الكثيرون منا يحلمون بذلك اليوم الذي يصبحون فيه أباً أو أمّاً، وعند سماع خبر الحمل قد يتخيلون أطفالهم المستقبليين ويرونهم كأطفال هادئين، لطيفين، مبدعين ومهذبين. أما عن أنفسهم، فمعظمهم قد يشعرون بمسؤولية كبيرة وتغمرهم الحاجة إلى حماية ذلك الطفل أو الطفلة حتى من قبل أن يولدوا، حتى أن قسماً كبيراً منهم، وخاصة من عانى من النقص أو نوعاً من الفقر، قد يبدأ بتوفير المال حتى يلبي لأطفاله جميع احتياجاتهم مع التمني بألا يشعر طفله بأي نوع من أنواع النقص طيلة حياته. آخرون، وخاصة ممن أغدق أهاليهم عليهم المال، يحلمون ببناء علاقة عاطفية قريبة من أبنائهم، وحتى أنهم يريدون أن يكونوا أعز أصدقائهم وبيت أسرارهم. لكن دعوني أخبركم سراً: لم يولد بعد في عالمنا هذا ذلك الطفل الذي لم يشعر بأي نقص، إن كان مادياً أو عاطفياً، وذلك لأننا نعيش في عالم ثنائي وقطبي. وكي نعرف معنى الوفرة يجب أن نعرف معنى النقص. بالإضافة الى أن الانسان مخلوق مركب جداً من الناحية النفسية، وما يؤثر على تركيبته هو الموروث الجيني الذي ورثه عن والديه، والبيئة التي وُلد وترعرع فيها. 

ذات مرة، كان الناس يعتقدون أن الطفل يولد لوحاً أبيض وأن الوالدين يكتبان عليه كل ما يريدان. ولذلك، يشعر العديد من الأهالي بمسؤولية كبيرة تجاه أبنائهم ويحاولون فعل الأفضل من أجلهم، وعند كل تقصير يشعرون بالذنب الكبير. أنا لا أنكر أن الشعور بالذنب يساعد الوالدين على محاسبة النفس ورفع سقف توقعاتهما من نفسيهما. إلا أن الشعور الدائم بالذنب قد يجعل الوالدين ضعيفين أمام أبنائهما الذين هم بأمّس الحاجة لوالدين قويين كي يكونوا أطفالاً وبالغين واثقين أكثر بأنفسهم ولديهم تصور ذاتي إيجابي. أنا هنا إذاً لأذكركم بأن صفات طفلكم وطباعه التي قد ورثها عنكم أو عن أحد افراد عائلتكم تؤثر، هي أيضاً، على نمو الطفل وتطوره وأنتم لستم المسؤولين الوحيدين عن تطوره السوي. مع ذلك، هناك أمور عليكم القيام بها وقد تساعدكم في رحلتكم الوالدية وتساعد أطفالكم في مراحل نموهم المختلفة، التي سأتطرق إليها لاحقاً.

اما الآن، وكي نفهم موضوع الوالدية أكثر، سأعطيكم مثالاً: عند التوجه للقبول لأي عمل، قد يسألونك عن الشهادات التي بحوزتك، أو عن خبرتك في ذلك النوع من العمل. أما عند التوجه لبناء عائلة، فالجميع يتوقع منك أن تقوم بذلك بدون أية شهادات أو أية خبرة. كما أنك في الحقيقة قد تكون شخصاً ناجحاً جداً في مجال عملك، حتى أنك قد تدير شركة مع أكثر من مئة موظف، ولكن في داخل بيتك قد تشعر بالفشل أو بأنك فاقد للسيطرة، وخاصة إذا كان طفلك ذو الأعوام القليلة هو الذي يتحكم بك ولا يسمع كلمتك، بتاتاً. والذي أود أن أقوله هو أننا جميعاً بحاجة لأن نتعلم ونتخصص وأن نصبح خبراء في تربية أبنائنا، وأن ذلك لا يتم إلا عند توجهنا لتلقي استشارة مهنية من مختصين في مجال علم النفس والوالدية، أو بعد توجهنا لتلقي علاج نفسي ذاتي.

أما نصائحي لكم لوالدية أكثر توازناً فهي كالتالي:

أولاً، عليكم أن تتخلوا عن الحاجة إلى توفير الحماية الدائمة للطفل، لأن ذلك قد يضعفه ويفقده القدرة على التعامل مع التحديات بنفسه. عليكم أن تتذكروا أن مواجهة التحديات المعقولة (غير الكبيرة جدًا) هي حجر الأساس ببناء ثقة الطفل بنفسه. مثلاً، الطفل الذي يسقط (ولا يتأذّى كثيرًا) عندما يقف لوحده ويكمل لعبه سيشعر بقدرة كبيرة، بينما الطفل الذي يتلقى المساعدة الدائمة حتى عندما لا يكون بحاجة لذلك، فلن يكتشف القدرات الكامنة في داخله ولن يعرف أساسا أنها موجودة، وسوف يتكل على والديه أيضا في مراحل متقدمة من حياته.

ثانياً، عليكم أن تتذكروا أن الأطفال خُلقوا وهم مزودون بقوى نفسية رائعة وظيفتها مساعدتهم على مواجهة وتحمل مصاعب الحياة وتحدياتها. كقوة التأقلم، التفاؤل، الأمل، الانسياب، المشاركة، المساعدة، التخلي عما لا نحتاجه، المداومة، الاستمرارية وسماع كلمة لا.

ثالثاً، من المهم ألا نشعر بالضعف أمام الطفل، وألا نشفق عليه لأنه من المؤكد أنه سيشعر بما نشعر به نحن وقد يستغل نقطة الضعف تلك لصالحه، أحياناً.

رابعاً والأهم، أن نبني علاقة عاطفية قريبة من أبنائنا، فنكون مصدر أمان بالنسبة لهم، ونكون عنوانهم الأول عند مواجهتهم أية صعوبة، لكن مع الحفاظ على الثبات وعلى أننا أيضا الوالدان البالغان اللذان سيرافقان الطفل في مساره. وعندما يضع نفسه في خطر، أو يتصرف بطريقة غير مقبولة سنوجهه بلطف أحياناً وبحزم أحيانا أخرى، بل ربما ببعض القسوة. لا تخافوا من كلمة قسوة، فمن الناحية النفسية، الطفل قد يحتاج إلى بعض منها كي يتطور صوت الضمير في داخله، وكي يعرف المسموح من الممنوع، وكي يتماشى مع قيم وأخلاقيات مجتمعه.

خامساً، أن نثق بأبنائنا وأن نحاول أن نتكلم معهم بإيجابية قدر المستطاع، وإذا رأينا أننا غير قادرين على فعل ذلك، أن نتوجه لاستشارة مهنية.

وأخيراً أن نتذكر أن الوالدية من أصعب المهمات التي قد نقوم بها في حياتنا، ولكن وجودنا بجانب أبنائنا ومرافقتنا لهم يعطيان معنى خاصاً لوجودنا وحياتنا، وأن الوالدية ككل شيء في هذه الدنيا، ثمة فيها لحظاتها الجميلة ولحظاتها المليئة بالتحديات، وهكذا ستبقى، علينا فقط التحلي بالصبر ومحاولة التركيز على اللحظات الجميلة وأن نتذكر أن اطفالنا سيكبرون في يوم ما ويحلّقون بعيداً عن العش، فإنما هي عشرون عاماً أو أكثر قليلاً سنرافقهم بشكل مكثف، وبعدها سيكملون دربهم لوحدهم، على أمل أن تسمح لهم والديتنا المتوازنة بأن يعودوا إلينا فقط عند حاجتهم إلى تعبئة طاقاتهم. وتذكروا أن الوالدية الجيدة بعيدة جداً عن المثالية، هي فقط والدية جيدة بما فيه الكفاية (تذكروا أن علامة كافٍ في الشهادة هي 60 أو 65 وما فوق) ليس أكثر. 

وفي النهاية، أريد أن أذكركم بمقولة جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة"، لا تتعلقوا بهم زيادة عن اللزوم ولا تهملوهم. خير الأمور الوسط.

رباب المن

أخصائية نفسية - معالجة، مختصة بعلاج الأطفال، المراهقين والبالغين وإرشاد الأهل

شاركونا رأيكن.م