الطُّفولة بَعدَ غزّة: صَدْمة عَدَم الوِلادَة

"أُريد أن أتحدّث مع الولَد الذي لَم يولَد

الولَد الذي لم يولَد أبوه ولم تولَد أمّه

الولَد بموته الفلسطينيّ العابر للأجيال والحُروب

الولَد الذي بِلا ميلاد وبِلا بلاد

سأَحضُنُه وأَبكي  معه طويلًا  

 سأَحكي لَه قصّةً عن حياته العالِقة عند الحاجز العسكريّ للعَدَم:

سأَقول له، بِحَدس الآباء والبحّارة القُدَماء:

"كانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وروحُك يَرِفُّ علَى وَجْهِ الْمِيَاهِ"

في غزّة لا تتعب الحربُ من انتصارِها على الأطفال ومِن تهجير طفولتهِم إلى العَدَم. ينتظر الجِنرال ساعةَ حسمٍ مشتهاة لكي يُعلِنَ أنّ الطفولةَ، ككلّ أشكال الحياة الفلسطينيّة الأخرى، قد هُزمت تمامًا، وأن البراءَة اندحرَت ولم يتبقَّ إلاّ بعضُ فلولٍ من حُبٍّ يقاوم قبل أن يبسُطَ الشرُّ المطلَق سيطرتَه على العالم، ويتسلّم العماءُ مقاليد الحُكم. هي سنوات قليلة وتفقد الإنسانيّة بصرَها، قد يُضيف المثقّف المُحبَط، ومن المستَبَعد أن تستعيدَه في المستقبل المَنظور. 

في ديستوبيا غّزة لا مكان للطّفولة. يُقذفُ الأطفالُ إلى عالمٍ مِن رعب وركام. عالَم مهدّم غير صالح للسّكن أو للتنفّس. كلّ شيء ممزّقٌ، كلّ شيء ينزف، كلّ شيءٍ أشلاء. أشلاء جَسَد. أشلاء نَفس. أشلاء حياة. اعتبرت اليونيسف في ديسمبر/كانون الأول 2024 قطاعَ غزّة أخطرَ مكانٍ للأطفال في العالَم. جحيم على الأرض من صُنع آلة حرب ثأريّة لا تهدَأ ولا تَنام.

يُقتل الأطفال في غزّة بأَعداد مُذهلة، وتُبتر أعضاؤهم، وتشوّه ملامحُهم، وتُمحى عائلاتُهم وبيوتُهم، وتُسحق إنسانيّتُهم ويُتركون في عراء العالم فريسةً للجوع و العطش والبرد والمرض. أحداقُهم وأعماقُهم يحتلُّها الخوف. قلوبُهم نَهْبٌ للخواء الصدميّ. تَختزِل الآلة الاستعماريّة حياة الأطفال، إذا قُدّر لهم أن يولدوا،  إلى نشاط بيولوجيٍّ مَحض هو قاموٌس لا نهائيّ للألم في مفرداته الأشدّ قسوةً. سِجِلّ مُستحدث لصدماتٍ غائرة في الجَسد وفي النفس لم يرصدْها علم النفس أو التحليل النفسيّ بعد. ولكن يمكنُنا منذ الآن أن نضيفَ إلى هذا السجلّ المروّع صدمةً هي ربّما أشدّ الصّدمات هولًا وتعذّرًا على الوصْف والفهم والعلاج: "صدْمة عَدَم الوِلادَة". صدمَة الحياة التي سَلَبَتها الحَرب حقّ العبور إلى حياتِها. صدمة أن تكونَ نُطفةً أو جنينًا للأبد لأنّ ولادَتَك تعكّر نشوة "الانتصار المُطْلق". عندما تفشل آلة الحرب في الحيلولة دون خروج الأطفال إلى نور العالم الملوّث بالدّم والموت والغبار، تتفنّن في منعهم من الولادة كمشروع حريّة أو كإرادة حياة. كيف يُمكن لحياة إنسانيّة أن تولَد عندما لا يسمع العالم نداءَها؟ وكيف لذاتٍ طفلةٍ أن تتشكلّ وتتلمّس طريقها في العتمة وحيدةً دون أن يحتضن العالم صَرْخَتها، ويمنحها اسمًا وحبًّا وشوقًا وكلمات؟ كيف تنجو الطفولة من المَوت المتربّص بها منذ اللحظة الأولى، ومنذ ومضة الحياة الأولى، المنقضّ عليها حتى في حاضنات الأطفال، حيث تَموت قبل أن تنتبه أنّها حيّة، لأن طائرةً حربيّةً أو قذيفةً دقيقةَ الحِقد قَطَعت عنها الهواء والكهرباء. والّسماء؟

قد يكون في الحديث حصرًا عن الأطفال في الحرب قدرٌ من إنكار لهمجيّتها التي لا تستثني أحدًا، نساء ورجالًا، شبابًا وكهولًا وشيوخًا،  فالموت يحاصر الإنسان الفلسطينيّ في كلّ مراحل حياتِهِ أو تدابير عيشِه المؤجّل. لكنّهُ حَديثٌ يستحضر جحيم الطفولة الفلسطينيّة في غزّة شاهدًا على الطبيعة المتوحّشة للمنظومة الاستعماريّة وعلى انفلاتها المُفزِع من أيّ عِقالٍ أخلاقيّ، وعلى غريزَة المَوت التي تغلي فيها كبركان وغالبًا ما تستحيل شهوةَ تدميرٍ وإبادة.

لا تعكِف الإيديولوجيا الاستعماريّة المضطربة على رسم الحدود الجغرافية للعالم وفق أهوائها وأمزجتها الاكتئابيّة الهوسيّة فحسب، بل تَعمل على إخضاع الوجود الإنسانيّ برمّته لجنونها العنصريّ. قيم كالحياة والإنسانيةّ الطفولة تهوي من عليائها بصمت مدوٍّ وتغدو معانيها حُطامًا وهباءً منثورًا.

في غزّة يتبخّر عالَم كامل من المفاهيم التي شكلّت فكرة الطفولة في القرنين الأخيرين. تنتهي الطفولة كحياة إنسانية جديرة بالحياة والحبّ والحماية والاعتراف. تنتهي الطفولة وتبدأ الصحراء. يتصحّر القلب الذي يضخّ الدّم الجديد في جسد العالم المريض. عالم ذُهانيّ بلا أب أو رقيب يتدهور بأعين مغلقةٍ على اتّساعها إلى تلذذّه المميت وخرابِه العميم.

أن نتساءل حول مصير الطفولة بعد غزّة، يعني أن نتساءَل حول مصير العالم بعد غزّة؟

هل هي النّهاية؟

هل مِن شفاء؟  

نحتاج لغةً جديدةً لكي نحكي بها عن عذابات الأطفال في غزّة ونعالج جراحهم وأوجاعهم ونضم إلى أرواحنا أسماءَهم ووجوههم وخساراتهم وفقداناتهم وموتهم وحياتهم، ولكي نبتكر من الرماد أملًا ونارًا تضيء لهم.

ولكن علينا قبل كلّ شيء أن نسمح لصور موتهم العنيف أن تُطاردنا دون هوادة ودون رحمة، ولدمائهم أن تَجْرحَنا، ولدموعهم أن تتفجّر من عيوننا، ولعذاباتهم أن تقضّ مضاجعَنا ولنظراتهم أن تحفر ذاكراتنا.

نحتاج ذاكرةً عنيدة والكثير من الحبّ التحررّي الذي يقاوم اللاّ أَنسَنة والنّسيان. حبّ يعانق الطفولة الفلسلطينيّة المكلومة، يُعيد لها إنسانيّتها الكاملة، يرمّم انهياراتها ويشقّ لها في ليل المذبحة الطويل فجر حياة.

وبعدها ستمدّ الطفولة الفلسطينيّة يدًا صناعيّة ذكيّة إلى العالم وتنتشلُه من العدَم.


الصورة: للمصوّر - الصحفي عبد الرحمن زقوت.

د. مصطفى قصقصي

اختصاصيّ نفسيّ عياديّ وشاعِر

رأيك يهمنا