صحفي يبحث عن 6 لتر بنزين
"تربطني بساجي الشوا علاقة صداقة متينة جداً منذ أكثر من 11 عاماً، وأذكر تماماً مكالمته الهاتفية الأولى معي عام 2012 حين أراد أن يستضيفني في برنامجه الإذاعي على راديو ألوان للحديث حول الشباب الفلسطيني والصعوبات التي يواجهونها في ظل الاحتلال والانقسام.
إن هذه المقالة لم تخرج إلى الضوء إلا بعد معاناةٍ في التواصل مع ساجي... لم أتوانَ للحظة من التواصل مع ساجي عندما طلب مني فريق تحرير منصة "فارءه معاي" ترشيح إعلاميٍّ لكتابة مقال لعددهم القادم لشهر شباط. استطعت وبمعجزةٍ أن أتواصل هاتفياً مع ساجي، يوم الثلاثاء التاسع من كانون الثاني، وأخبرته بدعوة المنصة له للكتابة... رحّب بالفكرة، وانقطع الاتصال معه من وقتها.
تفاجأت صباح يوم الأحد الرابع عشر من كانون الأول، برسالة "واتساب" من رقمٍ لا أعرفه، فيه مقالة ساجي، بعنوان "صحفي يبحث عن 6 لتر بنزين" وفيها يقول هذا الشخص: يبلغك ساجي تحياته ويرفق لك المقالة مع نبذة شخصية عنه ويطلب منك زيارة صفحته الشخصية على الفيسبوك لإرفاق صورتين له مع المقال، إحداها شخصية، والأخرى صورته خلال النزوح، وسيتواصل معك عند رجوع خدمات الانترنت والاتصالات.
لا أعلم من أرسل لي الرسالة، وما علاقته بساجي، وما إذا كانوا بخيرٍ أم لا.... ولكن ما أعلمه أنني لم أقوى على الرد على هذه الرسالة، خوفاً من أي معلومةٍ لا أرغب بسماعها..... ولكنني أرسل لكم هذه المقالة نيابةً عنه!"
الصحفي والناشط أحمد ياسين
دون أيّ مقدمات، إن العيش داخل دوامة الحرب يجعل الإنسان يفقد الإحساس بالحياة، فبارود الحرب المستمر ضد قطاع غزة لليوم الثامن والتسعين (لغاية تاريخ كتابة هذه المقالة في الثاني عشر من شهر كانون الثاني من عام 2024) جرفَ كل التجارب والذكريات التي عاشها الفلسطينيون بغزة قبل تاريخ السابع من أكتوبر العام الماضي. الوضع الإنساني اليوم في غزة كارثي، خاصة مع استمرار القتل والقصف والتنكيل وانقطاع الكهرباء والمياه، إضافة إلى مآسي النزوح التي أصابت أكثر من مليوني إنسان بالذعر والقلق من المصير المجهول وأنا واحد منهم، فحياتي كصحفي ورب أسرة تغيرت 180 درجة بعد تدمير بيتي في اليوم الثالث من الحرب بعد استهداف منطقة غرب مدينة غزة بوابل كثيف من الصواريخ والقذائف، وما زاد العبء هو اضطراري للنزوح مع أكثر من خمسين فرداً من عائلتي للعيش في شقة واحدة بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
قبل الحرب بأسبوع كنت قد أنهيت تدريب عشرين صحفياً وصحفية على صناعة البودكاست بغزة، تركز التدريب على إنتاج خمسِ حلقات عن معاناة الفئات المهمشة كالنساء وكيفية إبراز أصواتهنّ للعالم بشكل مهني ومؤثر. اليوم مع اتساع رقعة الحرب التي طاولت محافظات قطاع غزة كافة، بات عمل الصحفيين أصعب لإيصال أصوات آلاف النازحين والمكلومين الذين يفترشون الخيام في الشوارع وبظروف غير إنسانية وتحت المطر، وبصراحة ما تعرضه شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي من المأساة بغزة يعّد جزءًا بسيطًا من حجم الكارثة على الأرض، فحتى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة تعرضت هي الأخرى للقصف.
أما عن عملي كمسؤول إعلام في مؤسسة إغاثية، أقوم بزيارات مستمرة للمستشفيات والمدارس التي تحولت لمراكز إيواء للنازحين، وللأسف في كلّ زيارة تزداد المشاكل بسبب قدوم أعداد جديدة من النازحين، مما شكّل عبءًا إضافيًا على مقدمي الخدمات داخل تلك المراكز، فتوفير الطعام والمياه ومواد النظافة الشخصية بات أصعب في ظل استمرار إغلاق المعابر الحدوية مع غزة. أذكر تلك السيدة النازحة أم يوسف "58 عامًا" التي كانت تبكي أثناء إجرائي مقابلة معها في مستشفى الأمل بخان يونس جنوب قطاع غزة، وتحدثت عن خوفها من تدهور صحة ابنتها "21 سنة" التي تعاني من مرض السكري "النوع الأول"، وبسبب شحّ دواء الأنسولين بالصيدليات والمراكز الصحية فقد تتوفى وتخسرها في أي لحظة.
مع كل يوم يمر، يستشهد في غزة ما يزيد على 60 إلى 100 شخص، غالبيتهم من الأطفال والنساء وهو أمرٌ لا يمكن استيعابه سواء للناس أو حتى للصحفيين الذين يواجهون تحديات صعبة في الميدان، فأكثر من 100 صحفي تعرضوا للقتل بسبب الاستهداف المباشر من الجيش الإسرائيلي، ومنهم مدير بيت الصحافة الفلسطيني الشهيد صهيب جاد الله والشهيدة الصحفية الطموحة آيات خضورة وغيرهم، إضافة لتعرض أماكن التغطية الصحفية للقصف، وكذلك المعضلة الكبيرة المتمثلة بانقطاع الاتصالات والإنترنت باستمرار منذ بدء الحرب، مما فاقم من صعوبة التواصل لإرسال ونشر المواد الإعلامية المنتجة.
لم أتخيل يومًا أنني سأشتاق لحياتي الطبيعية التي كانت قبل الحرب والتي نسيت أجزاءً كبيرة منها بسبب التوتر الذي أعيشه والخوف على عائلتي الصغيرة، فهذه الحرب مختلفة بتفاصيلها الصعبة عن حرب 2014 على سبيل المثال، اليوم زادت المسؤوليات على كاهلي كأب، فمطلوب منّي أن أقوم بتوفير الطحين والحطب في ظل توقف المخابز عن العمل بسبب تعمّد قصفها من الطائرات الحربية الإسرائيلية وانقطاع الكهرباء والبنزين لتشغيل المولدات الكهربائية، وبما أنني ذكرت موضوع البنزين، فقد انقطعت بي السبل بحثاً عن 6 لترات فقط لأملأ بها سيارتي استعدادًا للرحيل الآخر المتوقع إلى مدينة رفح في أيّ لحظة. سعر اللتر الذي كان في اليوم العادي 7 شواقل، صار اليوم 100 شيقل في ظل أزمة شح الوقود وغلاء الأسعار.
لربما لا يعرف الجميع أن رحلة التغطية الإعلامية في هذه الحرب المجنونة محفوفة بالمخاطر، فالأسئلة التي تراودني قبل خروجي للميدان، أي الطرق سأسلك؟ وهل سأرى الدبابات على الطريق؟ أم أن صاروخَ طائرة استطلاع سيضربني في أيّ لحظة؟ ناهيك عن خوفي من أن تتعرض أسرتي للأذى من قصف مباغت للمنطقة، وهذا القلق سرعان ما يتبخر عندما أعود للبيت وأجد زوجتي وطفلي وأهلي بخير.
أصبح من الواضح جليًا أن لهيب الحرب سيبقى مشتعلاً حتى بعد انتهاء الحرب، ولكن هذا لن يثني الصحفيين في غزة عن الاستمرار في تأدية رسالتهم رغم تغوّل الجيش الإسرائيلي واستهدافه المستمر للصحفيين، ضاربًا عرْضَ الحائط بالقانون الدولي الذي ضمن توفير الحماية للمدنيين الأبرياء، وخاصة للعاملين في مضمار الصحافة. وستبقى غزة مسرحًا للأخبار بعد الحرب لأنّ إعمارها سيحتاج لمعاول أبنائها وتوثيق صحفييها للقصص المأساوية التي ستظهر بعد انتهاء هذه الحرب الكارثية.
ساجي الشوا
إعلامي فلسطيني من سكان مدينة غزة، حصل على درجة البكالوريوس بالعلاقات العامة والإعلام من الجامعة الإسلامية بغزة.
شغل منصب مسؤول العلاقات العامة والاتصال بعدد من مؤسسات المجتمع المدني المحلية والعربية منذ عام ٢٠١٠، إلى جانب حبه لمجال الراديو فعمل مقدماً للبرامج المتخصصة بقضايا الشباب والمجتمع بعدد من الإذاعات المحلية وترأس قسم البرامج والتدريب براديو ألوان من عام ٢٠١٣ حتى أواخر ٢٠١٩.
يحب مجال التدريب فعمل كمدرب متخصص بمواضيع الكتابة الصحفية والعمل في بيئة الراديو والبودكاست وساهم في تدريب حوالي ٣٠٠٠ صحفي وصحفية منذ عام ٢٠١١ إلى اليوم.
شارك في تقديم الاستشارات لعدد من المؤسسات حول كيفية تطوير الخطط التسويقية والإعلانية الخاصة بالعلاقات العامة والتعامل مع الجمهود وله عدة مشاركات إعلامية بالتلفزيون والراديو والمؤتمرات تناولت قضايا الشباب والنساء وقضايا المجتمع.