها والجوال فاتح خط مع سِلفي، وحاولت أهرب مِن الباب الغربي للخيمة بَسّ ما لحقت أهرب أجَت الدبابة سريعة وقدّام عيني دعست جوزي وولادي وبعدها عليّا أنا...!
تضيف السيدة أكرم: "قسمًا بالله رفعت بنتي بأيدي الشمال ورفعتلهم إيدي اليمين وصِرْت أقولهم: لااااااا لأ لأ وأصرخ وشافوني سيدة مصابة ومَعي بنتي، لكن ع الفاضي دعستني الدبابة وبنتي بحضني، بَسّ هان كانت رحمة ربنا كبيرة وقدر لي النجاة، أنا غطست برمل ناعم جدًا وكثيف أنا وبنتي، دعست ع رجليا لآخر ظهري ولفّت عنّي على جهة ثانية.
أنا خَلَص شُفت الموت، أكيد أنا في نزاع، صِرت أتشاهد وأقول: إن للموت سِكِرات،
بَطّلع ف بِنتي كُلها بالرمل مْبين وجهها بَسّ تِمها، أنفها، عيونها كلّه رمل، لفّيت وجهي ع الخيمة اللي كُلها واقعة فوقهم، لمحت أحمد غرقان بدمّه بَسّ شفِت ظهره، والله كان في نَفَس بَسّ ما قدرت أعمل شيء ولا حتى أنادي عليه.
عَ جنب الخيمة جوزي مَع حلاوة الروح بيتقلّب ما شُفِت رجليه شُفته كلّه بينزف وأيده مبتورة، إلا هو بينادي عليا: رجاء حبيبتي سامحيني، "مسامحاني؟" قُلتله: "حبيبي يا أكرم مسمحاك والله".
أنا بطّلع في بنتي عيونها بيقلبوا إلا أنا بنادي بقول لجوزي:
"أكرم سوسو بتنازع، سوسو بتطلع بالروح".
"يا أكرم"، صار يحكيلها: حبيبتي ياسوسو، حبيبتي يا بابا.
صرت أحكي:
"أكرم اليوم الجمعة الأول من ذي الحجة، اليوم محمد وأحمد انولدوا.
صار يقول: الحمد لله الحمد لله.
فجأة إبراهيم بيِطْلع مِن بين إخواته بيِرْجف وبيبكي كلّه دَم.
أنا: فيكْ إشي يا حبيبي إبراهيم، فيك حاجة، قال: لا، خايف. قلتله روح بسرعة في حضن بابا، صار يقول: لا بدي آجي عندك إنتي وسوسو. طبعًا أنا بعيدة، يِمكن مترين ثلاثة بَسّ أجا إبراهيم ورا ظهري وأنا لِسة بالرمل، وما لحقت أتحرّك إلا صوت الدبابة بترج الأرض ورأسي صار يرجّ مِن قربها.
صِرت أحكي لابني وصوتي بيرجف: "أعمل حالك ميت يا حبيبي، أعمل حالك ميت"،
صار يبكي ويصرخ ويقول: ليش بدها تدْعسنا كمان مرّة هي جاية علينا؟!!
قلتله: آه بَسّ رُد عليا. طبعًا أنا مغمضة عيوني وخايفة مشّ مسترجية أفتح وأشوف الدبابة كمان مرة.
وفعلًا أجَت سريعة، وبعدها طِلعَت عَ الإسفلت ولفّت.
جوزي بيتشاهد وبنازع حبيبي وبقول الله أكبر الله أكبر..... إلا ابني وهو متخبي ورايا بقول: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، بفكر أبوه بيأذن...!!
ما بعرف قديش المدة اللي قعدنا ننزف فيها!!
أكرم ا(زوج رجاء) وإبينها محمد وأحمد الذين استشهدوا
فَجأة لَمَحت سيدة بتِجري، لمحتها معها أولادها وحاملة راية بيضا ناديت عليها قلتِلها: أمانة تأخذي ابني، فِشّ فيه ولا شيء مِش مُصاب.
قالت: وين آخذه. قُلتلها بيعرف دار سيده بمواصي خانيونس، أي حدّ ممكن يوصله.
قُلت لإبراهيم روح يا حبيبي روح مع خالتو وإحكيلهم وين دار سيدك قاعدين، راح يجري وهو بيبكي حافي غرقان بدم أبوه وإخواته، إلّا جوزي بقولي رجاء إحكيلها تبعت إلنا إسعاف...!
صارت الستّ تقولي: "والله يختي ولا إسعاف ولا صحافة والدبابات ورانا.."
راحت الست وبعدت عنيّ ما يقارب عشرين متر، لفّيت وجهي عَ جوزي ناديت عليه ما ردّ شكله وقتها استشهد، ما بعرف.
أنا صرت أفقّد في بِنتي لَقيت إصابتها في رجلها اليمين متفجرة.
سألتها: سوسو وين بدّك تروحي؟ رُدّي عليا؟
قالت: عَ خالتو هبة.
أنا في هذه اللحظة قرّرت أنقذ حالي وبنتي عشان خاطر ابني اللي ضل لحالو، وبنتي اللي فكّرت فيها، مُمكن أنا أضل أنزف واستشهد وتضل بنتي عايشة يقوموا ياخذوها اليهود يعملوا فيها شي...! هذا اللي كنت أفكر فيه، وأنا في قمة الرعب والخوف
جَمَعِت كلّ قوتي اللي ربنا أعطاني إياها، وعملت حركة السجود ع إيديا ورجليّا وقلت لسوسو يلا يا عُمري اطلعي ع ظهري، حطي ايدك ع رقبتي اخنقيني عشان نروح ع خالتو، وفعلًا حطّيت بِنتي عَ ظهري وبلّشت أزحف، وأنا بنزف ورجلي بتنزل قطع لحم ودم، وبتاكل رمل وأوساخ، بَسّ معلّش كل همّي أنقذ نفسي وبنتي، فشّ ولا مخلوق إلا الدبابات.
الطفلة الناجية سناء / سوسو (3.5)
بَعد ما زَحفت ما يقارب ٦٠٠ متر بلّشت الأرض تِقسى، وقرّبت أوصل اليابس، كان كلّ الزحف ع الرمل، رَميت حالي وصرت أصرخ بعالي الصوت: "يا رب القوة من عندك، يا رب عشان خاطر إبراهيم وسوسو يارب".
"صوتي وِصِل سابِع سما
بَسّ ما حدّ سمعني من الناس"
تذكرّت إنو اليوم الجمعة، بدأت أقرأ سورة الكهف، بِنتي بِدها مَيّة: ماما عطشانة. قُلتلها: وأنا والله بدي مية، وصرت أحاول اطلّع الرمل مِن تِمها وعيونها وأنفها، كلّ ما أتحرّك القنّاص يْطُخ مرّة عَ غرف الصيادين اللي ع شمالي، ولإشي جمبي بالرمل، وهان تصاوبت بإيدي ع الأغلب، الوَجَع الكبير إنه كان الذُبّان يفوت بجرحي وأكل وجه بنتي، صرت أحاول أغطى وجهها بإسدال الصلاة اللي أنا لابساه، وأنا أحرّك رِجليّا إنو الذبان يطلع، أبدًا! مِتْجمّع ع الدم. كان في طَلَق مِتْفجّر برجلي اليمين مِن تحت، استسلمت وصرت أطّلع بالسما وأتشاهد، سَحَبت بِنتي بْحُضني أكتر، وكُلّ ما أتحرّك يطخوا علينا.
رَفَعت رأسي: في حَد هاااان؟ حَدّ سامعني؟ إلّا راجل متداري جنب حيط بقولي: مين؟!! قُلتله: ساعدني، أنا مُصابة. حكالي: تعالي لَتِحِت شوى، ما بَقْدر أوصَلّك لأنه فِعليًّا كان القناص و"الكواد كابتر" منتشرة في المكان، قلتله: بِنتي مَعي مُصابة والدبابة دعْستنا، مِش قادرة..! ورجعت نِمت ما بَعرف فقدت الوعي وقتها وإلّا لأ.
فجأة رَحمات ربي وِصلتني عَن طريق سِتّ طالعة هي وأولادها؛ كاينة محتمية بجدار الحدود المصرية مَع جوزها وولادها، ولأنه معها جوازات مصرية طلّعوها بَسّ اعتقلوا جوزها!
صرت أنادي عليها: أمانة تساعديني! خُذي بنتي ع أقرب مستشفى إصابتها مِش خطيرة كتير، صار ابنها الصغير يعيّط ويقولها: لأ يما يلا إمشي الدبابة وَرانا. كانت حاملة إشي عَ كتفها أظن لْحاف، قُلتلها: أمانة إرمي العفِش، والله كلّه بتعوض، إعملي شي مع الله خُذيها أمانة خذيها. الحمد لله رَبنا حّنن قلبها، قالت: والله لآخذها وهذه أمانة معي، الحمد لله بنتي مَع الستّ، بَسّ بردوا أنا لازم أعيش عشان ولادي، فِشّ إلهم حَدّ.
فجأة، سْمعت صوت، رَفَعت رأسي على بُعد ١٠٠ متر تقريبا إِبِنها للستّ اللي أخذت بنتي (عمره يمكن ١٥ سنة) بنادي بصوت عالي: بقولك الزلمة اللي بدو يساعدك إنزلي ناحية البحر إله ساعة بِستنا فيكي. رحِمتك يارب، أنا مش قادرة وريحة دم كتير، رفعت إيدي الأرض غرقانة دمّ ورجلي بتنزف، الآن الشي صعب جدًا، لازم أقطع الأسفلت، وطبعًا كلّه حجار وشظايا وساخن جدًا، وغير هيك مَش قادرة أزحف بنفس الطريقة ع الإيد اليمين والشمال، فرُحت نزّلت البنطلون ع رجلي وغطيت الجرح، ولقيت حَبِل رَبطت رجلي، وصرت أحاول أزحف ع رجل وإيد الجهة الشمال، زحفت ع أوساخ ومية وحجار عذاااااب، لَحدّ ما قْدرت أوصل طرف أوّل حيط مِن غرف الصيادين، أجت بِدها توقَع لأنها مَقْصوفة، استجمعت قوتي، حاولت أسند نفسي ما قدرت، بَطّلع فوق رأسي شُفت "كواد كابتر"، صِرت أشاور إلهم بدون وعي، بدّي أي حدّ ينقذني، ويِمكن يحنوا عليّ، لكن عَ الفااااضي.
كمّلت زَحف، لمّا صرت عَ عتبة بلاط ووجهي عَ البحر لقيت الطراد في وجهي، بَعد شوى إلا اتنين شباب بيحكوا يَختي حاولي قربي شوي عشان في قناص. قلتلهم: مش قادرة خلص، كانوا بعيد عني يمكن ٣٠ متر وقريب منهم قنية مية قُلتلهم: بدي أشرب.
أجوا الشباب بجانب الحيطان لحدّ ما وصلوني وحَمَلوني لعند آخر غرفة قريب منطقة العَلَم، لقوا حرام حطّوني عليه وصاروا يسحبوا فيّا ع الأرض، طبعًا كُلّ وَجَع الدنيا معي الآن، مِشْ مِتْحملة تحتي حجار والشمس في وجهي، ياااااالله قدّيش تعبت لَحدّ ما لقوا سيارة، وبعدها إسعاف، حطّوني بالإسعاف، وأنا بناجي ربي، أعطوني أي شي بدّيش أحس بالوجع، ظَهري، رِجليا، دَعستني الدبابة أمانة، المُسعف قلّي: تْحملي شوي يختي، والله ما مَعنا شي. رَفَعت رأسي وفتّحت عنيّا، أخويا محمد فوق راسي:
"يمااا إنت محمد أخويا إنت محمد؟" آه يَختي، مَتْخافيش، طيّب إبراهيم، شُفته، الصليب وصّلوا عنّا، وهو اللي حكالنا كلّ شي.
طيب "سوسو" أمانة ما شفتها؟ والله يختي لقيت شَبّ متصاوب، رحت أسعفه لقيت بنتك بحضنه، وفاقدة الوعي، أخذتها عَ المستشفى وهي الآن بالعمليات، أخذوني عَ مستشفى الميداني برفح بدهم يحملوني قُلتلهم: أمانة بِشويش الدبابة دعستني، الدكاترة فكّروني بَهَلوس، قُلتلهم: يِشهَد ربّي عليا الدبابة دعستني أنا وبنتي، ما بَعرف بَعدها كيف دخّلوني عَمليات وشو الّلي صار، بَسّ صحيت ووعيت لقيت أهلي كلّهم عندي، وأنا عَ سرير وبنتي جنبي عَ سرير تاني. طيّب أمانة جوزي وولادي وينْهُم حدّ جابهم؟؟!!!
اثنين وأربعين يوم ما حدّ بيعرف شو صار بالجثث لأن الجيش رافض أي تنسيق ومانع حدّ يفوت هناك، استشهد جوزي وولادي محمد وأحمد مُهجة قلبي ونور عيني، استشهدت جارتي رواء مقداد وزوجها محمد قاعود وابنها عبود وبنتها الملكة أيلول وابنهم اللي نولد بالحرب وسام عمره سبع شهور، قَعَدت بالمستشفى شهر ما بقدر أحرك حالي، عمِلت خمس عمليات كانت رجلي معرّضة للبتر، لكن رحمة الله فوق كل شي، إصابتي طلق متفجر برجلي اليمين وأربع كسور وتهشّم بالعظم مع إصابة بأيدي اليمين، وبعض الشظايا ورضوض في ظهري وباقي جسمي مع تمزق بالأوتار، بنتي طلق متفجر بالرجل اليمين وكَسر، مع كَسر وخَلع برجلها الشمال بالإضافة لرضوض وكدمات بظهرها.
وتختم الأم الناجية بقوّة الأمومة: "والحمدلله على كلّ حال، نفسي ألاقي جثامين زوجي وولادي وندفنهم، أمنيتي أشوف بنتي بتلعب وبتمشي زي زمان وأنا أقدر أقف ع رجليا، وربنا يحمي ابني ابراهيم ويعيني ع تربيتهم ياااارب".